الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثامن: حكم قضاء الاعتكاف
.
اختيار الشيخ: اختار استحباب قضاء اعتكاف النفل لمن اعتاده، فقال:"قلت في الحديث (1) دليل على أن من اعتاد اعتكاف أيام ثم لم يمكنه أن يعتكفها أنه يستحب له قضاؤها، فكان قضاؤه صلى الله عليه وسلم له على طريق الاستحباب"(2).
تحرير محل الخلاف: لا خلاف بين الفقهاء في قضاء الاعتكاف الواجب بالنذر إذا قطعه (3).
واختلفوا في قضاء الاعتكاف المندوب، على قولين:
القول الأول: يجب قضاء الاعتكاف المندوب إذا شرع فيه ثم قطعه.
وبه قال: الحنفية في رواية الحسن اللؤْلُؤِي (4) عن أبي حنيفة (5) ، والمالكية (6).
القول الثاني: يستحب قضاء الاعتكاف المندوب إذا شرع فيه ثم قطعه.
وبه قال: الحنفية في رواية الأصل (7) ، والشافعية (8) ، والحنابلة (9)، وهو اختيار الشيخ.
أدلة القول الأول: القائلين بأنه يجب قضاء الاعتكاف المندوب إذا شرع فيه ثم قطعه.
الدليل الأول: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فاستأذنته عائشة، فأذن لها، وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها ففعلت، فلما رأت ذلك زينب ابنة جحش أمرت ببناء، فبني لها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى انصرف إلى بنائه، فبصر بالأبنية، فقال:«ما هذا» ؟ قالوا: بناء عائشة وحفصة وزينب. فقال
(1) يعني حديث عائشة الآتي ذِكره في نفس الصفحة (657).
(2)
مرعاة المفاتيح 7/ 156.
(3)
ينظر: بداية المجتهد 2/ 82، بدائع الصنائع 2/ 117، المغني 3/ 196، فتح القدير لابن الهمام 2/ 400.
(4)
هو: الحسن بن زياد اللؤْلُؤِي، صاحب الإمام أبي حنيفة، نسبته إلى بيع اللؤلؤ، من أهل الكوفة، نزل ببغداد، أخذ عن: أبي يوسف القاضي، وغيره، توفي سنة 204 هـ، من كتبه: أدب القاضي؛ والخراج. ينظر: الجواهر المضية 1/ 193؛ والفوائد البهية ص 60؛ والأعلام 2/ 205.
(5)
بدائع الصنائع 2/ 115، تحفة الفقهاء 1/ 373، الجوهرة النيرة 1/ 146، البناية 4/ 125، رد المحتار 2/ 447.
(6)
المدونة 1/ 295، الرسالة ص 63، المعونة 1/ 495، جامع الأمهات ص 181.
(7)
بدائع الصنائع 2/ 115، تحفة الفقهاء 1/ 373، الجوهرة النيرة 1/ 146، البناية 4/ 125، رد المحتار 2/ 447.
(8)
المجموع 6/ 490، العزيز 3/ 259، روضة الطالبين 2/ 396، الغرر البهية 2/ 238.
(9)
الكافي 1/ 459، المغني 3/ 198، شرح الزركشي 3/ 13، المبدع 3/ 63.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آلبر أردن بهذا؟ ! ما أنا بمعتكف» . فرجع، فلما أفطر اعتكف عشرا من شوال (1).
وجه الاستدلال: في هذا الحديث أن الاعتكاف يلزم إذا نوى المكلف الدخول فيه، فإذا دخل الإنسان ثم قطعه لزمه قضاؤه (2).
قال الإمام مالك: "والمتطوع في الاعتكاف، والذي عليه الاعتكاف، أمرهما واحد. فيما يحل لهما ويحرم عليهما. ولم يبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اعتكافه إلا تطوعا"(3).
قال الزرقاني -مُعلِّقا على كلام الإمام مالك-: "وقد قضاه لمّا قطعه للعذر؛ فَيُفيد وجوب قضاء الاعتكاف التطوع لمن قطعه بعد الدخول فيه"(4).
الدليل الثاني: ولأن المعتكِف التزم أداء عبادة، فوجب إتمامها؛ صيانةً للمؤدى عن البُطلان. ومَسَّت الحاجة إلى صيانة المؤدى ههنا؛ لأن القَدْر المؤدى انعقد قُربةً، فيحتاج إلى صيانةٍ، وذلك بالمضي فيه إلى آخر اليوم (5).
الدليل الثالث: وقياسا على من قطع حج النفل عمدا أو مُكرَها، فإنه يجب عليه قضاؤه؛ فكذا هنا (6).
الدليل الرابع: ولأنها عبادة لها تعلق بالمسجد، يَحرُم فيها الجِماع ويُبطِلها، فلزِمت بالدخول فيها كالحج (7).
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه يستحب قضاء الاعتكاف المندوب إذا شرع فيه ثم قطعه.
الدليل الأول: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فاستأذنته عائشة، فأذن لها، وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها ففعلت، فلما رأت ذلك
(1) رواه البخاري 3/ 51 رقم 2045، في الاعتكاف، باب من أراد أن يعتكف، ثم بدا له أن يخرج، واللفظ له، ومسلم 2/ 831 رقم 1172، في الاعتكاف، باب متى يدخل من أراد الاعتكاف.
