الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: هل يقضي من أفطر في صيام النفل
؟ .
اختيار الشيخ: اختار عدم وجوب القضاء على من أفطر في صيام النفل، فقال: "ويدل على ما ذهب إليه الجمهور من جواز الإفطار، وعدم وجوب القضاء
…
". ثم ذكر الأدلة (1).
تحرير المسألة: من المسائل التي مرت معنا حكم الإفطار في صوم النافلة، وكان المقصود من تلك المسألة: هل يجوز قطع الصيام لمن كان شرع في صيام النفل؟ .
أما مسألتنا هذه فهي متعلقة بإيجاب القضاء على من أفطر متعمدا في صيام النفل من عدمه؛ والسبب في جعلها مسألة مستقلة: أن بعض أهل العلم وهم الظاهرية، أجازوا للمتنفل أن يفطر ولو لغير عذر، ومع هذا ألزموه بالقضاء. بينما الحنفية والمالكية، منعوا الصائم المتنفل من الفطر بغير عذر وألزموه بالقضاء، كما سبق في المسألة سالفة الذكر (2)، وكما سيتبين في هذه المسألة إن شاء الله.
تحرير محل الخلاف: اتفق أهل العلم أنه ليس على من دخل في صيام تطوع ثم قطعه لعذر قضاء (3). واختلفوا في حكم من دخل في صوم نفل ثم قطعه متعمدا بلا عذر على قولين:
القول الأول: يجب عليه القضاء.
وبه قال: الحنفية (4) ، والمالكية (5) ، والظاهرية (6).
القول الثاني: لا يجب عليه القضاء.
وبه قال: الشافعية (7)، والحنابلة (8)، وهو اختيار الشيخ.
(1) مرعاة المفاتيح 7/ 105. وقد ذكر حديث أبي جحيفة، وأم هانئ، وأبي سعيد الخدري.
(2)
صفحة (463).
(3)
نقل هذا الاتفاق كل من: ابن عبد البر في الاستذكار 3/ 355، وابن رشد في بداية المجتهد 2/ 74، وابن القطان في الإقناع 1/ 238. وفيه نظر؛ لأن الحنفية في إحدى الروايتين عندهم يلزمه القضاء وإن أفطر بعذر، ينظر: البناية 4/ 90، البحر الرائق 2/ 309.
(4)
المبسوط 3/ 68، بدائع الصنائع 2/ 102، الاختيار 1/ 66، البناية 4/ 87.
(5)
التمهيد 12/ 72، البيان والتحصيل 18/ 91، الذخيرة 2/ 528، مواهب الجليل 2/ 430.
(6)
المحلى 4/ 417.
(7)
الحاوي الكبير 3/ 468، البيان 3/ 555، فتح العزيز 6/ 464، إعانة الطالبين 2/ 38.
(8)
الهداية ص 165، المغني 3/ 159، شرح العمدة كتاب الصيام 2/ 601، الفروع 5/ 114.
سبب الخلاف: ذكر ابن رشد أن لهذه المسألة سببي خلاف، فقال:"والسبب في اختلافهم: اختلاف الآثار في ذلك"(1).
ثم قال: "ولاختلافهم أيضا في هذه المسألة سبب آخر: وهو تردد الصوم للتطوع بين قياسه على صلاة التطوع أو على حج التطوع"(2).
أدلة القول الأول: القائلين بأنه يجب عليه القضاء.
الدليل الأول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أنا وحفصة صائمتين، فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فبدرتني إليه حفصة، وكانت ابنة أبيها، قالت: يا رسول الله إنا كنا صائمتين اليوم، فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه، فقال صلى الله عليه وسلم:«اقضيا يوما آخر» (3).
وفي لفظ: أصبحت أنا وحفصة رضي الله عنهما صائمتين متطوعتين، فأُهدِي لنا طعام فأفطرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«صوما مكانه يوما آخر» (4).
وجه الاستدلال: في هذا الحديث دليل على أن من أفطر في التطوع يلزمه قضاء اليوم الذي أفطره (5).
قال محمد بن الحسن الشيباني: "وبهذا نأخذ: من صام تطوعا، ثم أفطر فعليه القضاء"(6).
الدليل الثاني: عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال:«إني أريد الصوم» ، وأهدي له حيس، فقال:«إني آكل وأصوم يوما مكانه» (7).
(1) بداية المجتهد 2/ 74.
