الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: أين تعتكف المرأة
؟ .
اختيار الشيخ: اختار أن المرأة كالرجل تعتكف في المسجد، فقال:"فيه (1) دليل على أن الاعتكاف ليس من الخصائص، وإن النساء كالرجال في الاعتكاف، وقد كان عليه السلام أذن لبعضهن كما تقدم. وأما إنكاره عليهن الاعتكاف بعد الإذن فلمعنى آخر"(2).
تحرير محل الخلاف: اتفق أهل العلم أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد (3)، لقوله تعالى:{وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (4).
واختلفوا هل يصحّ للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها على قولين:
القول الأول: لا يصحّ لها أن تعتكف في مسجد بيتها، واعتكافها لا يصح إلا في المسجد كالرجل.
وهو قول: المالكية (5) ، والشافعي في الجديد وهو المذهب (6)، والحنابلة (7)، والظاهرية (8)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها وهو الأفضل، ويكره في المساجد.
وبه قال: الحنفية (9) ، والشافعي في القديم (10).
سبب الخلاف: قال ابن رشد: "وأما سبب اختلافهم في اعتكاف المرأة:
(1) يعني حديث عائشة الذي سيأتي صفحة (664).
(2)
مرعاة المفاتيح 7/ 144.
(3)
الإقناع لابن القطان 1/ 242، الاستذكار 3/ 385، المغني 3/ 189، أحكام القرآن للجصاص 1/ 302.
(4)
سورة البقرة: آية: 187.
(5)
ينظر: المدونة 1/ 295، المعونة 1/ 490، الذخيرة 2/ 535، مواهب الجليل 2/ 455.
(6)
العزيز 3/ 262، روضة الطالبين 2/ 398، منهاج الطالبين ص 80، مغني المحتاج 2/ 190.
(7)
الهداية ص 166، الكافي 1/ 455، الفروع 5/ 141، الإنصاف 3/ 364.
(8)
المحلى 3/ 428.
(9)
بدائع الصنائع 2/ 113، تحفة الفقهاء 1/ 373، الهداية 1/ 129، مجمع الأنهر 1/ 377. ويشترطون: لصحة اعتكافها في مسجد بيتها أن تكون قد عينت محلا للصلاة، فإن لم تعين لها محلا لا يصح لها الاعتكاف. ينظر: مراقي الفلاح ص 265.
(10)
العزيز 3/ 262، منهاج الطالبين ص 80، النجم الوهاج 3/ 373، نهاية المحتاج 3/ 218.
فمعارضة القياس أيضا للأثر، وذلك أنه ثبت: أن حَفصَة وعائشة وزينب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم استأذنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف في المسجد، فأذن لهن حين ضربْن أخبيتهن فيه. فكان هذا الأثر دليلا على جواز اعتكاف المرأة في المسجد. وأما القياس المعارض لهذا: فهو قياس الاعتكاف على الصلاة، وذلك: أنه لما كانت صلاة المرأة في بيتها أفضل منها في المسجد، -على ما جاء في الخبر-، وجب أن يكون الاعتكاف في بيتها أفضل" (1).
أدلة القول الأول: القائلين أنه لا يصحّ اعتكفها في مسجد بيتها، وأنه لا يصح إلا في المسجد كالرجل.
الدليل الأول: قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (2).
وجه الاستدلال: أن المراد بالمساجد: المواضع التي بُنيت للصلاة فيها. وموضع صلاة المرأة في بيتها ليس بمسجد؛ لأنه لم يبن للصلاة فيه، فلا يَثبُت له أحكام المساجد الحقيقية.
قال ابن رجب: "وهذه المساجد لا يثبت لها شيء من أحكام المساجد المُسَبَّلة، فلا يجب صيانتها عن: نجاسة، ولا جنابة، ولا حيض"(3).
الدليل الثاني: عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف معه بعض نسائه وهي (مُسْتَحاضَة) (4) ترى الدم، فربما وضعت الطَسْت (5) تحتها من الدم» (6).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم مَكَّن امرأته مِن أن تعتكف في المسجد وهي مستحاضة؛ إذ لا تفعل ذلك إلا بأمره، ولو كان الاعتكاف في البيت جائزا لما أمرها بالمسجد، ولَأَمرها بالبيت؛ فإنه أسهل وأيسر وأبعد عن تلويث المسجد بالنجاسة، وعن مشقة حمل الطست
(1) بداية المجتهد 2/ 77.
(2)
سورة البقرة: آية: 187.
(3)
ينظر: فتح الباري 3/ 170.
(4)
المُسْتَحاضة: هي التي ترى الدَّم من قُبُلِها في زمان لا يعتبر من أيام الحيض والنفاس، يقال: اسْتُحِيضَتْ فهي مُسْتَحَاضَة. ينظر: التعريفات الفقهية ص 204، النهاية 1/ 469.
