الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة: الاستياك في صوم الفريضة
.
اختيار الشيخ: اختار جواز الاستياك جميع اليوم بالعود الرطب واليابس في الفرض والنفل فقال: "والحديث يدل بعمومه على جواز الاستياك للصائم مطلقا، سواء كان الاستياك بالسواك الرطب أو اليابس. وسواء كان صائما فرضا أو تطوعا، وسواء كان في أول النهار أو في آخره"(1).
ثم ختم مرجحا فقال: "وقد ظهر بما ذكرنا أن القول الراجح المعول عليه هو ما ذهب إليه أبو حنيفة ومن وافقه"(2).
تحرير المسألة: قد مر معنا الكلام عن الاستياك بعد الزوال، والاستياك بالعود الرطب، ومر خلاف العلماء في ذلك.
ومما اختلفوا فيه أيضا: تفريقهم بين الاستياك في صوم الفرض وصوم النفل، وإن كان الخلاف الحاصل في هذه المسألة ضعيفا، ولكن بما أن الشيخ نص على عدم التفريق بين الفرض والنفل أحببت أن أذكرها بإيجاز، والخلاف في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: لا فرق بين صوم الفرض وصوم النفل في الاستياك، كل على مذهبه الذي ذكر في المسألتين السابقتين.
وهو قول: الحنفية (3) ، والمالكية (4) ، والشافعية (5) ، والحنابلة (6)، والظاهرية (7)، وهو اختيار الشيخ.
(1) مرعاة المفاتيح 6/ 517. أي حديث عامر بن ربيعة سبق ص 282.
(2)
مرعاة المفاتيح 6/ 520 - 521.
(3)
البناية 4/ 73، البحر الرائق 2/ 302، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 681، تبيين الحقائق 1/ 332. وعندهم: يجوز جميع اليوم، رطبا كان السواك أو يابسا.
(4)
الرسالة ص 60، الاستذكار 3/ 378، المنتقى 2/ 75، الثمر الداني 1/ 298. وعندهم: يجيزونه جميع اليوم بالعود اليابس.
(5)
روضة الطالبين 2/ 368، فتح القريب المجيب ص 30، المنهاج القويم 20، مغني المحتاج 1/ 184، تحفة الحبيب 1/ 121. وعندهم: يجيزونه بالعود الرطب إلى الزوال.
(6)
الكافي 1/ 53، المغني 1/ 72، حاشية اللبدي على نيل المآرب 1/ 17، المبدع 1/ 78. وعندهم: في المذهب يجيزونه بالعود اليابس إلى الزوال. وفي رواية يجيزونه جميع اليوم بالعود الرطب.
(7)
المحلى 4/ 336، ومذهبهم كمذهب الحنفية.
القول الثاني: التفريق بين الفرض والنفل؛ فيجوز في النفل طوال اليوم ويُكره في الفرض بعد الزوال.
وهو وجه عند: الشافعية، قال به: القاضي حسين (1)(2)، ورواية عند: الحنابلة (3).
أدلة القول الأول: القائلين بأنه لا فرق بين صوم الفرض وصوم النفل في الاستياك كل على مذهبه الذي ذكر في المسألتين السابقتين (4).
الأدلة هي نفسها التي سيقت في المسألتين السابقتين (5).
وجه الاستدلال: أنه لا فرق بين أن يكون الصيام فرضا أو نفلا فالنصوص جاءت عامة في الأوقات والأحوال فتكون عامة أيضا في أنواع الصيام.
قال النووي: "ولا فرق بين صوم النفل والفرض"(6).
وقال البهوتي (7): "فيكره (أي السواك) فرضا كان الصوم أو نفلا"(8).
وقال العيني بعد أن ذكر من فَرّق بين الاستياك في صوم الفرض وصوم النفل: "وعندنا لا بأس في الأحوال كلها"(9).
(1) هو: حسين بن محمد بن أحمد، أبو علي القاضي المَرورُّوذي، من كبار أصحاب القفال، كان غواصًا في الدقائق، وكان يلقب بحبر الأئمة، وهو شيخ الجويني المشهور بإمام الحرمين، توفي سنة 462 هـ، من تصانيفه: التعليقة في الفقه. ينظر: طبقات الشافعية الكبرى 4/ 356، طبقات الشافعيين ص 443، تاريخ الإسلام 10/ 163، الأعلام 2/ 254.
