الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: هل يجوز الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة
؟ .
اختيار الشيخ: اختار جواز الاعتكاف في المساجد الثلاثة وغيرها، فقال:"فيصح الاعتكاف في كل مسجد تقام فيه الجماعة"(1).
تحرير محل الخلاف: أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف جائز في المسجد الحرام، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومسجد بيت المقدس (2).
واختلفوا في الاعتكاف في ما سِواها من المساجد على قولين:
القول الأول: يجوز الاعتكاف في المساجد الثلاثة وغيرها من المساجد.
وهو قول جمهور أهل العلم من: الحنفية (3) ، والمالكية (4) ، والشافعية (5) ، والحنابلة (6)، والظاهرية (7)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: لا يجوز الاعتكاف إلا في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسجد بيت المقدس.
وهو قول: حذيفة بن اليمان رضي الله عنه (8).
سبب الخلاف: سبب اختلافهم: معارضة العموم الوارد في الآية، الذي يقتضي جواز الاعتكاف في جميع المساجد، لما روي عنه صلى الله عليه وسلم من تخصيص صحة الاعتكاف بالمساجد الثلاثة (9).
أدلة القول الأول: القائلين بأنه يجوز الاعتكاف في المساجد الثلاثة وغيرها من المساجد.
الدليل الأول: قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (10).
(1) مرعاة المفاتيح 7/ 166.
(2)
ينظر: الإجماع لابن المنذر ص 50، الإقناع في مسائل الإجماع 1/ 242، بدائع الصنائع 2/ 113.
(3)
بدائع الصنائع 2/ 113، الهداية 1/ 129، تحفة الفقهاء 1/ 373، درر الحكام 1/ 212.
(4)
الرسالة ص 63، الكافي 1/ 353، التلقين 1/ 76، مواهب الجليل 2/ 455.
(5)
الأم 2/ 118، العزيز 3/ 262، البيان 3/ 589، روضة الطالبين 2/ 398.
(6)
الهداية ص 166، الكافي 1/ 455، شرح الزركشي 3/ 7، منتهى الإرادات 2/ 45.
(7)
المحلى 3/ 428.
(8)
الإشراف لابن المنذر 3/ 160، الاستذكار 3/ 385، المغني 3/ 189، المسالك 4/ 25.
(9)
ينظر: بداية المجتهد 2/ 77.
(10)
سورة البقرة: آية: 187.
وجه الاستدلال: أن لفظ المساجد في الآية جاء عاما، يتناول كل المساجد (1).
قال الإمام مالك: "فَعَمَّ الله المساجد كلها، ولم يُخَصِّص منها شيئا"(2).
الدليل الثاني: عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «السُنَّة على المعتكِف أن لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع» (3).
وجه الاستدلال: أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ذكرت أن السُنَّة الاعتكاف في كل مسجد جامع، ولم تَخُصَّ الاعتكاف بالمساجد الثلاثة.
الدليل الثالث: عن شداد بن الْأَزْمَع (4)، قال: اعتكف رجل في المسجد الأعظم، وضرب خيمة فَحَصَبَه (5) الناس، فبَلَغ ذلك ابن مسعود رضي الله عنه:«فأرسل إليه رجلا، فكفَّ الناس عنه، وحَسَّن ذلك» (6).
وجه الاستدلال: أن ابن مسعود رضي الله عنه حَسَّن اعتكاف هذا الرجل في مسجد الكوفة، ولم ينكر عليه فعله ذلك.
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه لا يجوز الاعتكاف إلا في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسجد بيت المقدس.
استدل أصحاب هذا القول بما جاء عن حذيفة أنه قال لعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما: عُكوفٌ بين دارك ودار أبي موسى، لا تُغَيِّر؟ ، وقد عَلِمتَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا اعتكاف إلا
(1) ينظر: تفسير الرازي 5/ 276، المحلى 3/ 428.
