الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: حكم من نذر صوم العيدين متعمدا لعينيهما
.
اختيار الشيخ: اختار عدم انعقاد النذر وعدم صحته، فقال:"والراجح عندي في المسألة الأولى هو ما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد من عدم انعقاد النذر وعدم صحته"(1).
تحرير محل الخلاف: أجمع العلماء على تحريم صيام عيد الفطر، وعيد الأضحى، سواء صيما عن نذر، أو تطوع، أو كفارة، أو غير ذلك (2). واختلفوا في من نذر صيامهما لعينيهما أي: يقصدهما بالصيام، هل ينعقد نذره وعليه قضاؤه أم لا؟ على قولين:
القول الأول: لا يصح نذر صيام العيدين، ولا ينعقد، ويجب فطرهما، ولا يقضي.
وبه قال: أبو حنيفة في رواية محمد عنه (3) ، والمالكية (4) ، والشافعية (5) ، والحنابلة في رواية (6)، والظاهرية (7)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: يصح نذر صوم العيدين ويجب فطرهما وقضاؤهما.
وبه قال: الحنفية في ظاهر الرواية (8) ، ورواية عند الحنابلة عليها أكثر الحنابلة (9).
(1) مرعاة المفاتيح 7/ 68.
(2)
الإقناع في مسائل الإجماع 1/ 232، شرح مسلم للنووي 8/ 15، الذخيرة 2/ 497، البيان 3/ 561، المغني 3/ 169، عمدة القاري 11/ 109.
(3)
الأصل للشيباني 2/ 242، المبسوط 3/ 95، البناية 4/ 113، النهر الفائق 2/ 39.
(4)
النوادر والزيادات 2/ 66، الكافي 1/ 460، الذخيرة 2/ 497، التوضيح لخليل 2/ 453. تنبيه: يذكر بعض أهل العلم عن المالكية في وجوب قضاء يوم النحر قولان، والذي حققه علماء المالكية أن خلافهم ذلك في من نذر صيام أيام ذي الحجة، فهل يقضي يوم النحر أم لا؟ . أما من نذر صيام يوم العيد بعينه فلا خلاف عندهم في أن نذره لا ينعقد، وأنه لا يقضي. ينظر: المعلم 2/ 60.
(5)
نهاية المطلب 18/ 454، العزيز 12/ 380، روضة الطالبين 3/ 319، تحفة المحتاج 2/ 204.
(6)
شرح العمدة كتاب الصيام 2/ 640، الفروع 11/ 82، المبدع 8/ 131، الإنصاف 11/ 134. عند الحنابلة في هذه الرواية: اختاروا أن عليه الكفارة، وإن لم يجب عليه القضاء. ينظر المغني 10/ 23.
(7)
المحلى 4/ 450.
(8)
المبسوط 3/ 95، بدائع الصنائع 5/ 83، النهر الفائق 2/ 39. وعندهم: إن صام في يوم العيد يخرج عن العهدة؛ لأنه أداه كما التزمه، وإن كان صيامه محرما. ينظر: البحر الرائق 2/ 316.
(9)
الفروع 11/ 82، منتهى الإرادات 5/ 253، الإنصاف 11/ 135، المنح الشافيات 2/ 765. واختلفت الرواية عنه: هل يكفر مع القضاء أم لا يكفر؟ . ينظر: المبدع 8/ 131.
سبب الخلاف: قال الحافظ ابن حجر: "وأصل الخلاف في هذه المسألة: أن النهي هل يقتضي صحة المنهي عنه"(1).
أدلة القول الأول: القائلين بأنه لا يصح نذر صيام العيدين ولا ينعقد ويجب فطرهما ولا يقضي.
الدليل الأول: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الفطر والنحر» (2).
الدليل الثاني: عن أبي عبيد مولى ابن أَزْهَر (3) قال: شَهِدتُ العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: «هذان يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما: يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر: تأكلون فيه من نسككم» (4).
