الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: حد السفر المبيح للفطر
.
اختيار الشيخ: اختار أنه لا يباح الفطر إلا في السفر الطويل الذي يبيح القصر، فقال:"لا يباح الفطر عند الجمهور إلا في السفر الطويل الذي يبيح القصر، وقد تقدم ذكر قدره في الصلاة"(1).
وكان قال في الصلاة: "والراجح عندي ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة: أنه لا يقصر الصلاة في أقل من ثمانية وأربعين ميلا بالهاشمي، وذلك أربعة بُرُد، أي: ستة عشر فَرْسَخا (2) "(3).
تحرير محل الخلاف: أجمع أهل العلم على أن لمن سافر سفرا تكون مسافته مثل ما بين المدينة إلى مكة، وكان سفره في حج، أو عمرة، أو غزو؛ أن يترخص بقصر الصلاة والفطر في رمضان (4).
واتفقوا أن تحديد هذه المسافة هي مناط الرخصة في القصر والفطر، فما يصلح دليلا لقصر الصلاة يصلح أيضا دليلا على تحقق رخصة الفطر في السفر (5).
فقد قال عطاء: "تُفطِر إذا قَصَرتَ وتصوم إذا أَوْفَيت الصلاة"(6).
واختلفوا في حد السفر المبيح للفطر، تبعا لاختلافهم في حد السفر المبيح لقصر الصلاة، على أقوال كثيرة أوصلها ابن المنذر وغيره إلى عشرين قولا (7).
ولعلي أكتفي بذكر ثلاثة منها لاشتهارها:
القول الأول: لا يحل الفطر في أقل من مسيرة ثلاثة أيام.
(1) مرعاة المفاتيح 7/ 17.
(2)
الْمِيلُ: يساوي تقريبا: 1848 م. وسمي بالهاشمي لأن بني هاشم حددوه وأعلموه. وَالْفَرْسَخُ: يساوي 3 أميال أو 5544 م. الْبَرِيدُ العربي: 4 فراسخ أو 22176 م. فتكون المسافة تقريبا: 88 (كم) و 704 (م)، وقَدَّرها بعضهم بـ (83) كم. ينظر: الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي 1/ 142، والمطلع على ألفاظ المقنع ص 132، المغرب ص 451.
(3)
مرعاة المفاتيح 4/ 381.
(4)
ذكر الإجماع كل من: ابن المنذر في الأوسط 4/ 343، و 346، وفي الإجماع ص 41، وابن القطان في الإقناع في مسائل الإجماع 1/ 166 - 167.
(5)
ينظر: المغني 3/ 116، بدائع الصنائع 2/ 94، الكافي لابن عبد البر 1/ 337، والمجموع 6/ 263.
(6)
مصنف عبد الرزاق 4/ 270 رقم 7765، باب السفر في شهر رمضان.
(7)
ينظر: الأوسط لابن المنذر 4/ 346 وما بعدها.
وهو قول: الحنفية (1).
القول الثاني: لا يحل الفطر في أقل من مسيرة يومين قاصدين (2)، أو مسيرة يوم وليلة بالسَيْر الحَثِيث (3) ، أو أَرْبَعَةِ بُرُد 16 فرسخا 48 ميلا هاشميا.
وهو قول: المالكية (4) ، والشافعية (5) ، والحنابلة (6)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثالث: يجوز الفطر في كل سفر تُعورِف على أنه سفر.
وهو مذهب: الظاهرية (7).
سبب الخلاف: والسبب في اختلافهم -والله أعلم-: هل يعمل بإطلاق لفظ السفر الوارد في نصوص الكتاب والسنة في الأخذ برخصة الإفطار، أم يقيد لفظ السفر بما جاء في نصوص أخرى؟ ، كما سيأتي معنى إن شاء الله في الأدلة؟ .
أدلة القول الأول: لا يحل الفطر في أقل من مسيرة ثلاثة أيام.
الدليل الأول: عن خُزَيْمة بن ثابت (8) رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه رَخَّص ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر» (9).
(1) بدائع الصنائع 2/ 94، تحفة الفقهاء 1/ 358، الهداية 1/ 80، البحر الرائق 2/ 304.
