الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: هل على من جامع ناسيا في رمضان كفارة
.
اختيار الشيخ: اختار أن الناسي ليس عليه كفارة فقال: "وإذا تقرر ذلك فليس فيه حجة على وجوب الكفارة على الناسي"(1).
وأما إسقاط القضاء فلاستدلاله بحديث: «من أفطر في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة» (2)(3).
تحرير محل الخلاف: قد مر معنا مسألة: حكم من أكل أو شرب ناسيا وهو صائم، وعرفنا أن العلماء قد اختلفوا في ذلك على قولين.
ومما اختلفوا فيه أيضا حكم من جامع وهو ناسي لصومه، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: من جامع ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة.
وبه قال: الحنفية (4) ، والشافعية (5) ، والحنابلة في رواية (6) ، والحسن البصري، والثوري، وإسحاق ابن راهويه (7) ، والظاهرية (8)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: عليه القضاء دون الكفارة.
وبه قال: المالكية في المشهور (9)، والحنابلة في رواية (10) ، ورَبِيعة (11)(12).
(1) مرعاة المفاتيح 6/ 497. أي في حديث أبي هريرة الآتي صفحة (375).
(2)
سبق تخريجه صفحة (320).
(3)
مرعاة المفاتيح 6/ 494.
(4)
بدائع الصنائع 2/ 90، تبيين الحقائق 1/ 322، البناية 4/ 36، البحر الرائق 2/ 291.
(5)
مختصر المزني 8/ 152، الحاوي الكبير 3/ 430، المهذب 1/ 335، المجموع 6/ 324.
(6)
الهداية ص 159، المغني 3/ 135، شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 316، الإنصاف 3/ 311.
(7)
تنظر أقوالهم في: الإشراف لابن المنذر 3/ 127، التمهيد 7/ 178، المجموع 6/ 324، المغني 3/ 135.
(8)
ينظر: المحلى 4/ 335.
(9)
المدونة 1/ 277، الكافي 1/ 341، المعونة 1/ 475، التاج والإكليل 3/ 350.
(10)
شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 314، الإنصاف 3/ 311، حاشية الروض المربع 3/ 410.
(11)
هو: رَبِيْعَة بن أبي عبد الرحمن: فَرُّوْخ، القرشي التيمي بالولاء؛ أبو عثمان، إمام حافظ فقيه مجتهد، قيل له: ربيعة الرَّأْي، لقوله بالرأي فيما لا يجد فيه حديثا أو أثرا، كان صاحب الفتيا بالمدينة، وعليه تفقه الإمام مالك، توفي سنة 136 هـ. ينظر: السير 6/ 89، تهذيب الكمال 9/ 123، وتاريخ بغداد 9/ 414.
(12)
ينظر: التمهيد 7/ 179، الحاوي الكبير 3/ 430، المجموع 6/ 324، البيان 3/ 509.
وهو قول: الأوزاعي، والليث، وعطاء في رواية (1).
القول الثالث: عليه القضاء والكفارة.
وبه قال: الحنابلة في المذهب (2) ، وابن الماجشون من المالكية (3) ، وعطاء في رواية (4).
سبب الخلاف: قال ابن رشد: "وسبب اختلافهم: معارضة ظاهر الأثر في ذلك للقياس، أما القياس: فهو تشبيه ناسي الصوم بناسي الصلاة، وأما الأثر المعارض بظاهره لهذا القياس: فهو ما جاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه» (5) "(6).
أدلة القول الأول: القائلين بأن من جامع ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة.
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه» (7).
وجه الاستدلال: أن الحديث ورد في من أكل أو شرب ناسيا، لكنه معلول بعلة موجودة في الجماع ناسيا، وهي: أن هذا الفعل مضاف إلى الله تعالى على طريق التمحيص، بقوله صلى الله عليه وسلم:«فإنما أطعمه الله وسقاه» ، فقطع إضافته عن العبد؛ لوقوعه فيه من غير قصده واختياره، وهذا المعنى يوجد في الكل، والعلة إذا كانت منصوصا عليها كان الحكم منصوصا عليه (8)، ويتعمم الحكم بمعموم العلة، وكذا معنى الحرج يوجد في الكل (9).
(1) ينظر: التمهيد 7/ 179، المجموع 6/ 324.
(2)
المغني 3/ 135، الهداية ص 159، كشاف القناع 2/ 324، الإنصاف 3/ 311.
(3)
الكافي 1/ 341، القوانين الفقهية ص 83، الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 432. ووصفه: ابن بشير بالشذوذ. ينظر: التنبيه على مبادئ التوجيه 2/ 719.
(4)
ينظر: التمهيد 7/ 179، المغني 3/ 135.
(5)
سبق تخريجه صفحة (320).
(6)
ينظر: بداية المجتهد 2/ 65 - 66.
(7)
سبق تخريجه صفحة (319).
(8)
ينظر: الردود والنقود شرح مختصر ابن الحاجب 2/ 284، العدة لأبي يعلى 4/ 1372.