وجه الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: حديث أبي سعيد يدل على المنع من صيام يومي العيد، ويقتضي ذلك عدم صحة صومهما بوجه من الوجوه، لا عن نذر ولا عن غيره (5).
الوجه الثاني: قوله في حديث عمر رضي الله عنه: «يوم فطركم من صيامكم» ، يدل على أنه من نذر صوم ذلك اليوم لم يلزمه صيامه، ولا قضاؤه؛ لأن هذا كالتعليل لوجوب الإفطار فيه، وقد وُسِم هذا اليوم بيوم الفطر، والفطر مضاد للصوم؛ ففي إجازة صومه إبطال لمعنى اسمه (6).
(1) فتح الباري 4/ 239.
(2)
رواه البخاري 3/ 42 رقم 1991، في الصوم باب صوم يوم الفطر، واللفظ له، ومسلم 2/ 799 رقم 1138، في الصيام باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
هو: سعد بن عبيد الزهري، أبو عبيد المدني، مولى عبد الرحمن بن أَزْهَر، ويقال مولى ابن عمه عبد الرحمن بن عوف، روى عن: عمر، وعلي، وعثمان، وأبي هريرة رضي الله عنهم، وغيرهم، وعنه: الزهري، وسعد بن خالد، وجماعة، قال ابن سعد: كان من القراء، وأهل الفقه ثقة، مات بالمدينة سنة 98 هـ. ينظر: الطبقات 5/ 86، تهذيب التهذيب 3/ 478، تاريخ الإسلام 2/ 1206.
(4)
رواه البخاري 3/ 42 رقم 1990، كتاب الصوم، باب صوم يوم الفطر، ومسلم 2/ 799 رقم 1137، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى.
(5)
ينظر: إحكام الأحكام 2/ 35.
(6)
ينظر: معالم السنن 2/ 127 - 128.
الدليل الثالث: عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين» (1).
الدليل الرابع: عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «النذر نذران: فما كان من نذر في طاعة الله فذلك لله وفيه الوفاء، وما كان من نذر في معصية الله فذلك للشيطان ولا وفاء فيه، ويُكَفِّره ما يُكفِّر اليمين» (2).
وجه الاستدلال: أن النذر الذي يجب الوفاء به هو نذر الطاعة دون المعصية، وصيام هذين اليومين معصية؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه. فالنذر لا ينعقد فيه، ولا يصح؛ كما لا يصح من الحائض لو نذرت أن تصوم أيام حيضها (3)، وتعويض يوم آخر ليس من مقتضى لفظ نذره، فلا معنى لإلزامه إياه (4).
الدليل الخامس: ولأنه تعمد نذر المعصية، فلم ينعقد نذره، ولم يوجب قضاء كسائر المعاصي (5).
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه يصح نذر صوم العيدين ويجب فطرهما وقضاؤهما.
الدليل الأول: جاء رجل إلى ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: إني نذرت أن أصوم يوما، فوافق يوم أضحى أو فطر، فقال ابن عمر رضي الله عنهما:«أمر الله تعالى بوفاء النذر، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم هذا اليوم» (6).
(1) رواه أبو داود 3/ 233 رقم 3292، كتاب الأيمان والنذور، باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية، والترمذي 4/ 103 رقم 1525، أبواب النذور والأيمان، باب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نذر في معصية، وقال:"هذا حديث غريب"، والنسائي 7/ 26 رقم 3835، كتاب الأيمان والنذور باب كفارة النذر، وابن ماجه 1/ 686 رقم 2125، كتاب الكفارات باب النذر في المعصية، وصححه الألباني في إرواء الغليل 8/ 214 رقم 2590.
(2)
رواه النسائي 7/ 28 رقم 3845، والبيهقي في الكبرى 10/ 121 رقم 20071، كتاب الأيمان باب من جعل فيه كفارة يمين، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 1/ 863 رقم 479.