(2)
يقال: ليلة قاصدة، أي هَيّنة السيرِ، لا تعبَ فيه ولا بطءَ. ينظر: الصحاح 2/ 525، لسان العرب 3/ 354.
(3)
السير الحثيث: هو السير السريع الذي لا فتور فيه. ينظر: تهذيب اللغة 5/ 225، لسان العرب 13/ 532.
(4)
الرسالة ص 61، الكافي 1/ 337، المنتقى 2/ 49، الذخيرة 2/ 512.
(5)
مختصر المزني 8/ 153، الحاوي 3/ 445، البيان 3/ 468، الوسيط 2/ 539، المجموع 6/ 263.
(6)
المغني 3/ 116، المحرر 1/ 228، المبدع 3/ 13، الإنصاف 3/ 287، كشاف القناع 2/ 311.
(7)
ينظر: المحلى 4/ 384. وحدد ابن حزم أقله بميل.
(8)
هو: خُزيمْة بن ثابِت بن الفاكه بن ثعلبة الأنصاري الخطمي، أبو عمارة المدني، ذو الشهادتين، من أشراف الأوس في الجاهلية والإسلام، ومن شجعانهم المقدمين، وحمل راية بني خطمة يوم فتح مكة، وعاش إلى خلافة علي بن أبي طالب، وشهد معه صفين، فقتل فيها سنة 37 هـ. ينظر: الطبقات الكبرى 4/ 378، معرفة الصحابة 2/ 913، سير أعلام النبلاء 2/ 487.
(9)
أخرجه أحمد 36/ 200 رقم 21875، وقال محقق المسند:"حديث صحيح"، وأخرجه مسلم 1/ 232 رقم 276، كتاب الطهارة، باب توقيت المسح على الخفين، عن علي رضي الله عنه.
وجه الاستدلال من وجوه:
الأول: أن تحديد الرسول صلى الله عليه وسلم لرخصة المسح في السفر بثلاثة أيام يلزم منه، أن تكون هذه المدة هي المعيار الشرعي في السفر لكل رخصة، سواء كانت: للمسح، أو للقصر، أو للفطر، أو لغير ذلك، بجامع مشقة السفر في كل.
الثاني: ولأنه لا يُتصَور أن يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليها، ومدة السفر أقل من هذه المدة (1).
الثالث: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لكل مسافر أن يمسح ثلاثة أيام ولياليهن، لأن (الألف واللام في المسافر لاستغراق الجنس)(2)، فلو قلنا بأن مدة السفر أقل من ثلاثة أيام ولياليهن لم تعم الرخصة لكل مسافر (3).
الدليل الثاني: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي مَحْرم (4)» (5).
وجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم منع المرأة من السفر خلال هذه المدة إلا إذا كان معها زوجها أو محرم، وتعليقه صلى الله عليه وسلم هذا الحكم بمدة الثلاثة أيام يُفهَم منه أن سفر الثلاثة أيام هو الذي ينصرف إليه اسم السفر عند الإطلاق، فينبغي أن يُقيَّد به (6).
الدليل الثالث: ولأن وجوب إتمام الصلاة وكذا وجوب الصيام كان ثابتا بدليل مقطوع به، فلا يجوز رفعه إلا بمثله، وما دون الثلاث مختلف فيه، والثلاث مجمع عليه (7) ، فلا يجوز رفعه بما دون الثلاث (8).
(1) ينظر: بدائع الصنائع 1/ 94، وتبيين الحقائق 1/ 209، المبسوط 1/ 235.
(2)
لأنها من صيغ العموم. ينظر: إرشاد الفحول 1/ 291.
(3)
ينظر: اللباب في الجمع بين السنة والكتاب 1/ 392.
(4)
المَحْرَم: ذَاتُ الرَّحِم فِي الْقَرَابَة، وهي مَن لَا يَحِلُّ لَه نِكَاحُهَا مِنَ الأَقارب كالأَب وَالِابْن وَالْعَمّ وَمَن يَجْرِي مَجْرَاهُم. ينظر: لسان العرب 12/ 123.
(5)
رواه البخاري 2/ 43 رقم 1086، أبواب تقصير الصلاة، باب في كم يقصر الصلاة.