(9)
ينظر: بدائع الصنائع 2/ 90، وينظر: المهذب 1/ 335، والبيان 3/ 509، والمجموع 6/ 323.
وإنما ورد الحديث في الأكل والشرب؛ لأن الشارع علق الحكم بالغالب، وذلك لأن نسيان الجماع نادر بالنسبة إلى الأكل والشرب، والقاعدة:(أن الوصف إذا خرج مخرج الغالب لا يكون حجة)(1)(2).
الدليل الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«من أفطر في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة» (3).
وجه الاستدلال: أن في الحديث دليل على عدم وجوب القضاء عن المجامع؛ وذلك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «من أفطر في شهر رمضان» ؛ لأن الفطر أعم من أن يكون بأكل أو شرب أو جماع، وإنما خص الأكل والشرب بالذكر في الطريق الأخرى لكونهما أغلب وقوعا، ولعدم الاستغناء عنهما غالبا (4).
الدليل الثالث: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه احترق، قال:«ما لك؟ » ، قال: أصبت أهلي في رمضان، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بمكتل يدعى العرق، فقال:«أين المحترق» قال: أنا، قال:«تصدق بهذا» (5).
وجه الاستدلال: في الحديث أن المجامع كان عامدا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: «أين المحترق» ، فأثبت له حكم العمد، فلا يلحق به الناسي (6).
الدليل الرابع: ولأن النسيان في باب الصوم مما يغلب وجوده ولا يمكن دفعه إلا بحرج، فجُعِل عذرا؛ دفعا للحرج (7).
أدلة القول الثاني: القائلين بأن عليه القضاء دون الكفارة.
الدليل الأول: استدلوا على وجوب القضاء بأمرين:
(1) ينظر: الفروق 3/ 172، وموسوعة القواعد الفقهية 12/ 203.
(2)
ينظر: إحكام الأحكام 2/ 12.
(3)
سبق تخريجه صفحة (320).
(4)
ينظر: فتح الباري 4/ 156.
(5)
سبق تخريجه صفحة (364).
(6)
ينظر: الكواكب الدراري 9/ 110، التوضيح 13/ 257، شرح البخاري لابن بطال 4/ 62.
(7)
ينظر: بدائع الصنائع 2/ 90.
الأول: القياس على ناسي الصلاة: فإن من نسي صلاته قضاها؛ فكذلك من أفسد صومه ناسيا يقضيه (1).
الثاني: أنه جامع ناسيا، فيفطر؛ كمن أكل أو شرب ناسيا (2).
الثالث: ولأن القياس يقتضي الفساد في الكل؛ لفوات ركن الصوم في الكل، إلا أننا تركنا القياس بالخبر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم (3)، وأنه ورد في الأكل والشرب فقط، فبقي الجماع على أصل القياس (4).
الدليل الثاني: واستدلوا لعدم إيجاب الكفارة بحديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (5).
وجه الاستدلال: أن الحديث نص على أن الإثم موضوع عن الناسي، والكفارة في الفطر تتبع الإثم، وهو موضوع في الناسي، فلا إثم، وبالتالي فلا كفارة (6).
أدلة القول الثالث: القائلين بأن عليه القضاء والكفارة.
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، هلكت! قال:«ما لك؟ » . قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تجد رقبة تعتقها؟ » . قال: لا. قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ » . قال: لا. قال: «فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ » . قال: لا
…
(7).
(1) ينظر: بداية المجتهد 2/ 65.
(2)
ينظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 432. وهذا الدليل مبني على ما مر معنا في مسألة: حكم من أكل أو شرب ناسيا وهو صائم، أن من أكل أو شرب ناسيا يفسد صومه عند المالكية. ينظر: صفحة 318.
(3)
أي حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم ص 319: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه
…
).
(4)
ينظر: بدائع الصنائع 2/ 90.
(5)
سبق تخريجه صفحة (116).
(6)
ينظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 432. وينظر: المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 1/ 260.
(7)
سبق تخريجه صفحة (363).
وأما وجوب القضاء: فحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه أمر الذي واقع أهله في رمضان أن يقضي يوما مكانه» (1).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفسر من الرجل هل كان جماعه عن عمد أو نسيان، ولو افترق الحال لسأل واستفصل (2)، والحكم من الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ورد عَقِب ذكر واقعة محتملة لأحوال مختلفة الحكم من غير استفصال، يتنزل منزلة العموم (3)، وهي القاعدة التي يعبر عنها بعض أهل العلم بقولهم:"ترك الاستفصال في حكايات الأحوال مع الاحتمال، يتنزل منزلة العموم في المَقال"(4).
الدليل الثاني: ولأن الصوم عبادة تُحرِّم الجِماع، فاستوى فيها عَمده وسَهوه كالحج (5).
الدليل الثالث: ولأنه جِماعٌ تامٌ صادفَ صوما، فوجب أن يفطر به كالعامد (6).