(3)
ينظر: معالم السنن 2/ 128.
(4)
ينظر: المعلم للمازري 2/ 60.
(5)
ينظر: المغني 10/ 23، وينظر: البيان 3/ 562، المبسوط للسرخسي 3/ 96.
(6)
رواه البخاري 3/ 43 رقم 1994، في الصوم، باب صوم يوم النحر، ومسلم 2/ 800 رقم 1139، في الصيام، باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى، واللفظ له.
وجه الاستدلال: أن النهي لا ينفي مشروعية الأصل؛ وبيانه: أنه لو كان صوم يوم العيد ممنوعا منه لعينه ما توقف ابن عمر في الفتيا (1).
الدليل الثاني: أن من نذر صيام يوم العيد قد نذر صوما مشروعا في ذاته، وبيانه: أن صيامه ذلك هو كَفّ للنفس -التي هي عدو الله- عن شهواتها، ولا فرق في ذلك بين يوم ويوم، فكان من حيث حقيقته حسنا مشروعا، والنذر بما هو مشروع جائز. وما روي من النهي فإنما هو لغيره، وهو ترك إجابة دعوة الله تعالى؛ لأن الناس أضياف الله تعالى في هذه الأيام. وإذا كان النهي لغيره لا يمنع صحته من حيث ذاته، فيجب الفطر؛ لئلا يصير معرضا عن ضيافة الكريم. ويجب القضاء باعتبار ذاته، ويجزئه إن صام فيها؛ لأنه أداه كما التزمه؛ فإن ما وجب ناقصا يجوز أن يؤدى ناقصا مع ارتكاب الحرمة الحاصلة من الإعراض (2).
الدليل الثالث: وقياسا على الصلاة في البيت المَغْصُوب (3): فكما أن الصلاة في البيت المَغْصوب تَصحّ، فكذا الصيام في يوم العيد يصح، وإن كان محرما (4).
الترجيح: الذي يترجح في هذه المسألة -والله أعلم- هو القول الأول: أنه لا يصح نذر صيام العيدين، ولا ينعقد، ويجب فطرهما، ولا يقضي؛ لأنه نذر معصية، والنذر إنما يكون في الطاعة دون المعصية، فلا ينعقد هذا النذر، ولا يصح؛ كما لا يصح من الحائض لو نذرت أن تصوم أيام حيضها. ولم يأمر الله تعالى قط بالوفاء بنذر المعصية، وعليه فلا يشرع قضاؤه (5).
والذي يقوم بهذا الفعل، أعني: نذر صيام العيد بعينه، هو أحد رجُلين: إما جاهل فيُعلَّم، وإما مستهتر فيُؤدَّب، وعليه مع هذا كفارة يمين كما جاء مُبَيَّنا في حديث عائشة وعمران بن حصين رضي الله عنهما، كما مر معنا.
وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما استدلالهم بأثر ابن عمر فيجاب عنه:
(1) ينظر: عمدة القاري 11/ 110، وفتح الباري 4/ 241.
(2)
ينظر: العناية شرح الهداية 2/ 381، درر الحكام 4/ 211، والبحر الرائق 2/ 316.
(3)
الغَصْب: من غَصَبَه يَغْصِبه غَصْبا: أخذه ظُلما، وهو غاصب. ينظر: تاج العروس 3/ 484.
(4)
ينظر: حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 695.
(5)
ينظر: مرعاة المفاتيح 7/ 68.
أنه استدلال غير وجيه؛ لأن ابن عمر رضي الله عنه لم يُسأل عن صوم يوم العيد بعينه، وإنما سئل عن من وافق نذره يوم العيد من غير قصد منه، وكان استدلالهم قد يكون وجيها لو سئل ابن عمر عن من تعمد صيام يوم العيد بعينه، ثم أجاب بما أجاب، أما والحال ما قد ذُكِرَ فلا وجه للاستدلال بأثر ابن عمر رضي الله عنهم.