(6)
ينظر: رخصة الفطر في سفر رمضان مجلة الجامعة الإسلامية العدد: 50 - 51 ص: 133. وينظر: بدائع الصنائع 1/ 94.
(7)
ذكر الإجماع أيضا: ابن القطان في الإقناع في مسائل الإجماع 1/ 167.
(8)
ينظر: بدائع الصنائع 1/ 94.
أدلة القول الثاني: لا يحل الفطر في أقل من مسيرة يومين قاصدين، أو مسيرة يوم وليلة بالسير الحثيث، أو أربعة بُرُد 16 فرسخا 48 ميلا هاشميا.
الدليل الأول: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسافر امرأة مسيرة يومين ليس معها زوجها، أو ذو مَحْرَم» (1).
الدليل الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حُرْمَة» (2).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق السفر على مسيرة يومين أو يوم وليلة، فلفظ السفر وإن جاء مجملا في الآية -التي ستأتي معنا إن شاء الله- وبعض الأحاديث النبوية، إلا أن هذه الأحاديث وما ورد في معناها تعتبر مفسرة له.
ولا اختلاف بين ما جاء في تحديده باليوم والليلة في بعض الروايات، وتحديده باليومين في أخرى؛ إذ المقصود بمسيرة اليوم والليلة: إذا كانت الدابة سريعة، مع الجِدّ في السير، وكان الوقت صيفا، وأما المقصود بمسيرة اليومين والليلتين: إذا ما كانت الدابة ثقيلة بطيئة، ولم يكن هناك جِدّ في السير. والدليل أنهم لم يختلف تقديرهم للمسافة في القولين، إذ حددوها في كليهما بأربعة برد، ثمانية وأربعين ميلا (3).
الدليل الثالث: عن عطاء بن أبي رباح: «أن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما كانا يُصَلِّيان ركعتين، ويفطران في أربعة بُرُد فما فوق ذلك» (4).
(1) أخرجه البخاري 3/ 19 رقم 1864، كتاب جزاء الصيد، باب حج النساء.
(2)
أخرجه البخاري 2/ 43 رقم 1088، أبواب تقصير الصلاة، باب في كم يقصر الصلاة، واللفظ له، ومسلم 2/ 977 رقم 1339، كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره.
(3)
ينظر: المجموع 4/ 323، الاستذكار 2/ 242.
(4)
رواه البخاري في صحيحه معلقا 2/ 43، باب في كم يقصر الصلاة، ووصله: البيهقي في السنن الكبرى 3/ 196 رقم 5397، جماع أبواب صلاة المسافر والجمع في السفر، باب السفر الذي تقصر في مثله الصلاة، وصححه الألباني في الإرواء 3/ 17 رقم 568.
الدليل الرابع: وعن عطاء، قال: سئل ابن عباس: أأقصر الصلاة إلى عَرَفة (1)؟ ، فقال:«لا ولكن إلى عُسْفان وإلى جُدَّة وإلى الطائِف (2)» (3).
الدليل الخامس: عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أنه قصر في أربعة برد» (4).
الدليل السادس: عن ابن عمر رضي الله عنه: «أنه كان يقصر في مسيرة اليوم التام» (5).
وجه الاستدلال: "مسيرة اليوم التام بالسير الحثيث هي أربعة برد أو نحوها"(6).
الدليل السابع: عن نافع: «أنه كان يسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر الصلاة» (7).
أدلة القول الثالث: يجوز الفطر في كل سفر تُعورِف على أنه سفر.
الدليل الأول: قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (8).
(1) عَرَفة: هي المشعر الذي يقف فيه الحجاج يوم التاسع من ذي الحجة، وهي على الطريق بين مكة والطائف، على 23 كيلا شرقا من مكة. ينظر: المعالم الأثيرة ص 189، ومعجم البلدان 4/ 104.
(2)
عُسْفان: بلد على مسافة ثمانين كيلا من مكة شمالا على طريق المدينة، وجُدَّة: هي المدينة المشهورة على ساحل البحر الأحمر، على مسافة 73 كيلا. غرب مكة، والطائف: مدينة تبعد عن مكة بتسعة وتسعين كيلا إلى الشرق. ينظر: المعالم الأثيرة ص 88 و 170 و 191.