(2)
فتح العزيز 6/ 423، المجموع 6/ 377، كفاية الأخيار ص 21، طرح التثريب 4/ 98.
(3)
الفروع مع تصحيح الفروع 1/ 147، الإنصاف 1/ 117.
(4)
ينظر: صفحة (280 - 289).
(5)
ينظر: صفحة (281 - 293).
(6)
المجموع 6/ 377.
(7)
هو: أبو السعادات منصور بن يونس بن صلاح الدين البُهُوتي الحنبلي المصري. كان شيخ الحنابلة بمصر، فقيه محقق، أخذ عن: ابن الحجاوي، والمرداوي، وغيرهما، وعنه: مرعي بن يوسف، والفتوحي، وخلق. من مؤلفاته: كشاف القناع عن الإقناع، والروض المربع شرح زاد المستقنع. توفي سنة 1051 هـ. ينظر: المدخل لابن بدران ص 440، معجم المؤلفين 13/ 22، والأعلام 7/ 307.
(8)
الروض المربع ص 24.
(9)
البناية شرح الهداية 4/ 73.
أدلة القول الثاني: القائلين بالتفريق بين الفرض والنفل؛ فيجوز في النفل طوال اليوم ويكره في الفرض بعد الزوال.
الدليل الأول: عن أبي هريرة ¢ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به» (1).
وجه الاستدلال: أن الله عز وجل في هذا (الحديث القدسي)(2) قد خص الصوم بقوله: «لي» ، وإن كانت أعمال البر المخلصة كلها له تعالى؛ لأجل أن الصوم لا يمكن فيه الرياء، كما يمكن في غيره من الأعمال (3).
فإذا كان هذا هو مطلوب الشارع، فإزالة الخلوف بالاستياك يكون مشروعا في النفل؛ لأجل أن لا يُظهِر الصائم صيامه. وإنما قصرناه على النفل؛ لأن وجود الرياء في الفرض غير متصور؛ إذ الجميع متلبسون بالصيام، فلا وجه لحصول الرياء فيه.
الدليل الثاني: ولأن المستحب في النوافل الإخفاء، فلو ترك الصائم الاستياك، لم يُؤمَن أن تظهر رائحة الخُلوف من فيه، فيظهر للناس أنه صائم، فاستحِبَّ له إزالة تلك الرائحة بالاستياك؛ ليكون أبعد عن الرياء (4).
الترجيح: الذي يترجح -إن شاء الله- في هذه المسألة هو القول الأول: أنه لا فرق بين صيام الفرض وصيام النفل؛ لعدم وجود دليل يفرق بينهما.
وأما قول أصحاب القول الثاني: إن إزالة الخُلوف بالاستياك يكون مشروعا في النفل؛ لأجل أن لا يُظهر الصائم صيامه، -وهذا بالطبع عند من يرون كراهة إزالة الخُلوف بعد الزوال-؛ فيجاب عنهم:
(1) رواه البخاري 3/ 26 رقم 1904، كتاب الصوم، باب هل يقول إني صائم إذا شتم، ومسلم 2/ 806 رقم 1151، كتاب الصيام، باب فضل الصيام.
(2)
الحديث القدسي: القُدْسي لغة: نسبة إلى القدس أي الطهر. اصطلاحا: هو ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع إسناده إياه إلى ربه عز وجل. ينظر: لسان العرب 10/ 396، تيسير مصطلح الحديث ص 158.
(3)
ينظر: إكمال المعلم 4/ 110.
(4)
ينظر: فتح العزيز بشرح الوجيز 6/ 423، وروضة الطالبين 2/ 368.
أن هذا التفريق لا دليل عليه من الشرع، ثم كيف تستحبون للصائم فِعل ما ترونه مكروها- وهو إزالة الخُلوف-، مِن أجل مصلحة مظنونة بل مُتَوهمة؟ ! .
وأما قولهم: إن المستحب في النوافل الإخفاء، فيجاب عنه:
أن هذا يقال في العبادات الظاهرة: كالصلاة، والزكاة، وقراءة القرآن. أما الصيام فلا وجه فيه للرياء حتى يخفيه صاحبه، وإنما الصائم هو من يخبر عن نفسه بأنه صائم أم لا (1). والله أعلم.
