الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: في المفطرات وما يجتنبه الصائم
وفيه أربعة عشر مطلبا:
المطلب الأول: حكم الحجامة للصائم.
المطلب الثاني: حكم الفصد للصائم.
المطلب الثالث: حكم المباشرة للصائم.
المطلب الرابع: حكم التقبيل للصائم.
المطلب الخامس: حكم الاستياك للصائم.
المطلب السادس: حكم الاكتحال للصائم.
المطلب السابع: حكم الوصال في الصيام.
المطلب الثامن: حكم من أكل أو شرب ناسيا وهو صائم.
المطلب التاسع: حكم من استقاء عمدا وهو صائم.
المطلب العاشر: حكم انغماس الصائم في الماء.
المطلب الحادي عشر: في الأكل والشرب للمتسحر.
المطلب الثاني عشر: حكم صيام من أدركه الفجر وهو جنب من احتلام أو جماع.
المطلب الثالث عشر: حكم صيام الحائض والنفساء إذا طهرت قبل الفجر ولم تغتسل إلا بعد الفجر.
المطلب الرابع عشر: هل الغيبة وقول الزور يفسدان الصيام؟ .
المطلب الأول: حكم الحِجامَة (1) للصائم.
اختيار الشيخ: اختار أن الحجامة لا تُفَطِّر ولكن يستحب تركها، فقال:"وحينئذ فيندب تركها (أي الحجامة) كالفَصْد (2) ونحوه؛ تَحرُّزا عن إضعاف البدن"(3).
تحرير محل الخلاف: أجمع العلماء على أنه يجب على الصائم الإمساك زمان الصوم عن المطعوم والمشروب والجماع (4)؛ لقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (5).
واتفقوا أن خروج دم الحيض والنِفاس مفسد للصيام (6).
واختلفوا في الحجامة هل تُفطِّر الصائم أم لا؟ ، على قولين:
القول الأول: أن الحجامة لا تُفطِّر الصائم.
وبه قال: الحنفية (7) ، والمالكية (8) ، والشافعية (9)، والظاهرية (10)، وهو اختيار الشيخ.
(1) الحِجامَة: مأخوذة من الحجم وهو المَصّ. والمِحجم، بالكسر: الآلة التي يجمع فيها دم الحجامة عند المص. ينظر: النهاية 1/ 347، مختار الصحاح ص 67، تاج العروس 31/ 444.
(2)
الفَصْد: من فَصَد يفصِد فَصْدا وفِصادا، وهو شق الوريد وإخراج شيء من دمه بقصد التداوي ينظر: جمهرة اللغة 2/ 656، مختار الصحاح ص 240، معجم لغة الفقهاء ص 346.
(3)
مرعاة المفاتيح 6/ 533.
(4)
ينظر: الإقناع لابن المنذر 1/ 193، الإقناع لابن القطان 1/ 231، مراتب الإجماع ص 39، الاستذكار 3/ 372، بداية المجتهد 2/ 52.
(5)
سورة البقرة: آية: 187.
(6)
ينظر: مراتب الإجماع ص 40، الإقناع في مسائل الإجماع 1/ 230، المبسوط للسرخسي 3/ 152، الاستذكار 3/ 324، شرح العمدة كتاب الصيام لابن تيمية 1/ 244 و 432.
(7)
بدائع الصنائع 2/ 107، تحفة الفقهاء 1/ 368، تبيين الحقائق 1/ 322، البناية 4/ 40.
(8)
المدونة 1/ 270، الرسالة ص 60، جامع الأمهات ص 17، مواهب الجليل 2/ 416. وعند المالكية: تكره الحجامة؛ لأن الغالب منها لحوق الضعف. ينظر: المعونة 1/ 474، والقبس 1/ 507.
(9)
الأم 2/ 106، الحاوي 3/ 460 - 461، المجموع 6/ 349، روضة الطالبين 2/ 369.
(10)
المحلى 4/ 335.
وقال به من الصحابة: أم سلمة، وعبد الله بن عباس، وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وعبد الله بن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، رضي الله عنهم (1).
القول الثاني: أن الحجامة تُفطِّر الحاجم والمحتجم وعليهما القضاء.
وبه قال: الحنابلة (2) ، وإسحق بن راهويه (3) ، والأوزاعي (4).
وقال به: علي بن أبي طالب، وأبو موسى الأشعري، وعائشة، رضي الله عنهم ، وابن سيرين، والحسن البصري، وعطاء (5).