(3)
رواه الشافعي في مسنده 1/ 327 رقم 345، كتاب الصلاة، باب مسافة ما لا تقصر الصلاة فيه وما تقصر فيه، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 196 رقم 5399، باب السفر الذي لا تقصر في مثله الصلاة، وصححه النووي في المجموع 4/ 328، وكذا الحافظ في التلخيص الحبير 2/ 117.
(4)
رواه الإمام مالك في الموطأ ص 147 رقم 11 ورقم 12، وصححه ابن حزم في المحلى 5/ 5، وابن عبد البر أيضا في الاستذكار 2/ 233، وكذا النووي في المجموع 5/ 425.
(5)
أخرجه الإمام مالك في الموطأ ص 147 رقم 13، باب ما يجب فيه قصر الصلاة، وعبد الرزاق في المصنف 2/ 525 رقم 4300، باب في كم يقصر الصلاة، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 196 رقم 5394، في جماع أبواب صلاة المسافر والجمع في السفر، باب السفر الذي تقصر في مثله.
(6)
الاستذكار 2/ 233.
(7)
أخرجه مالك في الموطأ ص 148 رقم 14 ، باب ما يجب فيه قصر الصلاة، وعبد الرزاق في المصنف 2/ 523 رقم 4295، باب الصلاة في السفر، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 196 رقم 5401، في جماع أبواب صلاة المسافر والجمع في السفر، باب السفر الذي تقصر في مثله الصلاة.
(8)
سورة النساء: آية: 101.
وجه الاستدلال من الآية: أن الله عز وجل قد رتب أحكام القصر على السفر، والسفر ورد مطلقا في هذه الآية غير مقيد، فيبقى على إطلاقه متناولا كل ضرب في الأرض (1).
الدليل الثاني: عن أنس رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين» (2).
وجه الاستدلال: أن هذا الحديث ذكره أنس رضي الله عنه تحديدا للمسافة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج إليها قصر الصلاة (3).
الدليل الثالث: عن شُرَحْبِيل بن السِّمط (4) أنه خرج إلى قرية على رأس سبعة عشر، أو ثمانية عشر ميلا، فصلى ركعتين، فقيل له، فقال: رأيت عمر رضي الله عنه صلى في ذي الحليفة (5) ركعتين، فقلت له، فقال:«إنما أفعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل» (6).
وجه الاستدلال: أن عمر ¢ قد نسب هذا الفعل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيكون هذا هو هديه صلى الله عليه وسلم في السفر.
الدليل الرابع: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخا قصر الصلاة» (7).
(1) ينظر: الروضة الندية ص 354، المحلى 4/ 384.
(2)
رواه مسلم 1/ 481 رقم 691، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب المسافة التي يقصر فيها الصلاة.
(3)
ينظر: سبل السلام 1/ 388.
(4)
هو: شُرَحْبيل بن السِّمْط بن الأسود بن جبلة بن عدي الكندي، أبو يزيد، يقال له صحبة، شهد القادسية وغيرها، وولي حمص نحوا من عشرين سنة وتوفي بها سنة 40 هـ أو بعدها. ينظر: تاريخ دمشق 22/ 455، تاريخ الإسلام 2/ 350، تهذيب التهذيب 4/ 323.
(5)
ذو الحُلِيْفة: هي قرية بظاهر المدينة النبوية على طريق مكة، بينها وبين المدينة تسعة أكيال، وتعرف اليوم: بأبيار علي. ينظر: معجم البلدان 2/ 295، المعالم الأثيرة ص 103.
(6)
رواه مسلم 1/ 481 رقم 692، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها.
(7)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 200 رقم 8113، كتاب الصلوات، باب في مسيرة كم تقصير الصلاة، وعبد الرزاق في المصنف 2/ 529 رقم 4318، في الصلاة، باب المسافر متى يقصر إذا خرج مسافرا؟ . وفي سنده: من هو متروك ومنهم من كذبه، ينظر: إرواء الغليل 3/ 15.