(1) ينظر: أعلام الحديث للخطابي 2/ 940 - 941، والمُعْلِم بفوائد مسلم 2/ 61.
المطلب السادس: حكم الاكتحال (1) للصائم.
اختيار الشيخ: اختار جواز الاكتحال للصائم بلا كراهة، فقال في ذلك:"فالراجح هو القول بالجواز من غير كراهة"(2).
تحرير محل الخلاف: أجمع العلماء على أنه يجب على الصائم الإمساك زمان الصوم عن المطعوم والمشروب والجماع (3)؛ لقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (4).
واختلفوا في حكم الكحل للصائم على قولين:
القول الأول: أن الاكتحال يجوز للصائم بلا كراهة.
وبه قال: الحنفية (5) ، والشافعية (6)، والظاهرية (7)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: أن من اكتحل وهو صائم أفطر.
وبه قال: ابن شُبْرُمَة، وعبد الرحمن ابن أبي لَيْلَى (8) ، ومنصور بن المُعْتَمِر (9).
(1) الاكتحال: ذر الكحل في العين، أو دلك الاجفان به، سواء أكان للتزين أم للتداوي. ينظر: معجم لغة الفقهاء ص: 84، ولسان العرب 11/ 584.
(2)
مرعاة المفاتيح 6/ 523.
(3)
ينظر: الإقناع لابن المنذر 1/ 193، الإقناع لابن القطان 1/ 231، مراتب الإجماع ص 39، بداية المجتهد 2/ 52، الاستذكار 3/ 372.
(4)
سورة البقرة: آية: 187.
(5)
الأصل 2/ 244، المبسوط 3/ 67، بدائع الصنائع 2/ 106، البناية 469، رد المحتار 2/ 417.
(6)
الأم 2/ 110، الحاوي 3/ 460، المجموع 6/ 348، مغني المحتاج 2/ 156.
(7)
المحلى 4/ 335.
(8)
هو: عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الأوسي، أبو عيسى الكوفي، التابعي الجليل، روى عن: عمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم، وروى عنه: ابنه عيسى، ومجاهد، وابن سيرين، وآخرون، واتفقوا على توثيقه وجلالته، أدرك (120) صحابيا كلهم من الأنصار، توفي سنة 148 هـ. ينظر: الطبقات الكبرى 6/ 109، سير أعلام النبلاء 4/ 262، تهذيب التهذيب 6/ 260.
(9)
هو: منصور بن المعتمر بن عبد الله بن ربيعة السلمي، أبو عَتَّاب الكوفي، الحافظ الثبت القدوة، أحد الأعلام، روى عن: ربعي بن حراش، وأبي وائل، وإبراهيم النخعي، وآخرين، روى عنه: شعبة بن الحجاج، والسفيانان، والأعمش، وطائفة، توفي سنة 132 هـ. ينظر: الطبقات الكبرى 6/ 337، سير اعلام النبلاء 5/ 402، تهذيب التهذيب 10/ 312.
وقال به: سليمان التيمي (1)(2).
وقيده: المالكية (3) ، والحنابلة (4) ، بوصوله إلى الحلق، وأما إن لم يصل إلى الحلق فيُكره عندهم.
سبب الخلاف: الخلاف في هذه المسألة يرجع إلى سببين والله أعلم:
السبب الأول: اختلافهم هل الصيام معقول المعنى؟ فيكون الواجب هو الإمساك عن كل ما يغذي إذا كان من منفذ الطعام والشراب، أم غير معقول المعنى؟ فيكون الواجب هو الإمساك عما يَرِد الجوف من أي المنافذ وإن كان غير مُغذّي (5).
السبب الثاني: اختلافهم في ثبوت الأحاديث التي نهت الصائم عن الاكتحال، والأحاديث التي أباحت له الاكتحال، وستأتي في الأدلة إن شاء الله.
أدلة القول الأول: القائلين بأن الاكتحال يجوز للصائم بلا كراهة.
الدليل الأول: عن عائشة رضي الله عنها، قالت:«اكتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم» (6).
وجه الاستدلال: أن هذا الحديث نص في جواز الاكتحال للصائم.
