الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: في النية للفرض
وفيه ست مسائل:
المسألة الأولى: حكم تبييت النية للفرض.
المسألة الثانية: حكم النية لكل يوم من رمضان.
المسألة الثالثة: حكم تعيين النية.
المسألة الرابعة: حكم الجهر بالنية.
المسألة الخامسة: هل يشترط أن تعقد النية في جزء معين من الليل؟ .
المسألة السادسة: حكم ما إذا فعل بعد النية قبل الفجر ما ينافي الصوم.
المسألة الأولى: حكم تبييت النية (1) للفرض.
اختيار الشيخ: اختار أنه يجب تبييت النية لصيام الفرض، سواء كان متعينا أو غير متعين، فقال:"وقد أتضح بهذا أنه لا دليل في حديث عاشوراء على كون حديث حفصة خاصا بالصوم الواجب الغير المتعين، ولا وجه لتخصيص القضاء، و (النذر المطلق) (2)، والكفارات بوجوب التبييت، بل هو واجب في كل صوم إلا في تلك الصورة التي ذكرناها، أعني: فيمن لم ينكشف له أن اليوم من رمضان إلا في النهار، وفي صوم التطوع؛ لحديث عائشة المتقدم. وهذا هو القول الراجح عندنا"(3).
تحرير محل الخلاف: اتفق أهل العلم أنه لا يصح صوم إلا بنية، فرضا كان أو تطوعا (4). وأجمعوا أن من صام رمضان، ونواه من الليل، فقد أدى ما عليه (5).
واتفقوا أن صيام النذر المطلق، والقضاء، والكفارات، لا بد فيه من نية من الليل (6).
واختلفوا في آخر وقت النية المجزئة عن صوم الفرض المتعين، كشهر رمضان، والنذر المعين، على قولين:
القول الأول: يصح صومه إذا نوى قبل انتصاف النهار.
وبه قال: الحنفية (7).
(1) النية في اللغة: من نوى الشيء: إذا قَصَدَه وتوجه إليه. ينظر: تاج العروس 40/ 139. وفي الشرع: هي قصد الإنسان بقلبه ما يريده بفعله. ينظر: الذخيرة 1/ 240.
(2)
النذر المطلق: أن يقول لله علي نذر، ولا يعين وقت. ينظر: القاموس الفقهي ص 350.
(3)
مرعاة المفاتيح 6/ 466. حديث عاشوراء ص 133 حفصة ص 151 عائشة ص 166.
(4)
ينظر: بداية المجتهد 2/ 55، المغني 3/ 109، بدائع الصنائع 2/ 83، المجموع 6/ 300. ولم يخالف إلا زفر من الحنفية، فقال: "يصح صوم رمضان في حق المقيم الصحيح بغير نية". ينظر: بدائع الصنائع 2/ 83، والبناية للعيني 4/ 4.
(5)
ينظر: الإجماع لابن المنذر ص 49، الإقناع لابن القطان 1/ 227، مراتب الإجماع ص 39.
(6)
ينظر: منحة السلوك ص 255، الحاوي الكبير 3/ 397، بداية المجتهد 2/ 56، المغني 3/ 109.
(7)
المبسوط 3/ 62، درر الحكام 1/ 197، مراقي الفلاح 1/ 238، رد المحتار 2/ 377. وخالف زفر في المريض والمسافر إذا صاما رمضان، فقال: "لا بد لهما من تبييت النية من الليل لأنه في حقهما كالقضاء لعدم تعينه عليهما". ينظر: بدائع الصنائع 2/ 85، وفتح القدير 2/ 303.
القول الثاني: لا يصح صومه إلا بنية من الليل.
وبه قال: المالكية (1)، والشافعية (2)، والحنابلة (3)، والظاهرية (4)، وهو اختيار الشيخ.
سبب الخلاف: قال ابن رشد: "والسبب في اختلافهم تعارض الآثار في ذلك"(5).
أدلة القول الأول: القائلين بأنه يصح صومه إذا نوى قبل انتصاف النهار.
الدليل الأول: قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} إلى قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (6).
وجه الاستدلال من الآية: إن لفظة (ثُمَّ) تفيد التراخي، فإذا علمت أن الإجماع قائم على وجوب الإمساك عن المفطرات من الفجر، ووجوب الإمساك من الفجر مدلول عليه بذكر الغاية إلى الْفَجْرِ، فإنّ معناه أن ما كان حلالا قبله يحرم بمجيئه، وذلك بالإمساك من الفجر، فإذا أمسكنا فعلينا الإتمام الذي أتى في الآية بلفظة (ثُمَّ) التي تفيد التراخي، والإتمام إنما يكون بقصد، فكأنّ النية التي هي القصد لم تُطلب إلا بعد تحقّق الصيام، فكان ذلك دليلا على أنّ النية تكون بعد الصيام، فلا يلزم تبييتها، وهو المطلوب (7).
الدليل الثاني: عن سَلَمَة بن الأكْوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا ينادي في الناس يوم عاشوراء: «أن من أكل فليتم أو فليصم، ومن لم يأكل فلا يأكل» (8).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر يوم عاشوراء أن يصوموا بنية من النهار، وكان صوما واجبا، ولولا أن الواجب يصح بنية من النهار؛ لم يجزهم (9).
