الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السابع: حكم صيام من رأى هلال شوال وحده فردت شهادته
.
اختيار الشيخ: اختار قول الجمهور أن من شهد عند القاضي برؤية هلال شوال فردت شهادته، فإنه لا يفطر، فقال:"قلت: يؤيد قول الجمهور ما روي عن عائشة مرفوعا: «الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس» "(1).
تحرير محل الخلاف: اتفق أهل العلم أن من كان مقيما في جماعة، فأَخبَر برؤية هلال شوال، فرُدَّت شهادته، ثم أظهر الفطر أنه يُنكَر عليه (2).
واختلفوا في من رآه ورُدت شهادته: هل له أن يفطر سِرّا؟ ، على قولين:
القول الأول: لا يجوز له الفطر سِرّا.
وبه قال: الحنفية (3) ، والمالكية (4) ، والحنابلة في المذهب (5)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: يجوز له الفطر سِرّا.
وبه قال: الشافعية (6) ، والحنابلة في رواية (7)، والظاهرية (8).
سبب الخلاف: لاختلافهم في هذه المسألة سببان والله أعلم:
السبب الأول: هل الهلال هو اسم لما يطلع في السماء وإن لم يشتهر، ولم يظهر، أو أنه لا يسمى هلالا إلا بالظهور والاشتهار (9).
السبب الثاني: هل يقاس من رأى هلال شوال وحده، على من رأى هلال رمضان وحده.
(1) مرعاة المفاتيح 6/ 429. وسيأتي تخريج الحديث ص 108 من رواية أبي هريرة.
(2)
درر الحكام 1/ 199، المجموع 6/ 280، مواهب الجليل 2/ 389 - 390، الإنصاف 3/ 278.
(3)
الجوهرة النيرة 1/ 137، درر الحكام 1/ 199، البناية 4/ 31، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 651.
(4)
البيان والتحصيل 2/ 351، المنتقى 2/ 39، الكافي 1/ 335، التاج والإكليل 3/ 292، مواهب الجليل 2/ 390.
(5)
مسائل أحمد وإسحاق 3/ 1203، الهداية ص 156، المغني 3/ 166، الإنصاف 3/ 278.
(6)
الأم 2/ 104، الحاوي 3/ 449، المهذب 1/ 330، روضة الطالبين 2/ 378.
(7)
شرح الزركشي 2/ 630، المبدع 3/ 9، الإنصاف 3/ 278، الإقناع 1/ 304.
(8)
المحلى بالآثار 4/ 378.
(9)
ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 25/ 116، المبدع في شرح المقنع 3/ 9، الإنصاف 3/ 278.
أدلة القول الأول: القائلين لا يجوز له الفطر سِرّا.
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون» (1).
وجه الاستدلال: ظاهر الحديث أن الصوم والفطر لا يكون إلا مع جماعة المسلمين (2).
(1) أخرجه الترمذي 3/ 71 رقم 697، أبواب الصيام، باب ما جاء في أن الفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون، وقال:"هذا حديث حسن غريب"، والدارقطني 3/ 114 رقم 2181، كتاب الصيام، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة 1/ 440:"إسناده جيد".
(2)
ينظر: شرح الزركشي على الخرقي 2/ 630.
(3)
هو: عبد الله بن زيد بن عمرو ويقال ابن عامر، أبو قِلابة الجرمي البصري، من أئمة التابعين، كان ثقة كثير الحديث، روى عن: ابن عباس، وأبي هريرة، وعائشة، وغيرهم من الصحابة، روى عنه: ثابت البُناني، وقتادة، وأيوب، وخلق سواهم، توفي بالشام سنة 104 هـ، وقيل بعدها. ينظر: الطبقات 7/ 183، سير أعلام النبلاء 4/ 468، تهذيب الكمال 14/ 542.
(4)
هو: عمر بن الخطاب بن نفيل العدوي، أبو حفص الفاروق، أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين، ولد سنة 40 ق هـ، أسلم قبل الهجرة بخمس سنين، بايعه المسلمون خليفة بعد أبي بكر، ففتح الله في عهده الفتوح، ووضع التاريخ الهجري، ودون الدواوين، قتله أبو لؤلؤة المجوسي وهو يصلي الصبح سنة 23 هـ. ينظر: الاستيعاب 3/ 1144، الإصابة 4/ 484، تذكرة الحفاظ: 1/ 11.
(5)
رواه عبد الرزاق في المصنف 4/ 164 رقم 7338، كتاب الصيام ، باب أصبح الناس صياما وقد رئي الهلال، واللفظ له، والطبري في تهذيب الآثار 2/ 761 رقم 1125، وابن حزم في المحلى 4/ 378. قال ابن كثير في مسند الفاروق 1/ 271:"وهذا أيضا منقطع".
وجه الاستدلال: إنما أراد عمر رضي الله عنه ضربه لإفطاره برؤيته، ودفع عنه الضرب لكمال الشهادة به وبصاحبه، ولو جاز له الفطر لما أنكر عليه، ولا توعدَه (1).
الدليل الثالث: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «إنّما يوم النّحر يوم ينحر النّاس، ويوم الفطر يوم يفطرون» (2).
وفي رواية: قالت: «إنما النّحر إذا نحر الإمام، وعُظْم النّاس، والفطر إذا أفطر الإمام، وعُظْم النّاس» (3).
الدليل الرابع: ولأنه يجوز أن يكون غالطا في الرؤية؛ ومخالفةُ عامةِ الناس له يقوي هذا الغلط، والفطر ليس مما يُحتاط له بخلاف الصوم (4).