الدليل الخامس: عن دِحْيَة بن خَلِيفة (1) رضي الله عنه أنه خرج من قرية من دِمَشق (2) مرة إلى قدر قرية عُقبة (3) من الفُسْطاط (4)، وذلك ثلاثة أميال في رمضان، ثم أفطر وأفطر معه ناس، وكره آخرون أن يفطروا، فلما رجع إلى قريته قال:«والله لقد رأيت اليوم أمرا ما كنت أظن أني أراه، إن قوما رَغِبُوا (5) عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه» ، يقول ذلك للذين صاموا، ثم قال عند ذلك: اللهم اقبضني إليك (6).
الدليل السادس: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: «لو سافرت ميلا لقصرت» (7).
وفي رواية: «إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر» ، يعني: من الصلاة (8).
(1) هو: دِحْيَة بن خليفة بن فروة بن فضالة الكَلْبي، صحابيّ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالته إلى (قيصر) يدعوه للإسلام، وكان يضرب به المثل في حسن الصورة، وكان يشبه بجبريل عليه السلام، شهد اليرموك، ثم نزل دمشق وسكن المزة، وعاش إلى خلافة معاوية. ينظر: الطبقات الكبرى 4/ 249، تاريخ دمشق 17/ 201، تاريخ الإسلام 2/ 406، معرفة الصحابة 2/ 1012.
(2)
دِمَشق: هي عاصمة الجمهورية العربية السورية، قيل: سميت بذلك لأنهم دمشقوا في بنائها، أي: أسرعوا، وقيلغير ذلك. ينظر: مراصد الأطلاع 2/ 534، المعجم الجغرافي لدول العالم ص/285.
(3)
المقصود القرية التي كان يقطن فيها عقبة بن عامر. ينظر: صحيح ابن خزيمة 2/ 981.
(4)
الفُسْطَاط: هو بيت من أدم أو شعر، وكل مدينة جامعة فسطاط، ويجمع: فساطيط. ومنه قيل لمدينة مصر التي بناها عمرو بن العاص: الفسطاط، وهي المعنية في هذا الحديث. ينظر: معجم البلدان 4/ 299، النهاية 3/ 853، غريب الحديث 1/ 318.
(5)
رَغِبَ عن الشيء: تَرَكَه مُتَعَمّدا، وزَهِد فِيه ولَم يُرِدْه. ينظر: لسان العرب 1/ 423.
(6)
أخرجه أحمد 45/ 206 رقم 27230، واللفظ له، وأبو داود 2/ 319 رقم 2413، كتاب الصوم، باب قدر مسيرة ما يفطر فيه، وابن خزيمة في صحيحه 2/ 981 رقم 2041، باب الرخصة في الفطر في رمضان في مسيرة أقل من يوم وليلة، إن ثبت الخبر، وقال الألباني في ضعيف أبي داود 2/ 279:"إسناده ضعيف" ..
(7)
رواه ابن حزم في المحلى 4/ 386 بسنده عن ابن أبي شيبة، وقال عنه:"إسناده كالشمس"، وذكره عنه أيضا الحافظ في الفتح 2/ 567 وصححه. وكذا الصنعاني في السبل 1/ 388.
(8)
رواه ابن أبي شيبة 2/ 202 رقم 8139، باب في مسيرة كم يقصر الصلاة، وابن المنذر في الأوسط 4/ 350 رقم 2270، باب ذكر المسافة التي يقصر المرء الصلاة إذا خرج إليها، وصححه الحافظ في الفتح 2/ 467، والألباني في الصحيحة 1/ 308.
الراجح: الذي يترجح والله أعلم هو القول الثاني: أنه لا يحل الفطر في أقل من مسيرة يومين قاصدين، أو مسيرة يوم وليلة بالسير الحثيث، أو أربعة بُرُد 16 فرسخ 48 ميلا هاشميا، والأفضل ترك التحديد بمسيرة الأيام والاكتفاء بمسافة أربعة برد، ما يساوي تقريبا (88) كيلومتر؛ وذلك لأمور:
الأول: لأن التمسك بالتحديد الزمني، دون وضع معيار ثابت بالمقادير المساحية، كالأميال والكيلومترات وغيرها، يقلل الفائدة من العمل بهذه الرخصة وخصوصا بعد أن تطورت وسائل المواصلات في العصر الحديث تطورا يكاد يكون مذهلا، إذ ما كان يقطع في يوم ويومين وثلاث، فيما مضى صار الآن يقطع بالسيارات العادية في أقل من ساعة. فمعنى ذلك أن المسلم لا يتاح له العمل بالرخصة الآن إلا إذا سافر عدة آلاف من الأميال، كما أنه لن يستفيد من الرخصة إذا ما سافر بالطائرات (1).