(2)
الموطأ 3/ 450 رقم 1113، كتاب الاعتكاف، باب ذكر الاعتكاف، وينظر: الاستذكار 3/ 386.
(3)
سبق تخريجه صفحة (627).
(4)
هو: شداد الْأَزْمَع بن أبي بُثَيْنَة بن عبد الله، الوادعي الكوفي، وكان هو وأخوه الحارث بن الأزمع شريفين بالكوفة، وسمع شداد من: عبد الله بن مسعود، وعمرو بن العاص، روى عنه: قيس بن أبي حازم، وعلي بن الأقمر، توفي شداد بالكوفة في ولاية بشر بن مروان، وكان ثقة قليل الحديث. ينظر: الطبقات الكبرى 6/ 196، التاريخ الكبير 4/ 225، طبقات خليفة ص 251.
(5)
الحَصْبُ: رميُك بالحَصْباء أي صغار الحَصى أو كبارها. ينظر: كتاب العين 3/ 123.
(6)
رواه عبد الرزاق في المصنف 4/ 347 رقم 8015، كتاب الاعتكاف، باب لا جوار إلا في مسجد جماعة، وابن أبي شيبة في المصنف 2/ 337 رقم 9671، كتاب الصيام، من قال: لا اعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه، والطبراني في المعجم الكبير 9/ 302، رقم 9512.
في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، ومسجد بيت المقدس» ، قال عبد الله: لعلك نسيت وحفظوا، وأخطأت وأصابوا (1).
وفي رواية: جاء حذيفة إلى عبد الله رضي الله عنه فقال: «ألا أعجبك من قومك عُكوفٌ بين دارك ودار الأَشْعَري» يعني: المسجد؟ . قال عبد الله: «ولعلهم أصابوا وأخطأتَ» ، فقال حذيفة:«وما أُبَالي أَعْتَكِف فيه أو في سوقِكم هذه» (2).
وفي رواية: «وكان الذين اعتكفوا، فعاب عليهم حذيفة في مسجد الكُوفة (3) الأكبر» (4).
وجه الاستدلال: أن حذيفة ¢ أنكر على من اعتكف في غير المساجد الثلاثة، ونسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الاعتكاف لا يصح إلا فيها. وجعل الاعتكاف في سوى المساجد الثلاثة مساويا للاعتكاف في السوق.
الترجيح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الأول: أن الاعتكاف جائز في المساجد الثلاثة وفي غيرها من المساجد؛ وذلك لصحة ما استدل به أصحاب هذا القول؛ ولأن الآية جاءت عامة ولم تخصص مسجدا من غيره.
وأما الجواب عن حديث: «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة» ، فيكون بأربعة أجوبة:
الجواب الأول: أن قول ابن مسعود لحذيفة رضي الله عنهما عندما استدل بالحديث -إن ثبت رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «لعلك نسيتَ وحَفِظوا، وأَخطأتَ وأصابوا» ، يدل على أن ما ذكره حذيفة ¢ كان ابن مسعود ¢ يعلمه؛ لكنه قد نُسِخ.
(1) رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار 7/ 201 رقم 2771، بيان مشكل ما روي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المساجد التي لا يجوز الاعتكاف إلا فيها، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 519 رقم 8574، كتاب الصيام، باب الاعتكاف في المسجد، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 2786:"وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين".
(2)
رواه ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 337 رقم 9669، كتاب الصيام، من قال: لا اعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه.
(3)
الكُوفَة: هي: المصر المشهور بأرض بابل من أرض العراق، سمّيت الكوفة لاستدارتها أو لاجتماع الناس بها، وقيل غير ذلك. أَسَّسها سعد بن أبي وقاص سنة 17 للهجرة. ينظر: مراصد الاطلاع 3/ 1187، معجم البلدان 4/ 491، معجم المعالم الجغرافية ص 267.
(4)
رواه عبد الرزاق في المصنف 4/ 347 رقم 8014، كتاب الاعتكاف، باب لا جوار إلا في مسجد جماعة، والطبراني في المعجم الكبير 9/ 301 رقم 9510.