(1) هو: سليمان بن طَرْخَانَ التيمي، أبو المعتمر البصري، كان ثقة كثير الحديث وكان من العباد المجتهدين، روى عن: أنس بن مالك، وطاوس، وأبي إسحاق السبيعي، وغيرهم. وعنه: ابنه معتمر، وشعبة، والسفيانان، وغيرهم، توفي سنة 143 هـ. ينظر: طبقات ابن سعد 7/ 252، وسير أعلام النبلاء 6/ 195، وتهذيب التهذيب 4/ 201.
(2)
تنظر أقوالهم في: الإشراف لابن المنذر 3/ 133، الحاوي الكبير 3/ 460، حلية العلماء 3/ 173، المجموع 6/ 348، مصنف عبد الرزاق 4/ 208. تنبيه: نقل أبو يوسف القاضي عن ابن أبي ليلى الكراهة فقط. ينظر: اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى ص 131.
(3)
المدونة 1/ 269، التلقين 1/ 69، الكافي 1/ 346، الذخيرة 2/ 505، مواهب الجليل 2/ 425.
(4)
الكافي 1/ 440، المغني 3/ 121، الإنصاف 3/ 299، دقائق أولي النهى 1/ 481.
(5)
ينظر بداية المجتهد 2/ 52.
(6)
رواه ابن ماجه 1/ 536 رقم 1678، كتاب الصيام، باب ما جاء في السواك والكحل للصائم، واللفظ له، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 437 رقم 8259، كتاب الصيام، الصائم يكتحل، قال في مصباح الزجاجة 2/ 67:"هذا إسناد ضعيف"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة 13/ 245 رقم 6108.
الدليل الثاني: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اشتكت عيني، أفأكتحل وأنا صائم؟ قال:«نعم» (1).
وجه الاستدلال: أن إذنَ النبي صلى الله عليه وسلم للرجل بالاكتحال حال كونه صائما دليل على جوازه للصائم بلا كراهة (2).
الدليل الثالث: عن بَرِيْرَة (3) رضي الله عنها، قالت:«رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يكتحل بالإثمد وهو صائم» (4).
الدليل الرابع: عن أبي رافع (5) رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتحل بالإِثْمِد (6) وهو صائم» (7).
الدليل الخامس: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكره الكحل للصائم،
(1) رواه الترمذي 3/ 96 رقم 726، أبواب الصيام، باب ما جاء في الكحل للصائم، وقال:"حديث ليس إسناده بالقوي، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء"، وقال الألباني في ضعيف الترمذي 1/ 84:"ضعيف الإسناد".
(2)
ينظر: مرقاة المفاتيح 4/ 1395.
(3)
هي: الصحابية بَرِيْرَة مولاة عائشة أم المؤمنين، كانت أمة لبعض بني هلال، وكانت تخدم عائشة قبل أن تشتريها وتعتقها، وجاء الحديث في شأنها:«الولاء لمن أعتق» وعتقت تحت زوج، وكان اسمه مغيثا. ينظر: الطبقات الكبرى 8/ 256، سير أعلام النبلاء 2/ 297، تهذيب الكمال 35/ 136.
(4)
رواه الطبراني في المعجم الأوسط 7/ 81 رقم 6911، وقال في مجمع الزوائد 3/ 167:"وفيه جماعة لم أعرفهم". ينظر: السلسلة الضعيفة للألباني 13/ 249.
(5)
هو: أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، غلبت عليه كنيته، واختلف في اسمه، فقيل: أسلم، وهو أشهرها، كان قبطيا، وكان عبدا للعباس بن عبد المطلب، فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما بشره بإسلام العباس أعتقه، شهد أحدا وما بعدها، مات بالمدينة آخر خلافة عثمان رضي الله عنه. ينظر: الاستيعاب 4/ 1656، والإصابة 7/ 112، سير أعلام النبلاء 2/ 16.
(6)
الإِثْمد: حجر الكحل، وهو أسود إلى حمرة. ينظر: تاج العروس 7/ 468، مختار الصحاح 1/ 50.
(7)
رواه الطبراني في المعجم الكبير 1/ 317 رقم 939، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 436 رقم 8258، وقال:"محمد بن عبيد الله بن أبي رافع ليس بالقوي"، وضعفه الألباني كما في ضعيف الجامع الصغير 1/ 663 رقم 4599.
وكره له السَّعُوط (1) أو شيئا يصبه في أذنيه» (2).