(1) الكافي 1/ 335، الذخيرة 2/ 498، القوانين الفقهية ص 79، مواهب الجليل 2/ 418.
(2)
الأم 2/ 104، الحاوي 3/ 397، حلية العلماء 3/ 154، المجموع 6/ 301، منهاج الطالبين ص 74.
(3)
الكافي 1/ 439، الفروع 4/ 451، شرح الزركشي 2/ 563، دقائق أولي النهى 1/ 478.
(4)
المحلى 4/ 285.
(5)
بداية المجتهد 2/ 56.
(6)
سورة البقرة: آية: 187.
(7)
ينظر: تفسير آيات الأحكام ص 92، روح المعاني للألوسي 1/ 464، وبدائع الصنائع 2/ 86، وعمدة القاري 10/ 305.
(8)
سبق تخريجه صفحة (113).
(9)
ينظر: كتاب الصيام من شرح العمدة 1/ 184 - 185.
الدليل الثالث: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ربما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدائه فلا يجده، فيفرض عليه الصوم ذلك اليوم» (1).
الدليل الرابع: عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح، ولم يُجْمِع (2) للصوم فيبدو له فيصوم» (3).
الدليل الخامس: ولأنه غير ثابت في الذمة، فهو كصيام التطوع (4).
الدليل السادس: "ولأن النية لما جاءت في الليل وهو ليس بوقت للصوم، فلأن تجوز في النهار وهو وقت الصوم أولى"(5).
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه لا يصح صومه إلا بنية من الليل.
الدليل الأول: عن حفصة (6) رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له» (7).
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 291 رقم 9105، كتاب الصيام، باب من كان يدعو بغدائه فلا يجد فيفرض الصوم، والدارقطني في السنن 3/ 139 رقم 2238، وقال:"عبد الله هذا ليس بالمعروف"، وقال فيه ابن حزم في المحلى 4/ 300:"قلنا: ليث ضعيف".
(2)
قوله يُجْمِع: هو إحْكام النية والعزيمة. يقال: أجمعت الرَّأي وأزمَعته، وعزَمْتُ عَلَيْهِ بمعْنًى. ينظر: النهاية 1/ 296، ولسان العرب 8/ 57، والتحبير 6/ 212.
(3)
أخرجه الجصاص في أحكام القرآن 1/ 276، وذكره ابن حزم في المحلى 4/ 300، وفي سنده يعقوب بن عطاء بن أبي رباح، قال عنه ابن حجر في التقريب رقم 7826:"ضعيف"، وعمر بن هارون البلخي، قال عنه الذهبي في الكاشف رقم 4118:"واه، اتهمه بعضهم".
(4)
ينظر: مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح ص 238.
(5)
منحة السلوك في شرح تحفة الملوك 1/ 254.
(6)
هي: حفصة بنت عمر بن الخطاب، أم المؤمنين، صحابية جليلة، ولدت بمكة، وتزوجها خنيس بن حذافة السهمي، وهاجرت معه إلى المدينة فمات عنها، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفيت بالمدينة سنة 45 هـ. ينظر: الطبقات الكبرى 8/ 81، معرفة الصحابة 6/ 3213، سير أعلام النبلاء 2/ 227.
(7)
أخرجه أبو داود 2/ 329 رقم 2454، كتاب الصوم ،باب النية في الصيام، والنسائي 4/ 196 رقم 2331، كتاب الصيام، باب النية في الصيام، وابن ماجه 1/ 542 رقم 1700، كتاب الصيام، باب ما جاء في فرض الصوم من الليل، والخيار في الصوم. وصححه الألباني في الإرواء برقم 914.
وجه الاستدلال: الحديث يدل على أنه لا يصح الصيام إلا بتبييت النية، وهو: أن ينوي الصيام في أي جزء من الليل، وأول وقتها الغروب؛ وذلك لأن الصوم عمل والأعمال بالنيات، وأجزاء النهار غير منفصلة من الليل بفاصل يتحقق، فلا يتحقق إلا إذا كانت النية واقعة في جزء من الليل (1).
الدليل الثاني: ولأنه قول عائشة وحفصة وابن عمر رضي الله عنهم، ولا يُعرف لهم مخالف من الصحابة (2).
الدليل الثالث: ولأن الصوم الواجب هو الإمساك من أول النهار إلى آخره؛ فإذا خلا أوله عن النية؛ فقد خلا بعض العبادة الواجبة عن النية؛ ذكرا واستصحابا، وذلك لا يجوز. ولأنه إذا لم يعتقد الصوم أول النهار؛ لم يكن ممتثلا للأمر بصومه؛ لأن امتثال الأمر بدون القصد لا يصح (3).
الدليل الرابع: ولأنه صوم واجب، فلم يصح إلا بنية من الليل؛ كصوم الكفارة والقضاء والنذر المطلق (4).
الدليل الخامس: ولأنها عبادة من شرطها النية، فلم تصح بنيةٍ تكون بعد الدخول فيها؛ كالصلاة والحج (5).
