الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثامن: هل يقضي الصوم من تمضمض أو استنشق فغلبه الماء
؟ .
اختيار الشيخ: اختار وجوب القضاء فقال: "الراجح عندي هو الوجه الأول فيجب عليه القضاء، والله تعالى أعلم"(1).
تحرير محل الخلاف: أجمع أهل العلم على أن لا شيء على الصائم فيما يبتلعه مما يجري مع الريق مما بين أسنانه مما لا يقدر على الامتناع منه (2).
تحرير المسألة: تأتي هذه المسألة عند الفقهاء ولها شقان:
الشق الأول: من توضأ وهو صائم، فغلبه الماء في المضمضة والاستنشاق دون أن يبالغ فيهما، وهذه المسألة ليست معنا؛ لأن الشيخ لم يرجح فيها شيئا.
الشق الثاني: من توضأ وهو صائم، فغلبه الماء عند المضمضة والاستنشاق بسبب أنه بالغ فيهما، أو زاد على الثلاث، وهذه المسألة هي التي رجح فيها الشيخ ما ذُكِر في اختياره (3).
وقد اختلفوا فيها على قولين:
القول الأول: يفسد صومه، ويمسك وعليه قضاء ذلك اليوم.
وبه قال: الحنفية (4)، والمالكية (5) ، والشافعية في الصحيح (6)، والحنابلة في رواية (7) ، وهو اختيار الشيخ رحمه الله.
(1) مرعاة المفاتيح 6/ 531. انظر الحاشية رقم ثلاثة.
(2)
ينظر: الإجماع لابن المنذر ص 49، الإشراف له 3/ 134، الإقناع في مسائل الإجماع 1/ 237.
(3)
نقل الشيخ كلام الموفق في المغني 3/ 124، حيث قال: "فأما إن أسرف فزاد على الثلاث أو بالغ في الاستنشاق فقد فعل مكروها
…
فإن وصل إلى حلقه فقال أحمد يعجبني أن يعيد الصوم، وهل يفطر بذلك؟ على وجهين
…
". فقال الشيخ مرجحا: "قلت: الراجح عندي هو الوجه الأول فيجب عليه القضاء والله تعالى أعلم". مرعاة المفاتيح 6/ 531.
(4)
المبسوط 3/ 66، بدائع الصنائع 2/ 91، تحفة الفقهاء 1/ 354، رد المحتار 2/ 401. وعندهم: إذا لم يكن ذاكرا لصومه وغلبه الماء فلا قضاء عليه وصيامه صحيح. تنظر المصادر السابقة.
(5)
المدونة 1/ 271، الإشراف 1/ 437، الذخيرة 2/ 508، التاج والإكليل 3/ 350. ولا فرق عندهم: بين أن يكون ذاكرا لصومه أو ناسيا في إيجاب القضاء، ولكنهم يوجبونه في الفرض دون النفل.
(6)
مختصر المزني 8/ 154، الحاوي الكبير 3/ 457، المجموع 6/ 327، كفاية النبيه 6/ 322.
(7)
الهداية ص 158، المغني 3/ 124، المحرر 1/ 229، المنح الشافيات 1/ 329.
القول الثاني: لا يفطر وهو باقي على صيامه.
وبه قال: الشافعية في قول (1)، والحنابلة في المذهب (2) ، والظاهرية (3).
سبب الخلاف: والسبب في اختلافهم -والله أعلم-: هل من تعمد المبالغة في الاستنشاق والاستنثار أو من زاد عن الثلاث في الوضوء، يضمنُ ما ترتب عن فعله أو لا يضمن؟ .
أدلة القول الأول: القائلين يفسد صومه، ويمسك وعليه قضاء ذلك اليوم.
الدليل الأول: عن لَقِيط بْن صَبِرَة (4) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ««بالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائما» (5).
وجه الاستدلال: أن النهي عن المبالغة التي فيها كمال السنة عند الصوم دليل على أن دخول الماء في حلقه مفسد لصومه (6).
قال الكاساني: "ومعلوم أن استثناءه حالة الصوم للاحتراز عن فساد الصوم؛ وإلا لم يكن للاستثناء معنى"(7).
الدليل الثاني: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: هششت فقَبَّلت وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله صنعت اليوم أمرا عظيما، قَبَّلت وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أرأيت لو تمضمضت من الماء وأنت صائم» ، قلت: لا بأس به، قال:«ففيم؟ » (8).
(1) الحاوي الكبير 3/ 457، التنبيه ص 66، المجموع 6/ 326، كفاية النبيه 6/ 32.