فمعنى كلام ابن مسعود ¢: فلعلهم قد حَفِظوا عن النبي صلى الله عليه وسلم إباحةَ ذلك، بعد أن كان جوازُه مقصورا على المساجد الثلاثة، ولعلهم أصابوا في فِعلهم ذلك، وأخطأت في إنكارك عليهم.
قال الطحاوي: "فتأملنا هذا الحديث، فوجدنا فيه: إخبار حُذَيفةَ ابنَ مسعودٍ أنه قد عَلِمَ ما ذَكَرَه له عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وَتَرْكُ ابنِ مسعودٍ إنكارَ ذلك عليه، وجَوابُه إياه بما أجابه به في ذلك مِن قوله: (لعلهم حَفِظوا) نَسَخ ما قد ذَكَرْتَهُ من ذلك، وأصابوا فيما قد فَعلوا "(1).
الجواب الثاني: يُحمَل حديث حذيفة -وهذا أيضا على القول بصحة رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، على أن الاعتكاف في المساجد الثلاثة أفضل وأعظم أجرا من الاعتكاف في غيرها؛ لما لها من الفضل الكبير (2).
قال الشيخ ابن عثيمين: "وإن صح هذا الحديث فالمراد به: لا اعتكاف تام، أي أن الاعتكاف في هذه المساجد أتم وأفضل من الاعتكاف في المساجد الأخرى، كما أن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في المساجد الأخرى"(3).
الجواب الثالث: أن الراجح أن هذا الكلام من قول حذيفة رضي الله عنه وليس مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذلك يُبيِّنه ما يلي:
أولا: أن أكثر الرواة رووه موقوفا على حذيفة رضي الله عنه، وهم أوثق ممن رفعه (4).
ثانيا: وقوع الشك في الرواية المرفوعة ففي رواية: «إلا المسجد الحرام» . وفي رواية: «إلا المساجد الثلاثة» . وفي رواية: «مسجد جماعة» (5).
وهذا الشك يضعف الاحتجاج بالحديث؛ لأن الشك لا يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(1) شرح مشكل الآثار 7/ 201.
(2)
ينظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 295، وبدائع الصنائع 2/ 113.
(3)
الشرح الممتع 6/ 502.
(4)
رواه عبد الرزاق في المصنف موقوفا 4/ 348 رقم 8016، كتاب الاعتكاف، باب لا جوار إلا في مسجد جماعة، وابن أبي شيبة 2/ 337 رقم 9669، كتاب الصيام، من قال لا اعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه، والطبراني في الكبير 9/ 302 رقم 9511.
(5)
تنظر الروايات بالشك في: السنن الكبرى للبيهقي رقم 8574، كتاب الصيام، باب الاعتكاف في المسجد، والمحلى 3/ 431.
قال ابن حزم: "قلنا: هذا شك من حذيفة أو ممن دونه، ولا يقطع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشك، ولو أنه عليه السلام قال: «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة» لَحَفِظَه الله تعالى علينا، ولم يدخل فيه شَكّ. فَصَحَّ يَقينا أنه عليه السلام لم يَقُلْه قَطّ"(1).
الجواب الرابع: وإذا كان قول حذيفة رضي الله عنه هذا موقوف عليه -وهو الراجح كما سبق-، فيكون إنكار ابن مسعود رضي الله عنه عليه؛ لِعِلْمٍ عنده بجواز هذا الفعل الذي أنكره حذيفة، فلذلك قال له:«لعلهم حَفِظوا ونَسيتَ وأصابوا وأخطأتَ» ، فَأَوْهَنَهُ في الرواية والحُكم.
فيكون ما ذكره حذيفة رضي الله عنه إنما هو اجتهاد منه، وقد خالفه فيه ابن مسعود رضي الله عنه، ولا مسوغ لترجيح اجتهاد حذيفة رضي الله عنه على اجتهاد غيره دون دليل. والله أعلم.
(1) المحلى 3/ 431.