الراجح: الذي يترجح -والله أعلم- ما ذهب إليه أصحاب القول الأول: أن الصائم إذا جامع ناسيا لصومه فصومه صحيح ولا قضاء عليه ولا كفارة؛ لعموم حديث أبي هريرة المستدل به. وأما ما استدل به أصحاب القولين الآخرين فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما قياسهم ناسي الصيام على ناسي الصلاة، فيجاب عنه:
أن هذا قياس مع الفارق؛ لأن القياس كان قد يصح لو أنه كان عليه صيام فنسي ولم يصمه، فهنا يقال له: صم يوما بدلا عن اليوم الذي نسيته، كالصلاة، ولكن النسيان هنا وقع داخل العبادة التي هي الصيام، فيقاس على النسيان داخل الصلاة.
(1) رواه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 381 رقم 8057، في الصيام، باب رواية من روى الأمر بقضاء يوم مكانه، وأبو عوانة في المستخرج 2/ 206 رقم 2859، واللفظ له، والطحاوي في شرح المشكل الآثار 4/ 173 رقم 1518، وقال الحافظ في الفتح 4/ 172:"وبمجموع هذه الطرق تعرف أن لهذه الزيادة أصلا"، وقال الألباني في الإرواء 4/ 93:"صحيح. بمجموع طرقه وشواهده".
(2)
ينظر: المغني 3/ 136، وكشاف القناع 2/ 324، والتنبيه لابن بشير 719.
(3)
ينظر: إحكام الأحكام 2/ 14.
(4)
هذه قاعدة أصولية من كلام الشافعي، وقد جزم فيها بترك الاستفصال. ينظر: البرهان في أصول الفقه 1/ 122، ونفائس الأصول في شرح المحصول 4/ 1788، وقواطع الأدلة 1/ 225.
(5)
ينظر: المغني 3/ 136، وشرح العمدة كتاب الصيام 1/ 318، وكشاف القناع 2/ 324.
(6)
ينظر: المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 1/ 259 - 260، والحاوي الكبير 3/ 430.
ثانيا: وأما قولهم: إنه جامع ناسيا فيفطر كمن أكل أو شرب ناسيا، فيجاب عنه:
أن هذا القياس مبني على أن الأكل والشرب ناسيا مفسد للصيام، وهذا غير صحيح، كما مر معنا في مسألة: حكم من أكل أو شرب ناسيا (1).
ثالثا: وأما قولهم: إن القياس يقتضي الفساد في الكل؛ لفوات ركن الصوم في الكل، إلا أننا تركنا القياس بالخبر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فبقي الجماع على أصل القياس، فيجاب عنه:
أن الحديث وإن كان قد ورد في الأكل والشرب، لكنه معلول بمعنى يوجد في الكل، وهو: أنه فعل مضاف إلى الله تعالى على طريق التمحيص، بقوله:«فإنما أطعمه الله وسقاه» فقطع إضافته عن العبد لوقوعه فيه من غير قصده واختياره، وهذا المعنى يوجد في الكل، والعلة إذا كانت منصوصا عليها كان الحكم منصوصا عليه ويتعمم الحكم بعموم العلة (2).
رابعا: وأما استدلالهم بحديث المجامع في يوم رمضان وأنه لم يستفصل هل هو متعمد أو ناسي، فيجاب عنه: أنه قد تبين حاله بقوله: «هلكتُ» ، و «احترقتُ» ؛ فدل على أنه كان عامدا عارفا بالتحريم (3).
خامسا: وأما قياسهم الصيام على الحج، فيجاب عنه من وجهين:
الأول: أنه قد لا يُسلَّم لكم أن من جامع ناسيا يفسد حجّه (4).
الثاني: وعلى التسليم بأن حج الناسي يفسد: فإنه لا يستقيم قياس الصيام على الحج؛ لأن النواهي في الحج نوعان: نوع استوى الحكم في عَمْده وسهوه كالحلق وقتل الصيد. ونوع فُرِّق بين عمده وسهوه كاللباس والطيب. فأُلحِق الجماع بالنوع الأول؛ لأنه إتلاف.
أما الصيام فإن النواهي فيه نوع واحد، وقد وقع التفريق فيه بين العمد والنسيان، وذلك في القيء، فوجب إلحاق الجماع به (5).
قال ابن رشد: "وأما من أوجب القضاء والكفارة على المجامع ناسيا، فضعيف؛ فإن تأثير النسيان في إسقاط العقوبات بَيِّنٌ في الشرع، والكفارة من أنواع العقوبات"(6). والله أعلم.
(1) ينظر الترجيح في المسألة صفحة (323).
(2)
ينظر: بدائع الصنائع 2/ 90.
(3)
ينظر: فتح الباري 4/ 164، نيل الأوطار 4/ 254، إحكام الأحكام 2/ 14.
(4)
ينظر: الحاوي الكبير 3/ 431.
(5)
المصدر السابق.
(6)
بداية المجتهد 2/ 66.
-