(2)
الهداية ص 158، الكافي 1/ 443، الشرح الكبير 3/ 44، المحرر 1/ 229.
(3)
المحلى 4/ 349، 435.
(4)
هو: لَقِيط بن عامر بن صَبِرة بن عبد الله بن المنتفق، له صحبة، روى عنه: وكيع بن عدس، وابنه عاصم بن لقيط، روى له البخارِي في الأدب، والباقون سوى مسلم. ينظر: الاستيعاب 3/ 1340، الإصابة 5/ 508، وتهذيب الكمال 24/ 248، وتهذيب التهذيب 8/ 456.
(5)
رواه أبو داود 2/ 308 رقم 2366، في الصوم، باب الصائم يصب عليه الماء من العطش ويبالغ في الاستنشاق، والترمذي 3/ 146 رقم 788، في الصيام، باب ما جاء في كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم، وابن ماجه 1/ 142 رقم 407، في الطهارة، باب المبالغة في الاستنشاق والاستنثار، وصححه الألباني في صحيح أبي داود 1/ 241.
(6)
ينظر: المبسوط للسرخسي 3/ 66، والمعتصر من المختصر 1/ 12، وشرح العمدة كتاب الصيام 1/ 469.
(7)
بدائع الصنائع 2/ 91.
(8)
سبق تخريجه صفحة (269).
وجه الاستدلال: أنه صلى الله عليه وسلم شَبَّه القُبلة بالمضمضة، ووجه الشبه: أنه إذا قَبَّل فأنزل، بطل صومه؛ فكذلك إذا تَمَضْمَض فوصل إلى جوفه، بطل صومه، ويقاس الاستنشاق عليها (1).
قال ابن تيمية: "فشَبَّه القُبلة بالمضمضة في أن كُلّا منهما مقدمة لغيره، فإذا لم يحصل ذلك الغير لم يؤثر، فيجب إذا حصل ذلك الغير أن يؤثر. والمضمضة مقدمة الأكل، والقُبلة مقدمة الإنزال، ولولا أنهما مُستوِيان في الموضعين لَما حسُن قياس أحدهما بالآخر"(2).
الدليل الثالث: أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء، فأراه الوضوء ثلاثا ثلاثا، ثم قال:«هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظَلَم» (3).
وجه الاستدلال: أن من توضأ، فزاد على الثلاث في المضمضة والاستنشاق، فاعل لما نُهِي عنه بنص هذا الحديث، فإذا غلبه الماء في الرابعة، لم يُضمَن ما ترتَّب عن فِعله؛ لأنه ارتكب ما لم يؤذَن له فيه، فكان ضامنا لما أفسده (4).
الدليل الرابع: ولأن المُبالَغة منهي عنها في الصوم، وما نَتَج عن سبب منهي عنه فهو كالمباشر لذلك السبب، والدليل عليه: أنه إذا جرح إنسانا فمات، جُعِل كأنه باشرَ قَتْلَه (5).
الدليل الخامس: ولأن وصول الماء إلى الجوف وهو ذاكرٌ لصومه -وإن أَخطأَ في الفِعل-، ليس إلا لتقصير في الاحتراز، فيُناسِب الفساد؛ إذ فيه نوع إضافة إليه، بخلاف النسيان (6).
الدليل السادس: ولأن الماء وصل بفعل منهي عنه، فأشبه التعمد (7).
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه لا يفطر وهو باقي على صيامه.
(1) ينظر: كفاية النبيه 6/ 322، والحاوي الكبير 3/ 458.
(2)
شرح العمدة 1/ 469.
(3)
رواه النسائي 1/ 88 رقم 140، في الطهارة باب: الاعتداء في الوضوء، وابن ماجه 1/ 146 رقم 422، في الطهارة باب ما جاء في القصد في الوضوء وكراهية التعدي فيه، وأحمد 11/ 277 رقم 6684، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة 6/ 1196:"هذا إسناد حسن".
(4)
ينظر: شرح عمدة الفقه كتاب الصيام 1/ 469، وبدائع الصنائع 2/ 91.
(5)
ينظر: المجموع 6/ 326، كفاية النبيه 6/ 323.
(6)
ينظر: فتح القدير لابن الهمام 2/ 329.
(7)
ينظر: المغني 3/ 124، والشرح الكبير 3/ 44.
الدليل الأول: لأن فعله ذلك كان بغير اختياره؛ فكان مغلوبا عليه. ولأن الماء وصل إلى حلقه من غير قصد؛ فأشْبَه غبار الطريق إذا وصل إلى حلقه (1).