الثاني: ولأن التمسك بمسافة أربعة برد امتاز بالوضوح فقد حددت فيه المسافة بمقياس مساحي وهو أربعة برد. وأن هذا القياس ارتكز على علامات مادية يمكن الرجوع إليها للتأكد من مقداره وضبطه؛ وهو من مكة إلى عُسْفان، ومن مكة إلى الطائف، ومن مكة إلى جُدَّة.
وقد نقل عن الإمام مالك أنه ترك التحديد بمسيرة الأيام، وتمسك بتحديد المسافة بأربعة برد، فقد سئل عن الرجل يخرج إلى ضَيْعَتِه (2) على ليلتين أيقصر صلاة؟ قال: نعم، وأَبْيَن من ذلك، البرد والفراسخ والأميال، على كم ضيعته منه من ميل أو فرسخ؟ . فقال: على خمسة عشر فرسخا فذلك خمسة وأربعون ميلا، فقال: نعم أرى أن تقصر الصلاة إلى مسيرة ذلك. الصلاة تقصر في مسيرة أربعة برد، وذلك ثمانية وأربعون ميلا، وهذا منه قريب، فأرى أن يقصر الصلاة إلى مسيرة ذلك (3).
الثالث: ولأنه الذي صح عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما.
(1) ينظر: رخصة الفطر في سفر رمضان مجلة الجامعة الإسلامية العدد: 50 - 51، ص:132.
(2)
الضَيْعة والضِياع: ما للرجل من نخل وكرم وأرض، وقيل هي حرفة الرجل. ينظر: تهذيب اللغة 3/ 47، تاج العروس 21/ 433.
(3)
ينظر: البيان والتحصيل 1/ 429.
الرابع: ولأن الأخذ بهذا التحديد، فيه الأخذ بالأحوط؛ إذ لم يخرج عنه إلا من قال بتحديد مسيرة ثلاثة أيام. وسيجاب عن دليلهم الذي استدلوا به إن شاء الله.
وأما ما استدل به أصحاب القولين الآخرين فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما الجواب عن ما استدل به الحنفية من تحديد مدة السفر بثلاثة أيام، فيجاب عنه:
أما استدلالهم بحديث المسح على الخُفَّيْن (1)، فيجاب عنه:
أنه إنما سيق لبيان أكثر مدة المسح، لا لتحديد مدة السفر، فلا يصح الاحتجاج به هاهنا (2).
والدليل أن الصحابي الجليل خزيمة بن ثابت ¢ فهم ذلك من ترخيصه صلى الله عليه وسلم، فقال:«وايْم الله لو مضى السائل في مسألته لجعلها خمسا» (3).
وأما استدلالهم بنهي المرأة عن السفر بلا محرم مدة ثلاثة أيام فيجاب عنه من وجهين:
الوجه الأول: إن هذا الحديث قد ورد بعدة روايات، فالتمسك بإحداها دون بقيتها فيه تحكم، إلا إذا كان هناك ما يرجح رواية على الأخرى. والذي يترجح هنا رواية يوم وليلة، ورواية يومين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد أقل ما يكون سفرا، وكانت الثمانية والأربعون ميلا هو المقدار الذي يسار في هذه المدة على السير المعتاد (4).
الوجه الثاني: ولأن عدم وجود تقدير مساحي لتحديد هذه المسافة بالأميال أو الفراسخ أو البرد، جعل التحديد الزمن بمسيرة ثلاثة أيام قليل الفائدة، خاصة في هذا العصر الذي صارت تقطع فيه المسافات الطوال في الساعات المعدودات.
ثانيا: وأما ما استدل به أصحاب القول الثالث من أن السفر جاء مطلقا في الكتاب، فيجاب عنه:
(1) الخُفَّين: تثنية خُفّ، وهو الساتر للكعبين فأكثر من جلد ونحوه من شيء ثخين. التعريفات الفقهية ص 88.
