الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفلاسفة بعضهم بالبعض ظن المستشرق أن كل حضارة إنما تنسج على المنوال الغربي
(1)
.
إذن خطأ هذا المنهج عندما يستخدمه المستشرق هو تفريغ الثقافة المدروسة من مضمونها وإرجاع الداخل إلى الخارج، والقضاء على حدتها وإبداعها وهو خطأ ناتج عن تصور العلاقة بين الثقافات على أنها آحادية الطرف الأولى معطية مفتحة مبدعة وهي الأوربية. والثانية مستقبلة مجدبة فارغة خاوية وهي الثقافة غير الأوربية
(2)
.
ومن أخطاء هذا المنهج الاستشراقي أنه طبق على العقيدة الإسلامية بدون آي منطق سابق لمفهوم الأثر والتأثر، فكلما وجد اتصال بين الحضارة الإسلامية وغيرها من الحضارات قيل أن اللاحقة تأثرت من السابقة، وكلما وجد تشابه بينهما وبين الأفكار الإنسانية الأخرى مهما كان هذا التشابه كاذبًا غير حقيقي لفظيًا غير معنوي.
قيل أن هناك أثر وتأثر، ومن ثم أصدروا أحكامًا تعسفية على العقيدة الإسلامية وحضارتها، فقالوا عن علم أصول الفقه أنه أثر من آثار المنطق اليوناني أو القانون الروماني وعن علم أصول الدين أنه مستمد من الفلسفة اليونانية وغيرها من الأحكام
(3)
.
والمنطق الصحيح لمنهج الأثر والتأثر:
أولًا: التشابه المجرد لا يجبرنا على القول: بأن اللاحق أخذ من السابق لأن التشابه قد يكون في اللفظ دون المعنى، والمثال في ذلك التوحيد لفظ مشترك بين الديانات السماوية ولكن شتان بين التوحيد الإسلامي الخالص وبين التوحيد التجسيمي عند اليهود والتوحيد التثليثي عند النصارى.
(1)
ينظر التراث والتجديد لـ د. حسن حنفي 80.
(2)
ينظر المرجع السابق في الصفحة نفسها.
(3)
ينظر الظاهرة الاستشراقية لـ د. ساسي الحاج 1/ 203.
ثانيًا: التشابه الكامل في اللفظ والمعنى أيضًا لا يدل على القول بأن اللاحق أخذ من السابق حتى يثبت الاتصال المباشر أو غير مباشر بين الحضارتين، لأن التشابه قد يكون في اللغة دون المعنى، وفي هذه الحالة لا يكون أثرًا بل هو استعارة لأن الألفاظ مشاعة بين الناس يتداولونها. وإذا حدث التشابه في المضمون فذلك أيضًا لا يمكن تسميته أثرًا وتأثرًا دون تحديد معنى الأثر لأن إمكانية التأثر من اللاحق بالسابق موجودة أي أن الشيء نفسه موجود ضمنًا في الظاهرة، وما كانت الظاهرة السابقة إلا مثيرًا أو مقويًا ووجود الباعث والمثير لا يعني وجود الشيء نفسه
(1)
.
إضافة إلى ما مضى من إمكانية وجود التشابه الذي هو ليس من نتيجة الأثر والتأثر. هناك حقيقة ثابتة تغيب عن أذهان كثير من المستشرقين وقد يتجاهلها بعض الكتاب المسلمين، وهي أن الدين منذ أن خلق الله آدم إلى أن جاء خاتم الأنبياء والرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دين واحد، وهو الإسلام، قال الله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}
(2)
(3)
.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم "الأنبياء إخوة علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد" اهـ
(4)
.
لم يأت في الدنيا خير إلا بواسطة هؤلاء الأنبياء الكرام، ومهما اختلفت شرائعهم فدينهم واحد وهو الإسلام، فالخير أينما وجد فهو من الإسلام وليس الإسلام منه، ما من خير إلا هو أثر من آثار الإسلام، فالإسلام مؤثر وليس متأثر. وجاءت الشريعة المحمدية
(1)
ينظر التراث والتجديد لـ د. حسن حنفي 78 - 80.
(2)
سورة آل عمران: 19.
(3)
سورة الشورى: 13.
(4)
صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل عيسى عليه السلام 8/ 128 (2365).
خاتمة ومهيمنة على جميع الشرائع السابقة وناسخة لها ومستوعبة كل خيراتها، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}
(1)
وقال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}
(2)
.
هذه هي أهم المناهج الرئيسة التي طبقها المستشرقون على دراسة العقيدة الإسلامية وحضارتها، وقد لاحظنا فيما سبق أن المناهج السابقة كانت قد وجدت مستقيمة مثمرة عند علمائنا الأقدمين ثم أخذها المستشرقون متأثرين بخلفياتهم وانطباعاتهم المسبقة، وحولوها لتكون صالحة للقضاء على الظاهرة الإسلامية قضاء مبرمًا.
فيقوم المنهج التاريخي بمهمة الفصم بين مصدر الظاهرة -وهو الكتاب والسنة- وبين الظاهرة نفسها مرجعًا إياها إلى مصدر تاريخي محض، ثم يقوم المنهج التحليلي بمهمة تفتيت الظاهرة الفكرية إلى عناصر وعوامل مادية لتكون بديلة عنها، ثم يقوم المنهج الإسقاطي بمهمة تفسير الظاهرة ابتداء من الصور الذهنية المماثلة أو المخالفة والتي ليس لها إلا وجود ذهني خالص في نفس المستشرق، ويقوم أخيرًا منهج الأثر والتأثر بالمهمة الباقية وهي القضاء التام على ما تبقى من الظاهرة مفرغًا إياها من مضمونها، ومرجعًا إياها إلى مصادر خارجية في بيئات أخرى، وهذا في زعمهم ولكن الله متم نور ولو كره الكافرون
(3)
.
هذا وهناك أمور تلاحظ في تطبيقات غالبية المستشرقين، وهي تشكل أحيانًا مناهج مستقلة، وإذا اعتبرنا المناهج السابقة مناهج رئيسية، فهذه الأمور الآتية مناهج فرعية داخلة فيما سبق من المناهج.
(1)
سورة المائدة: 48.
(2)
سورة الأنعام: 38.
(3)
ينظر التراث والتجديد لـ د. حسن حنفي ص: 78.