(5)
الطَسُّ والطَّسَّة والطِّسة والطَّست: إناء معروف. ينظر: شمس العلوم 7/ 4040، الصحاح 3/ 943.
(6)
رواه البخاري 1/ 69 رقم 309، كتاب الحيض باب اعتكاف المستحاضة.
ونقله، وهو صلى الله عليه وسلم لم يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فعُلم أن الجلوس في غير المسجد ليس باعتكاف (1).
الدليل الثالث: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فاستأذنته عائشة، فأذن لها، وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها ففعلت، فلما رأت ذلك زينب ابنة جحش أمرت ببناء، فبني لها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى انصرف إلى بنائه، فبصر بالأبنية فقال:«ما هذا» ؟ قالوا: بناء عائشة وحفصة وزينب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«آلبر أردن بهذا؟ ! ما أنا بمعتكف» . فرجع، فلما أفطر اعتكف عشرا من شوال (2).
وجه الاستدلال: أنه لو كان اعتكافهن رضي الله عنهن في غير المسجد العام ممكنا؛ لاستغنين بذلك عن ضرب الأخبية في المسجد، كما استغنين بالصلاة في بيوتهن عن الجماعة في المسجد، ولأمرهن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
قال ابن حجر: "وفيه أن المسجد شرط للاعتكاف؛ لأن النساء شرع لهن الاحتجاب في البيوت، فلو لم يكن المسجد شرطا ما وقع ما ذُكِر من الإذن والمنع، ولاكتُفِي لهن بالاعتكاف في مساجد بيوتهن"(3).
الدليل الرابع: عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن امرأة جعلت عليها (أي نذرت) أن تعتكف في مسجد بيتها، فقال:«بدعة، وأبغض الأعمال إلى الله البدع» (4).
وجه الاستدلال: أن الصحابي إذا قال عن فعل ما أنه بدعة؛ عُلِم أنه غير مشروع؛ كما أنه إذا قال: إنه سُنَّة؛ عُلِم أنه مشروع (5).
أدلة القول الثاني: يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها وهو الأفضل، ويكره في المساجد.
(1) ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 2/ 743.
(2)
سبق تخريجه صفحة (657).
(3)
فتح الباري 4/ 277، وينظر: المغني 3/ 191، شرح مسلم للنووي 8/ 68.
(4)
أخرجه حرب الكرماني ذكره عنه ابن تيمية في كتاب الصيام شرح عمدة الفقه 2/ 744، وابن رجب في فتح الباري 3/ 170، وغيرهما. قال صاحب الفروع 5/ 141:"بسند جيد". وهو عند البيهقي السنن الكبرى 4/ 519 رقم 8573، في باب الاعتكاف في المسجد، بلفظ:((إن أبغض الأمور إلى الله البدع، وإن من البدع الاعتكاف في المساجد التي في الدور)).
(5)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 2/ 744.
الدليل الأول: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فاستأذنته عائشة، فأذن لها، وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها ففعلت، فلما رأت ذلك زينب ابنة جحش أمرت ببناء، فبني لها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى انصرف إلى بنائه، فبصر بالأبنية فقال:«ما هذا» ؟ قالوا: بناء عائشة وحفصة وزينب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«آلبر أردن بهذا؟ ! ما أنا بمعتكف» . فرجع، فلما أفطر اعتكف عشرا من شوال (1).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترك الاعتكاف إنكارا على زوجاته اعتكافهن في المسجد؛ ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «آلبر أردن» ، أي: ليس اعتكافهن في المساجد ببر (2).
قال الجصاص: "وهذا الخبر يدل على كراهية الاعتكاف للنساء في المسجد؛ بقوله: «آلبر تردن» ، يعني: أن هذا ليس من البر. ويدل على كراهية ذلك منهن أنه لم يعتكف في ذلك الشهر، ونَقَضَ بناءه حتى نَقَضْن أبنيتهن، ولو ساغ لهن الاعتكاف عنده لَما ترك الاعتكاف بعد العزيمة، ولما جَوَّز لهن تركَه وهو قُربة إلى الله تعالى. وفي هذا دلالة على أنه قد كِرِه اعتكاف النساء في المساجد"(3).
الدليل الثاني: عن عبد الله بن مسعود ¢، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حُجرتها، وصلاتها في مَخْدَعِهَا (4) أفضل من صلاتها في بيتها» (5).
وجه الاستدلال: فإذا مُنعَت المرأة من المكتوبة في المسجد مع وجوبها، فلأن تكون ممنوعة من اعتكاف هو نفل أولى، ولَمّا كانت صلاة الرجل في المسجد أفضل، كان اعتكافه فيه أفضل (6).
(1) سبق تخريجه صفحة (657).
(2)
ينظر: عمدة القاري 11/ 148، فتح الباري 4/ 277.
