الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الأولى: الوصال أكثر من يوم
.
اختيار الشيخ: اختار أن الوصال أكثر من يوم يباح لمن لم يشق عليه ويحرم على من شق عليه، فقال بعد ذكر الأقوال في المسألة:"والأقرب من الأقوال المذكورة عندي هو التفصيل والله تعالى أعلم"(1).
تحرير المسألة: المقصود بهذه المسألة أن يبقى الصائم على إمساكه إلى مغرب اليوم الثاني أو الثالث أو إلى ما شاء الله من الأيام.
تحرير محل الخلاف: أجمع أهل العلم أن الصائم يحل له الفطر إذا غربت الشمس، وأن تعجيل الفطر في حقه أفضل (2)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر» (3).
واختلفوا في حكم الوصال أكثر من يوم، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يباح لمن لم يشق عليه ويحرم على من شق عليه.
وقال به من الصحابة: عبد الله بن الزبير (4)(5) ، وأخت أبي سعيد الخدري (6) رضي الله عنهما (7).
(1) مرعاة المفاتيح 6/ 459.
(2)
ينظر: الإقناع لابن المنذر 1/ 200، والإقناع لابن القطان 1/ 230، والاستذكار 3/ 288، وبدائع الصنائع 2/ 105، وبداية المجتهد 2/ 69، واختلاف الأئمة العلماء 1/ 232، والمغني 3/ 176، والذخيرة 2/ 510، وعمدة القاري 11/ 44.
(3)
رواه البخاري 3/ 36 رقم 1957، كتاب الصوم، باب تعجيل الإفطار، ومسلم 2/ 771 رقم 1098، في الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه.
(4)
هو: عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي، فارس قريش في زمنه، أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، أول مولود للمسلمين بعد الهجرة، شهد فتح إفريقية زمن عثمان، وبويع له بالخلافة بعد وفاة يزيد بن معاوية، فحكم مصر والحجاز واليمن وخُراسان والعراق وبعض الشام، وكانت وفاته بمكة سنة 73 هـ. ينظر: معرفة الصحابة 3/ 1647، معجم الصحابة 3/ 514، سير أعلام النبلاء 3/ 363.
(5)
مصنف ابن أبي شيبة 2/ 331، الإشراف لابن المنذر 3/ 154، المحلى 4/ 443، المجموع 6/ 358، فتح الباري 4/ 204.
(6)
هي: الفريعة بنت مالك بن سنان، الخدرية الأنصارية، أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما، ويقال لها: الفارعة، شهدت بيعة الرضوان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى لها أصحاب السنن الأربعة. ينظر: الطبقات الكبرى 8/ 366، تهذيب الكمال 35/ 266، تهذيب التهذيب 12/ 445.
(7)
مسند الإمام أحمد رقم 11570، مصنف ابن أبي شيبة 2/ 330، المحلى 4/ 443، فتح الباري 4/ 204.
ومن التابعين: عبد الرحمن بن أبي نُعْم (1) ، وعامر بن عبد الله بن الزبير (2) ، وإبراهيم بن يزيد التيمي (3) ، وأبو الجوزاء (4)(5)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: يحرم عليه الوصال.
وهو المختار عند الشافعية (6) ، وبه قال ابن حزم (7).
القول الثالث: يكره له الوصال.
وبه قال: الحنفية (8) ، والمالكية (9) ، والشافعية في قول (10) ، والحنابلة (11).
(1) هو: عبد الرحمن بن أبي نُعْم البَجَلي، أبو الحكم الكوفي العابد، روى عن: المغيرة بن شعبة، وأبي هريرة، وغيرهما، وعنه: ابنه الحكم، وفضيل بن غزوان، وآخرون، توفي قبل 100 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 5/ 62، تهذيب الكمال 17/ 456، تهذيب التهذيب 6/ 286.
(2)
هو: عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي، أبو الحارث المدني، الإمام العابد، حدث عن: أبيه، وأنس، وجماعة، وعنه: سعيد المقبري، وابن عجلان، وخلق، توفي سنة 121 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 5/ 219، تهذيب الكمال 14/ 57، تهذيب التهذيب 5/ 74.
(3)
هو: إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي -تيم الرباب- أبو أسماء الكوفي، التابعي العالم، روى عن: أنس بن مالك، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، روى عنه: الحكم بن عتيبة، وغيره، توفي سنة 92 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 5/ 60، تهذيب الكمال 2/ 232، تهذيب التهذيب 1/ 177.
(4)
هو: أوس بن عبد الله الربعي، أبو الجوزاء البصري، من كبار العلماء، حدث عن: عائشة، وابن عباس، وغيرهما، وعنه: قتادة، وعمرو بن مالك النكري، وغيرهما، توفي سنة 83 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 4/ 371، وتهذيب الكمال 3/ 392، وتهذيب التهذيب 1/ 383.