سبب الخلاف:
قال ابن رشد: "وسبب اختلافهم: تعارض الآثار الواردة في ذلك"(6).
أدلة القول الأول: القائلين بأن الحجامة لا تُفطِّر الصائم.
الدليل الأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم» (7).
وفي رواية: «احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة وهو صائم محرم» (8).
(1) تنظر أقوالهم في: مصنف ابن أبي شيبة 2/ 307 - 308، والاستذكار 3/ 322، والمجموع 6/ 349، والمغني 3/ 120.
(2)
مسائل أحمد رواية أبي داوود ص 130، المغني 3/ 120، الفروع 5/ 7، الإنصاف 3/ 302.
(3)
مسائل أحمد وإسحاق 3/ 1242، الإشراف لابن المنذر 3/ 130، المغني 3/ 120، بداية المجتهد 2/ 53.
(4)
المجموع 6/ 349، بداية المجتهد 2/ 53.
(5)
تنظر أقوالهم في: مصنف ابن أبي شيبة 2/ 307، والمجموع 6/ 349، والمغني 3/ 120. بل إن عطاء أوجب عليهما الكفارة أيضا، ووُصِف قوله هذا بالشذوذ. ينظر: الاستذكار 3/ 326، المجموع 6/ 349، التوضيح لابن الملقن 13/ 309.
(6)
بداية المجتهد 2/ 53.
(7)
رواه البخاري 2/ 685 رقم 1836، كتاب الصوم، باب الحجامة والقيئ للصائم.
(8)
رواه أحمد 3/ 414 رقم 1943، والدارقطني في السنن 3/ 260 رقم 2513، كتاب الحج، باب المواقيت، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 438 رقم 8264، في الصيام، باب الصائم يحتجم لا يبطل صومه، وقال شعيب الأرناؤوط:"إسناده ضعيف".
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في حجة الوداع وهو صائم؛ لأن ابن عباس ¢ لم يصحبه صلى الله عليه وسلم في سفره وهو محرم إلا في حجة الوداع، فدل على جواز الحجامة للصائم، وأنها لا تُفَطِّر.
قال ابن عبد البر: "فابن عباس شهد معه حجة الوداع، وشهد حجامته يومئذ محرم صائم. فإذا كانت حجامته صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فهي ناسخة لا محالة؛ لأنه لم يدرك بعد ذلك رمضان؛ لأنه توفي في ربيع الأول صلى الله عليه وسلم "(1).
الدليل الثاني: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «أول ما كُرِهت الحجامة للصائم، أن جعفر بن أبي طالب (2) رضي الله عنه احتجم وهو صائم، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «أفطر هذان» ، ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم»، «وكان أنس يحتجم وهو صائم» (3).
الدليل الثالث: عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: «رَخَّص النبي صلى الله عليه وسلم في القُبلة للصائم، ورخَّص في الحجامة للصائم» (4).
وجه الاستدلال: في الحديث دليل على أن الفطر بالحجامة منسوخ؛ لأن الرخصة تأتي بعد العزيمة (5).
(1) الاستذكار 3/ 324.
(2)
هو: جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب، أبو عبد الله، صحابي هاشمي من شجعانهم، يقال له: جعفر الطيار، وهو من السابقين إلى الإسلام، وكان خطيب القوم أمام ملك الحبشة، كان أمير الجيش إلى مؤتة بعد زيد بن حارثة، فاستشهد هناك رضي الله عنه، روى عنه: عمرو بن العاص، وابن مسعود، وغيرهم. ينظر: معرفة الصحابة 2/ 511، والاستيعاب 1/ 242، السير 1/ 206.
(3)
رواه الدارقطني في السنن 3/ 149 رقم 2260، في الصيام، باب القبلة للصائم، وقال:"كلهم ثقات ولا أعلم له علة"، وعنه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 446 رقم 8302، في الصيام، باب ما يستدل به على نسخ الحديث، وقال الألباني في الإرواء 4/ 73:"وهو كما قالا".
(4)
رواه ابن خزيمة في صحيحه 3/ 230 رقم 1967، في الصيام، باب ذكر البيان أن الحجامة تفطر الحاجم والمحجوم جميعا، والنسائي في الكبرى 3/ 345 رقم 3224، في الصيام، باب الحجامة للصائم، والدارقطني في السنن 3/ 152 رقم 2268، في الصيام باب القبلة للصائم، وقال:"كلهم ثقات، وغير معتمر يرويه موقوفا"، وصححه الألباني في الإرواء 4/ 74.
