الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعد هذا التعليق البسيط أعطى حلًّا للمعضلة السابقة وقال: "إن القرآن وتعاليم الرسول لم يمنع المسلمين من التطور الروحاني ومن حرية الإرادة ولم يمنع من ينادي بالجدّة في الحياة السياسية والحضارية والأخلاقية والعقلية" اهـ
(1)
.
ثم استحسن كل المحاولات الروحانية والحضارية ورغب في ذلك بذكر بعض الآيات القرآنية مثلا: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} ثم ذكر حديث تأبير النخل: أنتم أعلم بأمور دنياكم" اهـ بعد ذلك قال: "إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجمع بين الدين والدولة، وقول العرب "الملك والدين توءمان" قول باطل، وظنهم بأن أفعال الرسول وأقوله (القرآن والحديث) فيهما كفاية لأمور السياسة والملك والمدنية والأخلاق ظن غير صحيح
(2)
.
وقد اتضحت الشبهة بعد هذا التحليل وهي: أن القرآن لا يشتمل ما يحتاج إليه كافة البشر إلى يوم القيامة.
تفنيد الشبهة:
شبهة عدم شمول القرآن على ما يحتاج إليه البشر إلى يوم القيامة:
فنرد على هذه الفرية من وجوه:
أولا: قد سلك جراغ علي وأمير علي منهج المستشرقين أمثال "جولدتسيهر" و "شاخت" و "بول" و "كولسن" في بيان تاريخ التشريع الإسلامي، وهو المنهج التطوري والمنهج الإسقاطي معا، لما أن الديانات الأخرى مثل اليهودية والنصرانية المحرفتين والهندوسية لم توجد مرة واحدة، إنما وجدت في بدايتها كفكرة ضئيلة ثم تطورت حسب تقدم البشرية واحتياجاتها ورغباتها، حتى أصبحت ديانات بشرية
(1)
أعظم الكلام لجراغ علي: 1/ 33.
(2)
ينظر المرجع السابق: 33 - 34.
خالصة، فكذلك القرآن كان ناقصا غير شامل لمقتضيات الحياة فاحتاج المسلمون إلى إيجاد السنة ثم إلى الإجماع ثم إلى القياس.
ولا شك أن هذا الكلام وإن كان صحيحا مع الديانات الأخرى، فإنه خطأ منهجي مع الإسلام، لأن الإسلام لم يكتمل في مجرى التطور كما هو شأن الأديان الباطلة، إنما هو اكتمل في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}
(1)
.
وأما التطور الذي حدث في التشريع الإسلامي هو شرح وتوضيح لما ورد في القرآن والسنة.
ثانيا: إن القرآن شامل لكل ما يحتاج إليه الإنسان إلى قيام الساعة من عقيدة وأحكام دينية وسياسية واجتماعية واقتصادية وقانونية، وإن القرآن في حجمه الصغير قد أعطى خطوطا عريضة لكل ما يحتاجه إليه الإنسان، وهو كلام الله المعجز الخالد المهيمن ولم يفرط فيه من شيء، قال الله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} .
وقد وضع بعض العلماء الآيات القرآنية في موضوعات يحتاج إليها الإنسان، لم يخل حَقل من حقول هذه الموضوعات إلّا وفيها حكم من أحكام الله قد ذكر في القرآن، وأحسن تأليف في هذا الموضوع:"تقابل ثلاثة (توراة- إنجيل- قرآن" للشيخ ثناء الله الأمرتسري
(2)
، وقد قسم الشيخ حاجيات الإنسان إلى موضوعات تالية: إثبات واجب الوجود، ودعوى التوحيد ودلائله، أسماء الله وصفاته، أحكام العبادة الشرعية، الأخلاق العامة، تدبير المنزل، القوانين العسكرية والسياسية، أحكام القتال، أحكام الصلح، أحكام القيامة، طريق النجاة.
وقد أثبت الشيخ في هذا المؤلف شمولية القرآن وهدايته في كل مجال، وقارن بينه وبين التوراة والإنجيل فبين نقص الكتب السابقة وحاجتها إلى القرآن.
(1)
سورة المائدة: 30.
(2)
طبعته ونشرته مكتبة مولانا ثناء الله الأمرتسري دلهي الهند، 1987 م، وهو كتاب قيم يجدر العناية به في الدراسات المقارنة.
ثالثا: وأصل الخطأ قد جاء عند هؤلاء المستغربين لتفريقهم بين القرآن والسنة، إذ أن السنة جاءت شرعًا وبيانًا لما ورد في القرآن من أحكام مجملة، قال تعالى:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}
(1)
فمن أراد الإسلام بدون سُنّةٍ فقد ضل، وعاب الإسلام، واتهم القرآن بأنه ناقص.
والنصوص في ذلك كثيرة جدًا قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}
(2)
والرسول صلى الله عليه وسلم قد يأمر بشيء وقد ينهى عن شيء قد لا تجد ذكره في كتاب الله، ولكن الصحابة اعتبروه من كتاب الله مستدلين بالآية السابقة.
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لعن الله الواشمات والمستوشمات والمنتصمات والمنفلجات للحسن المغيرات خلق الله عز وجل، قال: فبلغ امرأة من بني أسد في البيت يقال لها أم يعقوب، فجاءت إليه فقالت: بلغني أنك قلت كيت وكيت قال مالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله تعالى، فقالت إني لأقرأ ما بين لوحيه فما وجدته، فقال إن كنت قرأته فقد وجدتيه أما قرأت: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} قالت بلى: قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه" اهـ
(3)
.
رابعا: والقاعدة التي تقررت من منهج أهل السنة والجماعة هو الإيمان باشتمال الكتاب والسنة على أصول الدين وأمور الدنيا، قال ابن القيم رحمه الله: إن النصوص (الكتاب والسنة) محيطة بأحكام الحوادث لم يُحِلْنا الله ورسوله على رأي ولا قياس، بل بين الأحكام كلها والنصوص كافية وافية
(4)
.
(1)
سورة النحل: 44.
(2)
سورة الحشر: 7.
(3)
رواه أحمد: 1/ 417.
(4)
أعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم: 1/ 254.