(2)
المصدر السابق 2/ 75.
(3)
سبق تخريجه صفحة (466).
(4)
سبق تخريجه صفحة (466).
(5)
ينظر: شرح معاني الآثار 2/ 108، وعمدة القاري 11/ 78، والمحلى 4/ 419.
(6)
ينظر: موطأ مالك برواية محمد بن الحسن الشيباني ص: 127.
(7)
رواه النسائي في السنن الكبرى 3/ 364 رقم 3286، في الصيام، باب النية في الصيام، وقال:"هذا اللفظ خطأ، قد روى هذا الحديث جماعة عن طلحة فلم يذكر أحد منهم: «ولكن أصوم يوما مكانه» "، والدارقطني في السنن 3/ 138 رقم 2237، وقال:"ولم يتابع على قوله: «وأصوم يوما مكانه» "، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 456 رقم 8341، في الصيام، باب صيام التطوع والخروج منه قبل تمامه، وقال:"وهو عند أهل العلم بالحديث غير محفوظ".
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ذكر وجوب القضاء (1)، مع أن صيامه الذي قطعه كان نفلا.
الدليل الثالث: ولأنها عبادة، فلزمت بالشروع فيها ووجب القضاء بالخروج منها لغير عذر؛ كالحج، وقد اتفقوا على أن المفسد لحجة التطوع أن عليه القضاء، فالقياس على هذا الإجماع إيجاب القضاء على مفسد صومه عامدا، ويحقق التماثل بينها وبين الحج أن الله تعالى قال في آية الصوم:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (2)، كما قال في آية الحج:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (3)(4).
الدليل الرابع: ولأن من شرع في صيام النفل ثم قطعه صار جانيا، فلزمه القضاء على جنايته (5).
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه لا يجب عليه القضاء.
الدليل الأول: عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما، فقال: كل فإني صائم، فقال: ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم فنام ثم ذهب يقوم، فقال نم؛ فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«صدق سلمان» (6).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر سلمان على تفطير أبي الدرداء رضي الله عنهما ، ولم يأمره بالقضاء، ولو كان القضاء واجبا لأمره؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز (7).
(1) ينظر: شرح معاني الآثار 2/ 109، وعمدة القاري 11/ 78.
(2)
سورة البقرة: آية: 187.
(3)
سورة البقرة: آية: 196.
(4)
ينظر: التمهيد 12/ 80، والتوضيح لابن الملقن 13/ 426، شرح العمدة كتاب الصيام 2/ 615.
(5)
ينظر: المبسوط 3/ 70.
(6)
سبق تخريجه صفحة (464).
(7)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 2/ 623، ونيل الأوطار 4/ 306، وتحفة الأحوذي 3/ 359.
الدليل الثاني: عن أم هانئ رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب شرابا، فناولها لتشرب، فقالت: إني صائمة، ولكن كرهت أن أرد سؤرك، فقال:«يعني إن كان قضاء من رمضان فاقضي يوما مكانه، وإن كان تطوعا فإن شئت فاقضي، وإن شئت فلا تقضي» (1).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق في هذا الحديث بين من أفطر في قضاء رمضان، فجعل القضاء عليه واجبا، وبين من أفطر في صيام النفل، فخيره بين القضاء وعدمه.
قال الخطابي: "قلت في هذا بيان أن القضاء غير واجب عليه إذا أفطر في تطوع"(2).
الدليل الثالث: عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما، فأتاني هو وأصحابه، فلما وضع الطعام قال رجل من القوم: إني صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«دعاكم أخوكم وتكلف لكم» ، ثم قال له:«أفطر، وصم مكانه يوما إن شئت» (3).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم خير هذا الصحابي ¢ بين أن يقضي يومه ذلك وبين أن لا يقضي، فدل على أن القضاء لا يجب.
الدليل الرابع: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «من أصبح صائما تطوعا، إن شاء صام، وإن شاء أفطر، وليس عليه قضاء» (4).
الدليل الخامس: ولأنها عبادة يخرج منها بالإفساد، فلم يجب قضاؤها إذا أفسدها؛ كالوضوء (5).
الترجيح: الذي يترجح في هذه المسألة -والله أعلم- هو القول الثاني: أنه لا يجب القضاء على من قطع صيام التطوع عمدا بلا عذر؛ وذلك لقوة ما استدلوا به، ولكن يستحب القضاء كما جاء في الأدلة.