(5)
ينظر: فتح الباري 4/ 178.
الدليل الرابع: عن ثابت البُناني (1) قال: سئل أنس بن مالك رضي الله عنه: «أكنتم تكرهون الحجامة للصائم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ ، قال: لا؛ إلا من أجل الضعف» (2).
الدليل الخامس: عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: «إنما كُرِهت للصائم من أجل الضعف» (3).
الدليل السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «يقولون: أفطر الحاجم والمحجوم؟ ، ولو احتجمتُ ما بالَيْتُ» (4).
وجه الاستدلال: أن قول أبي هريرة رضي الله عنه هذا يدل على أنه قد ثبت عنده الرخصة في الحجامة (5).
أدلة القول الثاني: القائلين بأن الحجامة تُفطِّر الحاجم والمحتجم وعليهما القضاء.
الدليل الأول: عن ثَوْبان (6) رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» (7).
(1) هو: ثابت بن أسلم البناني، أبو محمد البصري، أحد أئمة التابعين، روى عن: أنس، وابن الزبير، وابن عمر، وروى عنه: حميد الطويل، وشعبة، ومعمر، وغيرهم، توفي سنة 127 وقيل 123 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 5/ 220، تهذيب الكمال 4/ 342، تاريخ الإسلام 3/ 382.
(2)
رواه البخاري 3/ 33 رقم 1940، كتاب الصوم، باب الحجامة والقيء للصائم.
(3)
رواه ابن أبي شيبة 2/ 308 رقم 9323، في الصوم، باب من رخص للصائم أن يحتجم، وابن خزيمة 3/ 232 رقم 1971، في الصوم، باب ذكر بيان أن الحجامة تفطر الحاجم والمحجوم جميعا، والبيهقي في الكبرى 4/ 264 رقم 8267، في الصيام، باب الصائم يحتجم، وقال الهيثمي في المجمع 3/ 169:"رجاله ثقات"، وقال الألباني في تعليقه على ابن خزيمة:"إسناده صحيح موقوف".
(4)
رواه عبد الرزاق في المصنف 4/ 211 رقم 7527، في الصيام باب الحجامة للصائم، والبخاري في التاريخ الكبير 2/ 179، والنسائي في السنن الكبرى 3/ 331 رقم 3166.
(5)
ينظر: التوضيح لابن الملقن 13/ 307.
(6)
هو: ثَوْبان بن جَحْدَرٌ القرشي الهاشمي، أبو عبد الله، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أهل اليمن أصابه سبيا فاعتقه، ولم يزل معه في الحضر والسفر حتى توفي صلى الله عليه وسلم ، ثم خرج إلى الشام، ثم حمص، وتوفي بها سنة 54 هـ. ينظر: معرفة الصحابة 1/ 501، سير أعلام النبلاء 3/ 16، تاريخ دمشق 11/ 166.
(7)
رواه أبو داود 2/ 308 رقم 2367، في الصوم، باب في الصائم يحتجم، والنسائي في الكبرى 3/ 318 رقم 3120، وابن ماجة 1/ 537 رقم 1680، في الصيام، باب ما جاء في الحجامة للصائم، وأحمد 37/ 64 رقم 22381، وقال الألباني في صحيح أبي داود 7/ 132 رقم 2049:"إسناده صحيح على شرط مسلم"، وينظر: إرواء الغليل 4/ 65 - 75.
الدليل الثاني: عن شَداد بن أَوْس (1) رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجل بالبَقِيع (2) وهو يحتجم، وهو آخذ بيدي، لثمان عشرة خلت من رمضان، فقال:«أفطر الحاجم والمحجوم» (3).
الدليل الثالث: عن رافع بن خَدِيج (4) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم» (5).
وجه الاستدلال: أن الحديث نص في حصول الفطر بالحجامة (6).
الدليل الخامس: عن سالم: «أن ابن عمر رضي الله عنه كان يحتجم وهو صائم. فبلغه حديث أَوْس، فكان إذا كان صائما احتجم بالليل» (7).
(1) هو: شَداد بن أَوْس بن ثابت، أبو يعلى الأنصاري الخزرجي، صحابي من الأمراء، ولاه عمر رضي الله عنه إمارة حمص، ولما قتل عثمان رضي الله عنه اعتزل، وعكف على العبادة، إلى أن توفي سنة 58 هـ. ينظر: معرفة الصحابة 3/ 1459، سير أعلام النبلاء 2/ 460، والأعلام 3/ 158.