(2)
ينظر: الاستذكار 3/ 398، شرح الزرقاني للموطأ 2/ 313.
(3)
الموطأ 1130/ 327.
(4)
شرح الموطأ 2/ 314.
(5)
ينظر: بدائع الصنائع 2/ 115، ورد المحتار 2/ 444، والمنتقى للباجي 2/ 84.
(6)
ينظر: الاستذكار 3/ 398، والمعونة 1/ 495.
(7)
ينظر: المعونة 1/ 495.
زينب ابنة جحش أمرت ببناء، فبني لها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى انصرف إلى بنائه، فبصر بالأبنية، فقال:«ما هذا» ؟ قالوا: بناء عائشة وحفصة وزينب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آلبر أردن بهذا؟ ! ما أنا بمعتكف» . فرجع، فلما أفطر اعتكف عشرا من شوال (1).
وجه الاستدلال: في الحديث جواز الخروج من نفل الاعتكاف، وأنه لا يجب قضاؤه إن تَرَكه، وأما قضاؤه صلى الله عليه وسلم فعلى طريق الاستحباب.
قال ابن قدامة: "إن النبي صلى الله عليه وسلم ترك اعتكافه، ولو كان واجبا لما تركه، وأزواجه تركن الاعتكاف بعد نيته وضرب أبنيتهن له، ولم يوجد عذر يمنع فعل الواجب، ولا أُمِرْن بالقضاء. وقضاء النبي صلى الله عليه وسلم له لم يكن واجبا عليه، وإنما فعله تطوعا؛ لأنه كان إذا عمل عملا أثبته، وكان فعله لقضائه كفعله لأدائه، على سبيل التطوع به، لا على سبيل الإيجاب، كما قضى السنة التي فاتته بعد الظهر وقبل الفجر. فتَرْكُه له دليل على عدم الوجوب؛ لتحريم ترك الواجب، وفعله للقضاء لا يدل على الوجوب؛ لأن قضاء السنن مشروع"(2).
الدليل الثاني: ولأن الاعتكاف غير مقدر بالشرع، فأشبه الصدقة، وقد انعقد الإجماع على أن الإنسان لو نوى الصدقة بمال مقدر، وشرع في الصدقة به، فأخرج بعضه، لم تلزمه الصدقة بباقيه، فكذا الاعتكاف (3).
الترجيح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الثاني: أنه يستحب قضاء الاعتكاف المندوب لمن شرع فيه ثم قطعه ولا يجب؛ لصحة أدلة هذا القول، ولأن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم لم يُنقَل عنهن أنهن قَضَيْن اعتكافهن، ولا أَمَرَهن النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء، ولو كان القضاء واجبا لأمرهن صلى الله عليه وسلم به (4)، ولأن القول بوجوب قضاء النفل مبني على القول بوجوب إتمام النفل بعد الشروع فيه، والراجح خلافه (5)، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليخرج من اعتكافه بعد أن شرع فيه لو كان واجبا بالشروع.
(1) سبق تخريجه صفحة (657 - 658).
(2)
المغني 3/ 187.
(3)
ينظر: المغني 3/ 187، والشرح الكبير 3/ 119 - 120.
(4)
ينظر: إرشاد الساري 3/ 442.
(5)
ينظر: فتح الباري 4/ 277.
وأما ما استدل به أصحاب القول الأول فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما استدلالهم بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم في شوال ما تركه من اعتكاف في رمضان، -على وجوب قضاء اعتكاف النفل فيجاب عنه من وجهين:
الأول: أن قضاء النبي صلى الله عليه وسلم لما تركه من الاعتكاف في رمضان كان على سبيل الاستحباب؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملا أثبته، ولو كان القضاء واجبا لاعتكف معه نساؤه أيضا في شوال، ولم ينقل عنهنّ ذلك، ولا أَمَرَهنّ صلى الله عليه وسلم به (1).
الثاني: أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم للاعتكاف بعد شروعه فيه دليل على عدم وجوبه بالشروع، وبالتالي عدم وجوب قضائه، وذلك لتحريم ترك الواجب؟ ! (2).
ثانيا: وأما قياسهم الاعتكاف على الحج والعمرة فيجاب عنه من وجهين:
الأول: أن الوصول إلى الحج والعمرة لا يحصل في الغالب إلا بعد كُلْفَة عظيمة، ومشقة شديدة، وإنفاق مال كثير، ففي إبطالهما تضييع لماله، وإبطال لأعماله الكثيرة. وقد نُهينا عن إضاعة المال، وإبطال الأعمال (3). وليس في ترك الاعتكاف بعد الشروع فيه مال يضيع، ولا عمل يبطل، فإن ما مضى من اعتكافه، لا يبطل بترك اعتكاف المستقبل (4).
الثاني: أن نُسُك الحج والعمرة يتعلق بالمسجد الحرام على الخصوص، والاعتكاف ليس مخصوصا به (5). والله أعلم.
(1) ينظر: المغني 3/ 187، وعون المعبود 7/ 99، وتحفة الأحوذي 3/ 434.
(2)
ينظر: المغني 3/ 187.
(3)
سورة الإسراءآية 29، وسورة محمد آية:33.
(4)
ينظر: المغني 3/ 187، والشرح الكبير 3/ 120.
(5)
ينظر: المغني 3/ 187، والشرح الكبير 3/ 120.