الدليل السادس: ولأنها عبادة تؤدى وتقضى، فوجب أن يستوي فيها وقت النية في الأداء والقضاء كالصلاة (6).
الدليل السابع: ولأن النية هي أحد ركنَي الصيام، فيجب أن لا يُجزئ الصوم متى مضى بعض اليوم عاريا منها، كما لم يُجزئ الصوم إذا مضى بعض اليوم عاريا من الإمساك (7).
(1) ينظر: سبل السلام 1/ 561.
(2)
كتاب الصيام من شرح العمدة /182.
(3)
ينظر: المصدر السابق 1/ 184.
(4)
ينظر: المصدر السابق 1/ 184، والإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 424، والمنتقى 2/ 41.
(5)
ينظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 424، والمعونة له 1/ 457.
(6)
ينظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 424، والمغني 3/ 110.
(7)
ينظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 424، والمعونة له 1/ 457.
الراجح: الذي يترجح والله أعلم هو القول الثاني: أنه لا يصح صومه إلا بنية من الليل؛ وذلك لقوة ما استدلوا به، ولأن حديث حفصة رضي الله عنها نص في محل النزاع.
وأما ما استدل به أصحاب القول الأول، فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما استدلالهم بالآية فيجاب عنه:
"أنّ الآية تدلّ على التبييت؛ وذلك أن معنى أَتِمُّوا الصِّيامَ صيّروه تاما من الفجر، وهو لا يكون تاما من الفجر إلا بالنية، وهذا هو الظاهر؛ لأنّ إتمام الشيء لا يكون إلا لشيء قد شرع فيه، وهو هنا الصوم. وقد عَلِمتَ أن الصوم لا يكون صوما إلا بالنية؛ تمييزا للعادة من العبادة؛ إذ قد يمسك الإنسان عن الأكل حِميَة، ثم لا يكون صوما؛ لأنه لم ينو"(1).
ثانيا: وأما استدلالهم بحديث سلمة بن الأكْوع ¢، وقولهم في دلالته: فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء أن يصوموا بنية من النهار، وكان صوما واجبا؛ ولولا أن الواجب يصح بنية من النهار لم يجزهم. فيجاب عنه من أربعة وجوه:
الوجه الأول: قد لا يسلم لكم أن صيام عاشورا كان واجبا، بدليل حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما إذ يقول: يا أهل المدينة أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:«هذا يوم عاشوراء، ولم يُكتَب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر» (2)؛ فلو كان واجبا لما خيرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصيام والفطر (3).
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتفي بأمر من كان ممسكا أن يتم صومه، بل أمر حتى من كان مفطرا بإمساك بقية يومه، كما مر في الحديث؛ وإمساك بقية اليوم بعد الأكل ليس بصيام شرعي، وإنما سماه صياما تجوزا (4).
الوجه الثالث: وعلى القول إن صيام عاشوراء كان واجبا فالفرق بينه وبين رمضان: أن وجوب الصيام تجدد في أثناء النهار، فأجزأته النية حين تجدد الوجوب؛ كمن كان صائما
(1) تفسير آيات الأحكام ص 93، وينظر روح المعاني للألوسي 1/ 464.
(2)
رواه البخاري 3/ 44 رقم 2003، كتاب الصيام، باب صيام يوم عاشوراء، ومسلم 2/ 795 رقم 1129، كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء.
(3)
ينظر المغني 3/ 110.
(4)
ينظر المصدر السابق.
تطوعا، فنَذَرَ إتمام صوم بقية يومه، فإنه تُجزئه نيته عند نَذره، بخلاف ما إذا كان النذر متقدما (1).
الوجه الرابع: إنما صحت النية في نهار عاشوراء لكون الرجوع إلى الليل غير مقدور، والنزاع فيما كان مقدورا، فيُخَصّ الجواز بمثل هذه الصورة، يعني: من أنكشف له في النهار أن ذلك اليوم من رمضان، وكمن ظهر له وجوب الصوم عليه من النهار كالمجنون يفيق، والصبي يَحتَلِم (2).
ثالثا: وأما استدلالهم بحديث عائشة وحديث ابن عباس رضي الله عنهم، فيجاب عنه:
أنهما ضعيفان ولا يحتج بمثلهما.
رابعا: وأما قياسهم جواز عدم تبييت النية في رمضان على جوازها في النفل؛ بجامع أن كُلّا منهما غير ثابت في الذمة، فيجاب عنه:
أن التطوع سومح في نيته من الليل تكثيرا له، فإنه قد يبدو له الصوم في النهار، فاشتراط النية في الليل يمنع ذلك، فسامح الشرع فيها؛ كمسامحته في ترك القيام في صلاة التطوع، وترك الاستقبال فيه في السفر تكثيرا له، بخلاف الفرض (3).
والله أعلم.
(1) ينظر المغني 3/ 110، والشرح الكبير على المقنع 3/ 24.
(2)
ينظر نيل الأوطار 4/ 233، وشرح الرسالة للقاضي عبد الوهاب 1/ 154.
(3)
ينظر: المغني 3/ 110، والشرح الكبير على متن المقنع 3/ 24.