(2)
البقيع: أي بقيع الغَرْقَد: وهو مقبرة أهل المدينة، وهو معروف لا يجهله أحد، بجوار المسجد النبوي من جهة الشرق. ينظر: المعالم الأثيرة ص 52.
(3)
رواه أبو داود 2/ 308 رقم 2369، في الصيام، باب في الصائم يحتجم، وابن ماجة 1/ 537 رقم 1681، في الصيام، باب ما جاء في الحجامة للصائم، وأحمد 28/ 336 رقم 17113، وقال محققه الأرنؤوط:"إسناده صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الألباني في صحيح أبي داود 7/ 134 رقم 2051.
(4)
هو: رافِع بن خَدِيج بن رافع، أبو عبد الله الأنصاري الأوسي الحارثي، كان عريف قومه، استصغر يوم بدر، وشهد أحدا والخندق، روى عنه: ابنه رفاعة، والسائب بن يزيد، وسعيد بن المسيب، وغيرهم، توفي بالمدينة سنة 74 هـ. ينظر: الاستيعاب 2/ 479، الإصابة 2/ 362، السير 3/ 182.
(5)
رواه الترمذي 3/ 144 رقم 774، أبواب الصوم باب كراهية الحجامة للصائم، وقال:"حديث حسن صحيح"، وذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال:"أصح شيء في هذا الباب حديث رافع بن خديج"، وأحمد 3/ 465 رقم 15866، وقال شعيب الأرنؤوط:"حديث صحيح رجاله ثقات"، وابن خزيمة 3/ 227 رقم 1964، ونقل عن علي بن عبد الله قوله:"لا أعلم في: «أفطر الحاجم والمحجوم» حديثا أصح من ذا"، وقال ابن قدامة:"رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد عشر نفسا". المغني 3/ 120.
(6)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام لابن تيمية 1/ 436، وينظر: معالم السنن 2/ 110.
(7)
أخرجه أحمد كما في مسائل ابنه عبد الله ص 182 رقم 683، وهو عند البخاري معلقا 3/ 33، باب الحجامة والقيء للصائم:«وكان ابن عمر رضي الله عنهما، يحتجم وهو صائم، ثم تركه، فكان يحتجم بالليل» ، ووصله: مالك رواية أبي مصعب 1/ 323 رقم 838، باب الحجامة للصائم، وقال الألباني في مختصر البخاري 1/ 565:"وصله مالك بإسناد صحيح عنه".
وجه الاستدلال: أن ابن عمر رضي الله عنهما ما كان ليترك الحجامة في النهار، ويؤخرها إلى الليل إلا لأنه فهم أنها تفسد الصوم، وأنه حُكمٌ غير منسوخ.
الدليل الرابع: عن أبي العالية (1)، قال: دخلت على أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وهو أمير البصرة ممسيا، فوجدته يأكل ثمرا وكامخا (2)، وقد احتجم. فقلت له: ألا تحتجم نهارا؟ ، فقال:«أتأمرني أن أهريق (3) دمي وأنا صائم» (4).
وجه الاستدلال: إنكار أبي موسى رضي الله عنه على من أشار عليه بالحجامة في يوم الصيام، يدل على أنه كان يرى أنها مفسدة للصوم.
الدليل السادس: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما احتجم وهو مُحْرِم صائم في السفر؛ لأنه لم يكن قط مُحْرِما مقيما ببلده، والمسافر إذا نوى الصوم له الفطر بالأكل والشرب والحجامة وغيرها؛ فلا يلزم من حجامته أنها لا تُفطِّر، فاحتجم صلى الله عليه وسلم وصار مُفطِرا، وذلك جائز (5).
الترجيح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الأول: أن الحجامة لا تُفطِّر الصائم؛ وذلك لقوة ما استدلوا به؛ ولأن حديث ابن عباس رضي الله عنه في احتجامه صلى الله عليه وسلم ناسخ لأحاديث إفطار الحاجم والمحجوم.
وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما حديث أفطر الحاجم والمحجوم فيجاب عنه بثلاثة أجوبة:
(1) هو: رُفَيْع بن مِهْرَان الرِّيَاحِيّ، أبو العالية البًصْري، مولى امرأة من بني رياح، الإمام المقرئ الحافظ المفسر، أحد الأعلام من كبار التابعين، سمع من: عمر، وعلي، وأبي، توفي بعد 90 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 4/ 207، تهذيب التهذيب 3/ 284.