قال الماوردي: "أنه مغلوب على هذا الفعل؛ فصار بمثابة من أُكرِه على الأكل. ولأنه واصل إلى جوفه من غير قَصدِه، فوجب أن لا يفطر؛ أصله الذباب إذا طار إلى حَلقه"(2).
الدليل الثاني: ولأن الشرع أَذِن له في السبب -الذي هو المضمضة والاستنشاق في الوضوء- فلم يؤاخذه بما نَتَج عنه، (كالسِراية)(3) عند إقامة الحدود؛ فإنها غير مضمونة (4).
الدليل الثالث: ولأن الفطر يقع تارة بما يصل إلى الجوف، وتارة بما ينفصل عنه. ثم تقرر أن ما ينفصل عنه بلا اختيار كالقيء والإنزال لا يفطر؛ فكذلك ما وصل إليه من المضمضة والاستنشاق بالاختيار لا يفطر (5).
الترجيح: الذي يترجح في هذه المسألة -والله أعلم- هو القول الأول: أنه يفطر وعليه قضاء ذلك اليوم؛ لصحة أدلتهم، ولدلالتها على المطلوب، وحديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه واضح الدلالة على ذلك؛ لأن استثناءه صلى الله عليه وسلم المبالغة حال الصوم من أجل الاحتراز عن فساد الصوم، وإلا لم يكن للاستثناء معنى كما قرَّره الكاساني (6).
وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما قولهم: إن فعله ذلك كان بغير اختياره، فكان مغلوبا عليه. ولأن الماء وصل إلى حلقه، من غير قصد، فيجاب عنه:
(1) ينظر: المغني 3/ 124، المنح الشافيات 1/ 329، المحلى 4/ 349، المجموع 6/ 326.
(2)
الحاوي الكبير 3/ 458.
(3)
قال في المصباح المنير 1/ 275: "قول الفقهاء سرى الجرح إلى النفس، معناه: دام ألمه حتى حدث منه الموت. وقطع كفه فسرى إلى ساعده، أي: تعدى أثر الجرح. وسرى التحريم، وسرى العتق، بمعنى التعدية. وهذه الألفاظ جارية على ألسنة الفقهاء وليس لها ذكر في الكتب المشهورة".
(4)
ينظر: شرح العمدة 1/ 466 - 467.
(5)
ينظر: الحاوي الكبير 3/ 458.
(6)
ينظر: بدائع الصنائع 2/ 91.
أن الماء لا يسبق الحلق في المضمضة والاستنشاق عادةً إلا عند المبالغة فيهما، والمبالغةُ منهي عنها في حق الصائم، فكان في مبالغته متعديا فلم يُعذر (1).
ثانيا: وأما قولهم: إن الشرع أذن له في السبب -الذي هو المضمضة والاستنشاق في الوضوء- فلم يؤاخذه بما نتج عنه، كالسراية عند إقامة الحدود، فإنها غير مضمونة، فيجاب عنه:
أن فِعله هذا نَتَج عن فعل منهي عنه، فكان كالمباشِر للفِعل؛ بدليل: أنه لو جَرَح إنسانا فمات، لم يُعذر، وكان فِعله ذلك كمباشرَة قَتْله (2).
ثالثا: وأما قولهم: إن الفطر يقع تارة بما يصل إلى الجوف، وتارة بما ينفصل عنه. ثم تقرر أن ما ينفصل عنه بلا اختيار كالقيء والإنزال، لا يفطر، فكذلك ما وصل إليه من المضمضة والاستنشاق بالاختيار لا يفطر، فيجاب عنه:
أن هذا الدليل قد يكون لصالح أصحاب القول الأول، فيقال: إن الفطر يقع تارة بما يصل إلى الجوف، وتارة بما ينفصل عنه. ثم تقرر أن ما ينفصل عنه باختيار كالاستقاء والاستمناء يُفَطِّر، فكذلك ما وصل إليه من المضمضة والاستنشاق بالاختيار يُفَطِّر؛ وذلك أن المستقيء والمستمني قد باشرا السبب المنهي عنه الذي بسببه كان الفطر، والمُبالِغ في المضمضة والاستنشاق أيضا قد باشر السبب المنهي عنه الذي بسببه كان الفطر. والله أعلم.
(1) ينظر: بدائع الصنائع 2/ 91، تحفة الفقهاء 1/ 354.
(2)
ينظر: كفاية النبيه 6/ 322.