(5)
ينظر: مصنف ابن أبي شيبة 2/ 331، الإشراف لابن المنذر 3/ 154، المجموع 6/ 358، فتح الباري 4/ 204.
(6)
مختصر المزني 8/ 155، الحاوي 3/ 471، المهذب 1/ 342، روضة الطالبين 2/ 368.
(7)
المحلى 4/ 443.
(8)
بدائع الصنائع 2/ 79، تحفة الفقهاء 344، تبيين الحقائق 1/ 332، البحر الرائق 2/ 278.
(9)
النوادر والزيادات 2/ 78، الذخيرة 2/ 510، مواهب الجليل 2/ 399، 415، الفواكه الدواني 1/ 305.
(10)
الحاوي 3/ 471، الوسيط 2/ 538، المجموع 6/ 358، الغرر البهية 2/ 224.
(11)
مسائل أحمد وإسحاق 3/ 1212، الهداية ص 164، الكافي 1/ 450، المغني 3/ 175.
سبب الخلاف: وسبب هذا الخلاف: هل نهي النبي صحابته عن الوصال يُحمل على التحريم أو على الكراهة؟ ، ثم إذا حُمِلَ النهي على الكراهة، فهل هي لأجل ما يلحق من المشقة والضعف، فإذا أمن من ذلك، جاز، أم تُسَدُّ الذريعةُ فلا يجوز؟ (1).
أدلة القول الأول: القائلين بأنه يباح لمن لم يشق عليه ويحرم على من شق عليه.
الدليل الأول: عن عائشة رضي الله عنها، قالت:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم» ، فقالوا: إنك تواصل، قال:«إني لست كهيئتكم، إني يُطعمني ربي ويَسقيني» (2).
وجه الاستدلال: أنه صلى الله عليه وسلم واصل بأصحابه بعد النهي، فلو كان النهي للتحريم لما أقرهم على فعله، فعلم أنه أراد بالنهي الرحمة لهم والتخفيف عنهم كما صرحت به عائشة في حديثها؛ وهذا مثل ما نهاهم عن قيام الليل خشية أن يفرض عليهم، ولم ينكر على من بلغه أنه فعله ممن لم يشق عليه. فمن لم يشق عليه ولم يقصد موافقة أهل الكتاب ولا رغب عن السنة في تعجيل الفطر لم يمنع من الوصال (3).
الدليل الثاني: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحجامة والمواصلة، ولم يحرمهما؛ إبقاءً على أصحابه» (4).
وجه الاستدلال: قوله: «إبقاءً على أصحابه» يدل على أن الوصال ليس بحرام ولا مكروه من حيث هو وصال، لكن من حيث يذهب بالقوة. فالصائم إن وجد من نفسه القوة على الوصال جاز له ذلك من غير كراهة (5).
الدليل الثالث: ولأن الأحاديث التي سبق ذكرها تبين أن النهي عن الوصال إنما هو رحمة بالناس، وإبقاء على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهذا تعليل للنهي عن الوصال، والعلة تدور مع
(1) ينظر: رياض الأفهام 3/ 371 - 372.
(2)
رواه البخاري 3/ 37 رقم 1964، في الصوم باب الوصال، ومن قال:"ليس في الليل صيام"، واللفظ له، ومسلم 2/ 776 رقم 1105، في الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم.
(3)
ينظر: فتح الباري 4/ 204، عمدة القاري 11/ 72.
(4)
رواه أبو داود 2/ 309 رقم 2374، كتاب الصوم، باب في الرخصة في ذلك، وأحمد 31/ 119 رقم 18822، وقال محققه شعيب الأرنؤوط:"إسناده صحيح"، وقال الألباني في صحيح أبي داود 7/ 137:"إسناده صحيح، وكذا قال الحافظ". أي ابن حجر.
(5)
ينظر: عمدة القاري 11/ 72، والاستذكار 3/ 335.
المعلول وجودا وعدما، فإن وجدت العلة وجد الحكم وإن انتفت العلة انتفى الحكم، فالصائم إن كان قادرا على الوصال فقد انتفت في حقه عِلَّة الرحمة به والإبقاء عليه، فجاز له الوصال بلا كراهة (1).
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه يحرم عليه الوصال.
الدليل الأول: قوله عز وجل: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (2).
وجه الاستدلال: أن الليل ليس محلا للصيام فلا يحل صومه، ويجب على كل أحد أن يأكل أو يشرب في كل يوم وليلة ولا بد (3).
الدليل الثاني: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم» (4).
وجه الاستدلال: دل الحديث على أن المواصل لا ينتفع بوصاله؛ لأن الليل ليس بمحل للصوم، وأنه بمغيب الشمس فقد أفطر الصائم حكما وإن لم يأكل أو يشرب، وعليه فيكون الوصال خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره (5).