والفرق بين الصورتين واضح: فالأول قصد بنذره صيام يوم محرم، فكان نذره غير منعقد. والثاني: قصد بنذره القربى بصوم يوم مباح، فوافق ذلك صيام يوم العيد، فأصل نذره صحيح، فافترقا، وهذه المسألة ستأتي معنا إن شاء الله (1).
ثانيا: وأما قولهم: إن هذا نذر بصوم مشروع، وما روي من النهي فإنما هو لغيره، فيجاب عنه:
أن أصل النذر في يوم العيد غير مشروع أصلا ولا ينعقد، ويبين ذلك ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا يصلح الصيام في يومين: يوم الأضحى ويوم الفطر من رمضان» (2).
"وهذا كالنص على بطلان صوم العيدين، وإن يومي العيد ليسا بمحل للصوم شرعا؛ لأن حقيقة ذلك الخَبَرُ. فهو يُحمَل على حقيقته ما لم يَصرِف عنها صارف. فاقتضى ذلك إخبارا مِن النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذين اليومين لا يصلح فيهما الصيام، فلو بقي صائما مع إيقاعه الإمساك فيهما، لكان قد صلح الصيام فيهما من وجه. فثبت بذلك ما وقع من الإمساك ولو بنية الصوم من العبد في اليومين المذكورين، فليس بصيام عند الشرع؛ ليكون مخبره خبرا موجودا في سائر ما أخبر به. وهذا كله يُبطل القول بصحة نذر صوم العيد وإجزائه لو صام"(3).
ثالثا: وأما قياسهم صحة نذر صيام يوم العيد، على صحة الصلاة في البيت المغصوب، فيجاب عنه:
أن هذا قياس مع الفارق وبيانه: أن النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة ليس لذات الصلاة بل للإقامة وطلب الفعل لذات العبادة، بخلاف صوم يوم العيدين فإن النهي فيه لذات الصوم فافترقا (4).
(1) المسألة ستأتي صفحة (496).
(2)
رواه مسلم 2/ 799 رقم 1138، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
(3)
مرعاة المفاتيح، 7/ 68 - 69.
(4)
ينظر: فتح الباري 4/ 239.
علما أن الإمام أحمد في أشهر القولين عنه يرى أن الصلاة في الدار المغصوبة لا تصح (1).
وقد بَيَّن الإمام ابن دقيق العيد الفرق بينهما بأحسن بيان.
فقال: "بيانه: أن النهي ورد عن صوم يوم العيد، والناذر له معلق لنذره بما تعلق به النهي، وهذا بخلاف الصلاة في الدار المغصوبة، -عند من يقول بصحتها-: فإنه لم يحصل التلازم بين جهة العموم، أعني: كونها صلاة، وبين جهة الخصوص، أعني: كونها حصولا في مكان مغصوب، وأعني بعدم التلازم ههنا: عدمه في الشريعة؛ فإن الشرع وَجَّه الأمر إلى مطلق الصلاة، والنهي إلى مطلق الغَصْب. وتلازُمهما واجتماعهما إنما هو في فعل المكلف، لا في الشريعة. فلم يتعلق النهي شرعا بهذا الخصوص. بخلاف صوم يوم العيد، فإن النهي ورد عن خصوصه، فتلازمت جهة العموم وجهة الخصوص في الشريعة، وتعلق النهي بعين ما وقع في النذر، فلا يكون قربة"(2).
وللإمام القرافي كلاما نفيسا في الفرق بينهما (3)، لم أورده خشية الإطالة. والله أعلم.
(1) ينظر: المغني 2/ 56، والمحرر للمجد 1/ 148.
(2)
إحكام الأحكام 2/ 35.
(3)
ينظر: الذخيرة 2/ 497، والفروق 2/ 183 - 184.