(3)
أحكام القرآن 1/ 303.
(4)
المِخْدع: بيت صغير يُحرز فيه الشيء، مأخوذ من أَخدَعت الشيء إذا أخفيته. ينظر: المصباح المنير 3/ 28، النهاية 2/ 35.
(5)
رواه أبو داود 1/ 156 رقم 570، كتاب الصلاة، باب التشديد في ذلك، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 188 رقم 5361، أبواب إثبات إمامة المرأة وغيرها، باب خير مساجد النساء قعر بيوتهن، وقال الألباني في صحيح أبي داود 3/ 108:"إسناده صحيح على شرط مسلم".
(6)
ينظر: التوضيح لابن الملقن 13/ 641، الاختيار في تعليل المختار 1/ 137.
قال الكاساني: "هذه قُربة خُصت بالمسجد، لكن مسجد بيتها له حكم المسجد في حقها في حق الاعتكاف؛ لأن له حكم المسجد في حقها في حق الصلاة؛ لحاجتها إلى إحراز فضيلة الجماعة، فأُعطي له حكم مسجد الجماعة في حقها
…
وإذا كان له حكم المسجد في حقها في حق الصلاة، فكذلك في حق الاعتكاف؛ لأن كل واحد منهما في اختصاصه بالمسجد سواء" (1).
الترجيح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الأول: أن المرأة لا يصِحُّ أن تعتكِف في مسجد بيتها، واعتكافها لا يصح إلا في المسجد كالرجل؛ لصحة ما استدلوا به، ولأن مساجد البيوت لا يثبت لها شيء من أحكام المساجد العامّة، فلا يجب صيانتها عن نجاسة ولا جنابة ولا حيض. ولأن الاعتكاف في البيوت لو كان مشروعا لَنُقِل عن أمهات المؤمين وغيرهن من الصحابيات رضي الله عنهن ، ولَفَعَلْنَه لبيان الجواز، فلما لم يُنقَل عنهن فِعلُه، مع ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه كونه بدعة عُلِم أن فعله غير مشروع.
وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما استدلالهم بحديث الأخبية على أن اعتكاف المرأة غير مشروع في المسجد، فيجاب عنه:
أن وجه الاستدلال الذي ذكروه ليس واضحا (2)؛ وذلك: لأنه صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة وحفصة رضي الله عنهما فيه، فلو لم يكن بِرّا لَما أَذِن لهما. وإنما جاء عدم كونه بِرّا؛ من كون زوجاته صلى الله عليه وسلم تَنافَسْن فيه (3).
ثانيا: وأما استدلالهم بأن صلاة المرأة في مسجد بيتها أفضل، فيكون اعتكافها في مسجد بيتها أفضل، وأن مسجد بيتها له حكم المسجد في حقها في حق الاعتكاف؛ لأن له حكم المسجد في حقها في حق الصلاة، فيجاب عنه من وجهين:
الأول: لا يسلم كون صلاة المرأة في بيتها أفضل دليلا على أن اعتكافها في بيتها أفضل، وإلا لجاز القول إن اعتكاف النفل في حق الرجل أفضل؛ لأن صلاة النفل في حقه أفضل (4)،
(1) بدائع الصنائع 2/ 113، وينظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 303.
(2)
ينظر: فتح الباري 4/ 277.
(3)
ينظر: المغني 3/ 191، وذخيرة العقبة 8/ 691.
(4)
ينظر: المغني 3/ 191.
لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه: «فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة» (1).
الثاني: قولهم إن مسجد بيت المرأة له حكم المسجد، غير صحيح لأن مساجد البيوت لا يثبت لها شيء من أحكام المساجد العامّة، فلا يجب صيانتها عن نجاسة ولا جنابة ولا حيض (2).
كما أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جُعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» (3).
قال ابن حزم: "بمعنى أنه تجوز الصلاة فيه، وإلا فقد جاء النص والإجماع بأن البول والغائط جائز فيما عدا المسجد. فَصَحَّ أنه ليس لما عدا المسجد حكم المسجد، فَصَحَّ أن لا طاعة في إقامة في غير المسجد، فَصَحَّ أن لا اعتكاف إلا في مسجد"(4). والله أعلم.
(1) رواه البخاري 8/ 28 رقم 6113، كتاب الأدب، باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله، ومسلم 1/ 539 رقم 781، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة النافلة في بيته، وجوازها في المسجد.
(2)
ينظر: فتح الباري لابن رجب 3/ 170، والإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 452، والمحلى 3/ 431.
(3)
رواه البخاري 1/ 95 رقم 438، كتاب الصلاة ،باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:«جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» ، ومسلم 1/ 539 رقم 781، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة النافلة في بيته، وجوازها في المسجد.
(4)
المحلى 3/ 428.