وأما ما استدل به أصحاب القول الأول فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما استدلالهم بحديث إفطار عائشة وحفصة رضي الله عنهما في صيام النفل؛ وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهما بالقضاء، فيجاب عنه من وجهين:
(1) سبق تخريجه صفحة (465).
(2)
معالم السنن 2/ 135.
(3)
سبق تخريجه صفحة (465).
(4)
رواه عبد الرزاق في المصنف 4/ 271 رقم 7770، في الصيام، باب إفطار التطوع وصومه إذا لم يبيته.
(5)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 2/ 627.
الأول: أنه لا حجة فيه، لأن الثقات قد اتفقوا على إرسال هذا الحديث، وشذ من وصله، وتوارد الحفاظ على الحكم بضعفه (1).
الثاني: وعلى فرض صحته: يُحمَل أمره صلى الله عليه وسلم لهما بالقضاء على الندب، وذلك لأمرين:
الأول: لأن بدل الشيء في أكثر أحكام الأصول يحل محل أصله (2) ، وهو في الأصل الذي هو في مسألتنا صيام النفل مخير، فيكون كذلك في البدل الذي هو قضاء ذلك اليوم (3).
الثاني: أن في بعض روايات هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «لا عليكما، صوما مكانه يوما» (4).
فقوله صلى الله عليه وسلم: «لا عليكما» ؛ أي: لا بأس عليكما، ولو كان الفطر حراما والقضاء واجبا؛ لكان عليهما بأس (5).
ثانيا: وأما استدلالهم بحديث إفطار النبي صلى الله عليه وسلم في صيام النفل وأنه قال: «إني آكل وأصوم يوما مكانه» ، فيجاب عنه من وجهين:
الأول: أن جملة: «وأصوم يوما مكانه» الواردة في الحديث لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم كما بينه أهل هذا الشأن (6).
الثاني: أن هذا الحديث مشكل على أصل الحنفية والمالكية؛ لأنهم لا يجيزون الفطر في صيام النفل بلا عذر، والحديث صريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أفطر بلا عذر؟ . فإما أن يقولوا بضعف تلك الزيادة، ومن ثم يسقط استدلالهم بهذا الحديث، أو يقولوا بجواز الفطر من صيام النفل بغير عذر، مع وجوب القضاء، فيكون مذهبهم كمذهب الظاهرية (7).
ثالثا: وأما إيجابهم القضاء على من أفسد صيام التطوع قياسا على من أفسد حج التطوع، فيجاب عنه:
(1) ينظر: فتح الباري 4/ 212، ونيل الأوطار 4/ 306، وتحفة الأحوذي 3/ 359.
(2)
ينظر: موسوعة القواعد الفقهية 2/ 28.
(3)
ينظر: معالم السنن 2/ 136، وتحفة الأبرار 1/ 510، وشرح المشكاة للطيبي 5/ 1619.
(4)
رواه أبو داوود 2/ 330 برقم 2457 في الصيام باب من رأى عليه القضاء.
(5)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 2/ 628، وشرح الزركشي 2/ 620.
(6)
ينظر كلام ابن عبد البر في التمهيد 12/ 79، والنسائي في السنن الكبرى 3/ 364، رقم 3286، والدارقطني في السنن 3/ 138، رقم 2237.
(7)
ينظر مذهب الظاهرية في المحلى 4/ 417.
أن هذا القياس غير صحيح للفرق بينهما من وجهين:
الأول: أن من أفسد صيامه حال كونه متنفلا، لو تمادى في ذلك الصيام الفاسد، لكان عاصيا، بينما هو في الحج مأمور بالتمادي فيه فاسدا، ولا يجوز له الخروج منه حتى يتمه على فساده، ثم يقضيه (1).
الثاني: أن الكفارة تجب في إفساد فرض الحج ونفله، بخلاف الصوم (2).
رابعا: وأما قولهم إن من شرع في صيام النفل ثم قطعه صار جانيا، فلزمه القضاء على جنايته، فيجاب عنه: أن من شرع في صوم النفل كان محسنا، والله يقول:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} (3)، فإن ألزمناه بالقضاء جعلنا عليه سبيلا، وهو منتفي عنه.
والله أعلم.
(1) ينظر: الاستذكار 3/ 358، والتوضيح لابن الملقن 13/ 426.
(2)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 2/ 638.
(3)
سورة التوبة: آية: 91.