(2)
الكامَخ: ، إدام يؤتدم به، أو المخلَّلات. ينظر: المصباح المنير 8/ 151، المعجم الوسيط 2/ 798.
(3)
أَهْرَق: أصله: أراق، أي: أسال. ينظر: مختار الصحاح ص 326، القاموس المحيط 1/ 930.
(4)
أخرجه النسائي في السنن الكبرى 3/ 339 رقم 3201، في الصيام باب الحجامة للصائم، وابن أبي شيبة في المصنف 2/ 307 رقم 9307، في الصيام، باب من كره أن يحتجم الصائم، وقال الألباني في مختصر البخاري 1/ 565:"وصله ابن أبي شيبة بسند صحيح عنه، والنسائي، والحاكم".
(5)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام لابن تيمية 1/ 444، ومعالم السنن 2/ 111.
الجواب الأول: أنه منسوخ ودليل النسخ أمران:
الأول: أن حديث شداد بن أوس رضي الله عنه والذي فيه: «أفطر الحاجم والمحجوم» ، كان في زمان الفتح. أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما والذي فيه إثبات حجامة النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم كان في حجة الوداع (1).
قال ابن عبد البر: "وصح النسخ فيها؛ لأن حجامته صلى الله عليه وسلم صحت عنه وهو صائم محرم عام حجة الوداع، وقوله: «افطر الحاجم والمحجوم»، كان منه عام الفتح، في صحيح الأثر بذلك"(2).
الثاني: ويدل على النسخ أيضا قوله في حديث أنس رضي الله عنه السابق: «ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعدُ في الحجامة» ، وغالب ما يستعمل الترخيص بعد النهي (3).
الجواب الثاني: أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما أصح سندا، فوجب تقديمه (4).
الجواب الثالث: أن معناه: تَعَرَضا للفطر، أما المحجوم: فلضعفه بخروج الدم، فربما لحِقَه مشقة فعجز عن الصوم فأفطر بسببها. وأما الحاجم: فقد يصل إلى جوفه شيء من الدم أو غيره إذا ضم شفتيه على قارورة الحجامة. كما يقال للمتعرض للهلاك: هَلَكَ فلان، وإن كان باقيا سالما. وكقوله صلى الله عليه وسلم:«من ولي القضاء فقد ذُبِح بغير سكين» (5)؛ أي: تعرض للذبح بغير سكين (6).
ثانيا: وأما قولهم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما إن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو مسافر، والمسافر إذا نوى الصوم له الفطر بالأكل والشرب والحجامة، فيجاب عنه:
(1) ينظر: المجموع 6/ 352، والسنن الكبرى للبيهقي 4/ 446، والحاوي الكبير 3/ 461.
(2)
الاستذكار 3/ 325.
(3)
ينظر السنن الكبرى للبيهقي 4/ 446، والمجموع 6/ 352.
(4)
المصدران السابقان.
(5)
رواه أبو داوود 3/ 298 رقم 3571، كتاب الأقضية، باب في طلب القضاء، واللفظ له، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والترمذي 3/ 606 رقم 1325، أبواب الأحكام، باب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القاضي، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/ 514 رقم 2171:"حسن صحيح".
(6)
ينظر: معالم السنن 2/ 110، والمجموع 6/ 353.
أن هذا التأويل غير صحيح؛ لأن ابن عباس رضي الله عنه قد أثبت الصيام للنبي صلى الله عليه وسلم حين احتجم؛ ولو أن الحجامة كانت قد أفسدت صومه صلى الله عليه وسلم لقال: إنه صلى الله عليه وسلم أفطر بالحجامة، كما يقال: أفطر الصائم بشرب الماء، وبأكل التمر، وما أشبه ذلك، ولا يقال: شَرِب الماء صائما، ولا أكل التمر وهو صائم (1).
ثالثا: وأما استدلالهم بأن الصحابة كانوا يؤخرون الاحتجام إلى الليل، فيجاب عنه:
بأن عمل الصحابة ليس صريحا في كونهم يرون الفطر بالحجامة. ولعل هذا التأخير إلى الليل خشية الضعف الذي يؤدي إلى الفطر، ويؤيد ذلك أن أنسا رضي الله عنه وأبا سعيد رضي الله عنه قد عللا ترك الصحابة للحجامة بذلك كما سبق.
والله أعلم.
(1) ينظر: معالم السنن 2/ 111، والمجموع 6/ 353.