الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفنيد الشبهة
تفنيد شبهة إنكار عالم الجن والشياطين:
ويمكن الرد على الزعم السابق من وجوه:
أولًا: أكبر دليل استند إليه السيد هو استخدام لفظة الجن عند العرب الجاهلين على الإنس، ومن الأشعار التي نقلها في هذا قول الأخفش:
"أتوا ناري فقلت منونَ أنتم
…
فقالوا: الجنُّ فقلت عِموا ظلاما
فقلت: إلى الطعام فقال منهم
…
زعيم نحسد الإنس الطعاما"
وقول ورقة بن نوفَل في خزانة الأدب
(1)
:
"ولا سليمان إذ دان الشعوب له
…
الجن والإنس تجري بينهما البرد"
وقال نابغة الذبياني في ديوانه:
"لقد قلت لنعمان يومًا لقيته
…
يريد بني جن ببرق صادر
تجنب بني جن فإن لقائهم
…
كريه وإن لم تلق إلا بصابر"
(2)
.
والقارئ يفهم جيدًا أن في الأشعار السابقة لا يوجد أدنى إشارة إلى أن لفظة الجن أنها أطلقت على الإنس الذي سكن الجبال بل العبارات واضحة على أن الجن أطلق على مخلوق يقابل الإنس، ولكن السيد قد حرّف وشرح هذه الأشعار لتكون دليلًا إلى ما ذهب إليه.
اللهم إلا قول النابغة الذبياني "بني الجن" إذا أطلق على بني الإنس، فهذا مجرد اسم وإن سموا به نظرًا لصلابتهم في الحرب أو لاستتارهم في الجبال، ولا يستلزم من
(1)
هكذا ذكره السيدن والصواب أن يقال هذا بيت لورقة بن نوفل أورده صاحب خزانة الأدب (ينظر خزانة الأدب ولب لباب العرب لعبد القادر بن عمر البغدادي تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة: 3/ 389).
(2)
تفسير الجان للسيد: 12 - 14.
ذلك انعدام عالم الجن بسب التسمية به الإنسان، كما لا ينعدم عالم الأسد إذا وصف رجل شجاع بالأسد.
ثانيًا: فُطِرَ الناس على أن في العالم خلقًا آخر غير الإنسان يعرفونه بآثاره، ولا يرون أشباحه ولا يعرفون حقيقته، وقد صرحت بذلك جميع الكتب السماوية بعبارات واضحة لا تحتمل التأويل كما صرحت بالعناوين الخاصة بهذا الخلق، فذكرت "الملائكة" وذكرت "الجن" على أنهم نوع مقابل للإنسان بدرجات تحت عنوان الثقلين .... إذن فليس في وجود الجن شك وليس في تحميلهم شرائع الله ورسالته شك، وليس في مسؤولياتهم ومؤاخذاتهم بالتقصير شك وليس في استعدادهم لاستماع القرآن وتلقيه وفهمه وتدبره والتأثر به شك، فكل هذا حق لا ريب فيه ومن لم يؤمن به فليس بمؤمن بالقرآن ولا برسالة السماء وإن محاولة تأويل شيء منه تحريف للكلم عن مواضعه، وسلخ للألفاظ عن معانيه وضيق عطن من المولعين بإنكار ما لا يدركه الحس
(1)
.
ثالثًا: إن عالم الجن كعالم الملائكة من المغيبات التي أمرنا الله بالإيمان بها، ولم يكلف رحمة بنا أن نروي من أخبارها وأطوارها مما ذكره الوحي لنا فلنعقل منه ما نعقل، ولنكل أمر ما لا نعقل إلى الله عز وجل، ولا نتنازل عن ديننا وعقيدتنا بحرف أمام تحديات المستشرقين والمستغربين الماديين المحجوبين الذين ينكرون كل شيء غاب عن حواسهم، فنقول لهم: إن قوى وجود روحانية وعوالم غيبية وإن استترت عن حواسنا بأعينها، وقد تجلت لنفوسنا بآثارها، وما تواتر من أخبارها أمر محقق لا ريب فيه، ولنضرب لها مثلًا: كثير من القوات الطبيعية كانت مجهولة للبشر منذ أزمنة التاريخ كالكهربائية التي ظهرت كثير من عجائبها في هذا الزمن، والميكروبات التي ظهرت في علم الطب حقيقتها وتأثيرها في سبب الأدواء والأمراض في هذا الزمن قد صُدقت بها، وإذا كنا لا نصدق إلا ما نشعر به بحواسنا، فهذه
(1)
ينظر كتاب: إلى القرآن الكريم لمحمود شلتوت دار الشروق ص: 156.
أرواحنا التي في أبداننا لا نراها ولا نسمعها ولا نشمها ولا نذوقها ولا نلمسها ولكننا نؤمن بوجودها ونعترف بعالمها
…
(1)
.
خلاصة القول: إن الله سبحانه وتعالى خلق هذه الخلائق على نوعين:
1 -
ما يكون متناسلًا: وهم الجن والإنس.
2 -
ما لا يكون متناسلًا: وهم الملائكة.
خلق الملائكة جميعًا بعددهم لأنهم غير متناسلين أولًا، ثم خلق إبليس قبل آدم عليه السلام كقوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ}
(2)
.
وبخلق الإنسان تمت أنواع المخلوقات الثلاثة، فكرمه الله تعالى بسجود المخلوقات السابقة له ملائكة وجانًا، ولم يكن من الجن حينئذ إلا إبليس فكان الأمر موجها للملائكة تغليبًا وشمل إبليس لوجوده معهم وليس منهم ولذا استثني منهم عند معصيته وبين جنسه كقوله تعالى:{فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}
(3)
.
فبقي الملائكة في السماء لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ونزل الإنس والجن يمثل الأول آدم عليه السلام ويمثل الجنس الثاني إبليس لعنة الله عليه، أنزل الجنسان إلى الأرض حيث تقع الطاعة وحيث تقع المعصية.
فكان من ذرية آدم عليه السلام طائعون موحدون، وكان منهم عصاة وفاسقون وكان من ذرية إبليس لعنه الله موحدون من الجن وعصاة. ولم تقع المعصية من الصنف الأول ووقعت المعصية من الصنفين الآخرين فكان منهما شياطين
(4)
.
(1)
ينظر تفسير جزء تبارك لعبد القادر المغربي، كتاب الشعب مصور عن طبعة المطبعة الأميرية عام 1366 هـ، ينظر تفسير المنار لمحمد رشيد رضا 7/ 319 ط / 4 دار المنار بمصر 1373 هـ 1954 مص:67.
(2)
سورة الحجر: 26 - 27.
(3)
سورة الكهف: 50.
(4)
ينظر منهج المدرسة الحديثة في التفسير للرومي: 647 - 649.