(2)
ينظر: المغني 2/ 190.
(3)
رواه أحمد 36/ 196 رقم 21871، واللفظ له، وقال محققه الأرنؤوط:"حديث صحيح"، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 417 رقم 1320، وابن ماجه 1/ 184 رقم 553، كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في التوقيت في المسح للمقيم والمسافر. وقال الألباني في صحيح أبي داود 1/ 272:"فهي زيادة صحيحة ثابتة".
(4)
ينظر: البيان والتحصيل 1/ 430.
أن لفظ السفر وإن جاء مطلقا في الكتاب الكريم، وفي السنة المطهرة، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوضح المراد منه، في منعه المرأة من السفر بدون زوج أو محرم مدة معينة، كما جاء في الأحاديث التي ذُكرت (1).
فعُلِم من ذلك أن أدنى المسافة التي يطلق عليها لفظ السفر، هي مسيرة هذه المدة من الزمن.
وقد فهم الصحابة الكرام هذا المعنى: فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «إذا سافرتَ يوما إلى العشاء فأَتِمَّ الصلاة، فإن زِدتَ فاقصُر» (2).
ثالثا: وأما استدلالهم بحديث أنس ¢، فيجاب عنه:
أنه ليس معناه أن غاية سفره صلى الله عليه وسلم كانت ثلاثة أميال أو فراسخ، بل معناه أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر سفرا طويلا فتباعد ثلاثة أميال قصر (3).
وذلك عند توجهه إلى مكة كما جاء في بعض طرق الحديث عند البخاري (4).
فيكون مقدار الثلاثة أميال أو الثلاثة فراسخ الواردة في حديث أنس رضي الله عنه هي بداية القصر، وليست هي مقدار المسافة التي تناط بها الرخصة (5).
رابعا: وكذا يجاب عن فعل عمر رضي الله عنه (6).
خامسا: وأما استدلالهم بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فرسخا قصر الصلاة» ، فيجاب عنه:
أنه حديث لا يصح (7).
(1) ينظر: بدائع الصنائع 1/ 93.
(2)
رواه عبد الرزاق في المصنف 2/ 524 رقم 4299، كتاب الصلاة باب في كم يقصر الصلاة، واللفظ له، وابن أبي شيبة 2/ 201 رقم 8135، كتاب الصلوات، في مسيرة كم يقصر الصلاة.
(3)
ينظر: المجموع 4/ 329.
(4)
صحيح البخاري: برقم 1714 كتاب: الحج، باب: نحر البدن قائمة.
(5)
ينظر: التوضيح لابن الملقن 8/ 476 - 477، إكمال المعلم 3/ 14، ونيل الأوطار 3/ 245.
(6)
ينظر: الاستذكار 2/ 241.
(7)
قال ابن عبد البر: "فيه أبو هارون العبدي متروك". ينظر: الاستذكار 2/ 239.
سادسا: وأما ما ورد من قول ابن عمر رضي الله عنهما، أنه يقصر في سفر ساعة ونحو ذلك مما يتعارض مع التحديد السابق: فإن التحديد بأربعة برد هو أصح الروايتين عن ابن عمر رضي الله عنهما (1).
ثم إنه قد جاء عن ابن عمر رضي الله عنه، أنه كان يخرج إلى الغَابة (2) فلا يفطر ولا يقصر (3).
سابعا: وأما ما جاء في قصة دِحية رضي الله عنه فيجاب عنه:
أن الحديث في صحته كلام، وعلى فرض صحته، فإن دحية ¢ لم يذكر فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفطر في قصير السفر، إنما قال إن قوما رغبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولعلهم إنما رغبوا عن قبول الرخصة في الافطار أصلا (4). والله أعلم.
(1) ينظر: معالم السنن 1/ 262.
(2)
الغَابة: هي موضع قرب المدينة من ناحية الشام فيه أموال لأهل المدينة، من طرفائه صنع منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو على بريد منها. ينظر: مراصد الاطلاع 2/ 980.
(3)
ينظر: السنن الكبرى للبيهقي 4/ 406 برقم 8145.
(4)
ينظر: معالم السنن 2/ 127، السنن الكبرى للبيهقي 4/ 406.