الدليل الخامس: ولأنه قول عمر وعائشة رضي الله عنهما ولم يعرف لهما مخالف في عصرهما، فكان إجماعا (5).
الدليل السادس: ولأن ذلك وسيلة لأهل الفسق والبِدَع إلى الفطر قبل الناس بيوم، ثم إذا اطُلِع عليهم ادعوا رؤية الهلال (6).
أدلة القول الثاني: القائلين يجوز له الفطر سِرّا.
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمّي عليكم فأكملوا العدد» (7).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم علق الحكم بالرؤية، وهذا قد رأى فوجب عليه الفطر (8).
(1) ينظر: المغني 3/ 167، وشرح الزركشي 2/ 630، وشرح عمدة الفقه كتاب الصيام 1/ 156.
(2)
رواه أبو يوسف في الآثار ص: 179 رقم 818، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 422 رقم 8209، كتاب الصيام باب القوم يخطئون في رؤية الهلال، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة 1/ 442:" وهذا سند جيد بما قبله".
(3)
رواه عبد الرزاق في المصنف 4/ 157 رقم 7310، كتاب الصيام باب الصيام.
(4)
ينظر: شرح عمدة الفقه كتاب الصيام 1/ 157، وبدائع الصنائع 2/ 81.
(5)
ينظر: المغني 3/ 167.
(6)
ينظر: المنتقى للباجي 2/ 39، بداية المجتهد 2/ 48.
(7)
سبق تخريجه صفحة (70).
(8)
ينظر: الحاوي الكبير 3/ 449، والبيان للعمراني 3/ 485، وسبل السلام 1/ 559، المحلى 4/ 378.
وإنما اشتُرِطَ عليه الأكل سرا، حتى لا يراه أحد؛ لأنه إذا أظهر الفطر عَرَّض نفسه للتُهمَة وعقوبة السلطان (1).
الدليل الثاني: ولأنه قد تَيقَّن أن هذا اليوم من شوال، فحَلَّ له الأكل؛ كما لو قامت البينة (2).
الدليل الثالث: ولأن يقين نفسه أبلغ من الظن الحاصل بالبَيِّنة (3).
الدليل الرابع: ولأنه لا يجوز له أن يعتقد الصوم، وهو يعلم أنه عليه حرام؛ لأنه يوم العيد عنده (4).
الدليل الخامس: ولأن العبد إنما يعامل الله بما يعلمه (5).
فلا يجوز له أن يترك ما يعتقده، ويقلد غيره.
الراجح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الأول: أنه لا يجوز له الفطر سِرّا؛ لقوة ما استدلوا به؛ ولأن حديث أبي هريرة وأثر عائشة رضي الله عنهما بَيَّنا أن الفطر لا يكون إلا مع جماعة المسلمين، و (سَدّا للذريعة)(6).
وأما أدلة القول الثاني فيجاب عنها بما يلي:
أولا: أما استدلالهم بحديث صوموا لرؤيته الحديث فيجاب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أن الخطاب في الحديث ورد بصيغة الجمع، فهو متوجه إلى الأمة بعمومها لا بأفرادها.
الوجه الثاني: أن الصيام والعيد من العبادات التي يراعى فيها الاجتماع كالصلوات المفروضة.
ثانيا: وأما قولهم: إنه يتيقن أنه من شوال، فيجاب عنه:
أن اليقين قد لا يثبت؛ لأنه يحتمل أن يكون الرائي خُيِّل إليه، كما روي أن رجلا في زمن عمر ¢، قال: لقد رأيت الهلال. فقال له: امسح عينك. فمسحها، ثم قال له: تراه؟ قال: لا. قال: لعل شعرة من حاجبك تقوست على عينك، فظننتها هلالا (7).
(1) ينظر الحاوي 3/ 449، البيان 3/ 485، حلية العلماء 3/ 152، المهذب للشيرازي 1/ 330.
(2)
ينظر: البيان للعمراني 3/ 485.
(3)
ينظر: المجموع 6/ 280، وشرح عمدة الفقه كتاب الصيام لابن تيمية 1/ 155.
(4)
ينظر: البيان والتحصيل للجد 2/ 351 - 352.
(5)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام لابن تيمية 1/ 135.
(6)
الذَّرِيعة: هي المسألة التي ظاهرها الإباحة، ويُتوصل بها إلى فعل المحظور. وسَدّها: منع الوسائل المؤدية إلى المفاسد حسما للفساد. ينظر: أصول الفقه الذي لا يسع جهله ص 211. إرشاد الفحول 2/ 193.
(7)
ينظر: المغني 3/ 167، المبسوط للسرخسي 3/ 79، والبناية للعيني 4/ 25.
ثالثا: وأما قولهم كما لو قامت البينة، فيجاب عنه:
أنه غير صحيح؛ لأن بقيام البينة يكون اليوم محكوم بأنه من شوال، بخلاف مسألتنا فهو محكوم بأنه من رمضان (1).
رابعا: وأما تعليلهم بأنه يوم يحرم صيامه؛ لأنه يوم العيد عنده، فيجاب عنه:
أن حصول المقصود -إن تيقن الرؤية- يقع بالنية والإمساك عن الفِطر (2)، وأما التجرؤ على الفطر في يوم يعتقده عموم المسلمين من رمضان، فإنه باب من أبواب المفاسد التي يجب سدها، حتى لا يتجرأ على الفطر أهل الفسوق والعصيان.
والله تعالى أعلم.
(1) ينظر: المغني 3/ 167.
(2)
ينظر: المنتقى للباجي 2/ 39.