الدليل السادس: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم يَرْمَد (3) أبدا» (4).
الدليل السابع: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «انتظرت النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلينا في رمضان، فخرج من بيت أم سلمة، وقد كحلته وملأت عينيه كحلا» (5).
وجه الاستدلال: أن صيام يوم عاشوراء كان في ذلك الوقت فرضا، فدل على جواز اكتحال الصائم (6).
الدليل الثامن: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أنه كان يكتحل وهو صائم» (7).
الدليل التاسع: عن الأعمش قال: «ما رأيت أحدا من أصحابنا يكره الكحل للصائم،
(1) السَّعُوط: وهو ما يجعل من الدواء في الأنف. ينظر: الصحاح 3/ 1131، النهاية 2/ 931.
(2)
رواه ابن وهب في الجامع ص 178 رقم 296، كتاب الصوم، وفي الموطأ ص 97 رقم 294، من كتاب الصوم، والحربي في الفوائد المنتقاة ص 123 رقم 123، وأبو نعيم في الطب النبوي 1/ 376 رقم 315، باب وجع الأذن، والمدونة 1/ 269، وقال صاحب كتاب الإيماء إلى زوائد الأمالي والأجزاء 1/ 306:"سنده ضعيف جدا".
(3)
الرَمَدُ: مرض يصيب العين، فتَهيج وتنتفخ. ينظر: مقاييس اللغة 2/ 438، تاج العروس 8/ 116.
(4)
أخرجه البيهقي في الشعب 5/ 334 رقم 3517، في الصيام، صوم التاسع مع العاشر، وقال:"وجويبر ضعيف، والضحاك لم يلق ابن عباس"، وفي فضائل الأوقات ص/455 رقم 246، باب في الاكتحال يوم عاشوراء، وقال الألباني في السلسلة الضعيفة 2/ 89 رقم 624:"موضوع".
(5)
أخرجه الحارث في مسنده كما في بغية الباحث 2/ 613 رقم 582، كتاب اللباس والزينة، باب الكحل للصائم، وأبو بكر البزاز في الغيلانيات ص/115 رقم 75، وقال في المطالب العالية 10/ 399 رقم 2264:"عمرو بن خالد واهٍ".
(6)
ينظر: المبسوط 3/ 67.
(7)
رواه أبو داود 2/ 310 رقم 2378، في الصيام، باب في الكحل عند النوم للصائم، وابن أبي شيبة في المصنف 2/ 304 رقم 9272، في الصيام باب من رخص في الكحل للصائم، وقال الألباني في صحيح أبي داود 7/ 139:"حسن موقوف".
وكان إبراهيم يرخص أن يكتحل الصائم بالصَّبِر (1)» (2).
الدليل العاشر: ولأن ما وجد من الطعم في حلقه هو أثر الكحل لا عينه؛ كمن ذاق شيئا من الأدوية المُرّة فإنه يجد طعمه في حلقه، وهو قياس الغبار والدخان.
وإن وصل عين الكحل إلى باطنه، فلا يَضرّه أيضا؛ لأنه وصل من قِبَل المَسامّ (3) لا من قِبَل المسالك؛ لأنه ليس بين العين والحلق مسلك؛ فهو نظير الصائم يَشْرَع في الماء فيجد برودة الماء في كبده (4).
أدلة القول الثاني: القائلين بأن من اكتحل وهو صائم أفطر.
الدليل الأول: عن مَعْبَد بن هَوْذة (5) رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالإثمد الْمُرَوَّحِ (6) عند النوم، وقال:«ليتقه الصائم» (7).
الدليل الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: «الفطر مما دخل، والوضوء مما خرج» (8).
(1) الصَّبِر: الدواء المر، وأصله: عصارة شجر مر، واحدته صَبرة، والجمع: صُبور. ينظر: مختار الصحاح 1/ 375، تاج العروس 12/ 280.
(2)
رواه أبو داوود 2/ 310 رقم 2379، في الصوم، باب في الكحل عند النوم للصائم، وقال الألباني في صحيح أبي داود 7/ 140:"حسن".
(3)
المَسامّ: هي منافذ الجسم. ينظر: كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم 2/ 1526
(4)
ينظر: المبسوط 3/ 67، تحفة الفقهاء 1/ 366، البناية 4/ 41، الحاوي 3/ 460، المغني 3/ 122.
(5)
هو: مَعْبَد بْنُ هَوْذَة الأنصاري، جد عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هوذة، روى حديثه عبد الرحمن بن النعمان بن معبد عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم فِي الاكتحال بالإثمد عِنْدَ النوم. ينظر: معرفة الصحابة 5/ 2526، الاستيعاب 3/ 1428، تهذيب الكمال 28/ 240.
(6)
المُرَوَّح: أي المطيب بالمسك، كأنه جعل له رائحة تفوح. ينظر: النهاية 2/ 658، غريب الحديث 1/ 328.
(7)
رواه أبو داود 2/ 310 رقم 2377، في الصيام، باب في الكحل عند النوم للصائم، وقال:"قال لي يحيى بن معين هو حديث منكر يعني حديث الكحل"، واللفظ له، وأحمد في المسند 25/ 474 رقم 16072، وقال شعيب الأرناؤوط:"إسناده ضعيف". وقال الألباني في الإرواء 4/ 85: "منكر".
(8)
رواه البخاري معلقا مجزوما به 3/ 33، ووصله: ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 308 رقم 9319، والبيهقي في السنن الصغرى 2/ 101 رقم 566، باب الحجامة للصائم، وصححه الألباني في الإرواء 4/ 79 رقم 933.
وجه الاستدلال: أن الصائم إذا وجد طعم الكحل فقد دخل (1).
الدليل الثالث: ولأنه أوصل إلى حلقه ما هو ممنوع من تناوله بفيه، فأفطر به؛ كما لو أوصله من أنفه (2).
الدليل الرابع: ولأن الكحل الحادّ يصل إلى الجوف، ويظهر الكحل بعينه على اللسان إذا بَصَقَه الإنسان، فعُلِم أن في العين مَنْفَذا يصل منه. وإذا كان في العين مَنْفَذا وصل بالداخل منه كسائر المنافذ. وأيضا فإن الدَمْع يخرج من العين، والدَمْعُ محله الدماغ، فعُلِم أن في العين منافذ ينزل منها الدمع (3).
الراجح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الأول: أنه يجوز الكحل للصائم بلا كراهة؛ لأن الأحاديث التي استدل بها أصحاب هذا القول على جواز اكتحال الصائم، وإن كان لا يخلو واحد منها من كلام، لكنها يقوي بعضها بعضا، وتنتهض بمجموعها للاحتجاج على جواز الاكتحال للصائم، مع ما صح عن أنس بن مالك ¢ من فعله، إضافة إلى أنه ليس هناك في كراهة الكحل حديث صحيح أو حسن (4).
وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما استدلالهم بحديث معبد بن هوذة فيجاب عنه:
أنه حديث لا يصح، وليس هناك ما يقويه (5).
ثانيا: وأما استدلالهم بأثر ابن عباس: «الفطر مما دخل، والوضوء مما خرج» ، فيجاب عنه:
أن المراد بالدخول دخول شيء بعينه من منفذ إلى جوف البطن أي المعدة، لا وصول أثر شيء من المسامات إلى الباطن، ولذا لا يفطر تدهين الرأس وشم العطر، وليس للعين منفذ إلى جوف البطن (6).
(1) ينظر تحفة الأحوذي 3/ 349.
(2)
ينظر: المغني 3/ 122، الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 438.
(3)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 389.
(4)
ينظر: تحفة الأحوذي 3/ 348، ومرعاة المفاتيح 6/ 523.
(5)
ينظر: نيل الأوطار 4/ 243، والتوضيح لابن الملقن 13/ 212.
(6)
ينظر: تحفة الأحوذي 3/ 349، ومرعاة المفاتيح 6/ 522.
ثالثا: وأما استدلالهم بوصول الكحل الحاد إلى الجوف وخروج الدمع من العين، فيجاب عنه:
بأن دخول الكحل وخروج الدمع يكون من المسام التي في العين، والمسام ليست كالمنافذ التي يحصل الفطر بالداخل منها بدليل أنه لو اغتسل بالماء، أو دهن رأسه، أو طيَّب بدنه، فإنه يجد في حلقه برودة الماء، وطعم الدهن ولا يفطر. والعَرَق يخرج من هذه المسام كما يخرج الدمع من العين (1).
والله أعلم.
(1) ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 389.