الدليل الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم» ، فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله، قال:«وأيكم مثلي، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني» ، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال، واصل بهم يوما، ثم يوما، ثم رأوا الهلال، فقال:«لو تأخر لزدتكم» ، كَالتَّنْكِيلِ (6) لهم حين أبوا أن ينتهوا (7).
(1) ينظر: عمدة القاري 11/ 72.
(2)
سورة البقرة: آية: 187.
(3)
ينظر: المحلى 4/ 443.
(4)
رواه البخاري 3/ 36 رقم 1954، كتااب الصوم، باب متى يحل فطر الصائم، واللفظ له، ومسلم 2/ 772 رقم 1100، في الصيام، باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار.
(5)
ينظر: فتح الباري 4/ 205، الاستذكار 3/ 336، إكمال المعلم 4/ 40.
(6)
نَكَّلَ به تَنْكِيلا: إِذا عاقبه وجعله عِبرة لغيره. ينظر: الصحاح 5/ 1835، لسان العرب 11/ 677.
(7)
رواه البخاري 3/ 36 رقم 1965، كتاب الصوم، باب متى يحل فطر الصائم، واللفظ له، ومسلم 2/ 774 رقم 1103، في الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم.
وجه الاستدلال من وجهين:
الأول: إن مواصلته صلى الله عليه وسلم بأصحابه بعد نهيهم عن الوصال ليس إقرارا منه لهم على جوازه بل هو تقريع وتنكيل منه صلى الله عليه وسلم، وإنما فعل ذلك صلوات ربي وسلامه عليه لأجل مصلحة النهي في تأكيد زجرهم؛ لأنهم إذا باشروه ظهرت لهم حكمة النهي، وكان ذلك أدعى إلى قلوبهم لما يترتب عليهم من الملل في العبادة والتقصير فيما هو أهم منه وأرجح من وظائف الصلاة والقراءة وغير ذلك، والجوع الشديد ينافي ذلك (1).
الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم «وأيكم مثلي» استفهام بمعنى التوبيخ، المشعر بالاستبعاد، أي: وأيكم بلغ ما بلغتُه من منزلتي عند ربي فأبيت عنده يطعمني ويسقيني، فيكون الوصال من خصوصياته (2).
الدليل الرابع: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال» ، قالوا: إنك تواصل، قال:«إني لست مثلكم إني أُطعَم وأُسقى» (3).
الدليل الخامس: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل، قال:«إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقيني» (4).
وجه الاستدلال من وجهين:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صرح في هذين الحديثين بأن الوصال يختص به وذلك في قوله: «إني لست مثلكم» ، وقوله:«لست كهيئتكم» ، هذا مع ما انضم إلى ذلك من استحباب تعجيل الفطر كما دلت عليه الأحاديث الصحاح (5).
الثاني: قوله: «رحمة لهم» لا يمنع التحريم؛ فإن من رحمته لهم أن حرمه عليهم، وسبب تحريمه: الشفقة عليهم؛ لئلا يتكلفوا ما يشق عليهم (6).
(1) ينظر: فتح الباري 4/ 205، وعمدة القاري 11/ 72.
(2)
ينظر: فتح الباري 4/ 203.
(3)
رواه البخاري 3/ 37 رقم 1962، كتاب الصوم، باب الوصال ومن قال:"ليس في الليل صيام".
(4)
سبق تخريجه صفحة (308).
(5)
ينظر: فتح الباري 4/ 205، وعمدة القاري 11/ 74.
(6)
ينظر: فتح الباري 4/ 205، عمدة القاري 11/ 72.
أدلة القول الثالث: القائلين بأنه يكره له الوصال.
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوِصال، فقال رجل من المسلمين: فإنك يا رسول الله تواصل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني» ، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما، ثم رأوا الهلال، فقال:«لو تأخر الهلال لزدتكم» ، كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا (1).
وجه الاستدلال: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واصلوا معه بعد نهيهم، ولو فهموا منه التحريم؛ لما استجازوا أن يعصوا الله ورسوله، بل فَهِموا أنه نهي رحمةٍ ورِفقٍ بهم، فظنوا أن بهم قوة على الوصال، وأنهم لا حاجة بهم إلى الفطر، فغضِب صلى الله عليه وسلم من هذا الظن الذي ظنّوه (2).
وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوقع صحابته الكرام في الإثم، -لو كان الوصال مُحرّما- وإنما واصل بهم حتى يعلموا أن ما أمرهم به من ترك الوصال هو الأرفق.
الدليل الثاني: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحجامة والمواصلة، ولم يحرمهما؛ إبقاء على أصحابه» (3).
وجه الاستدلال: أن الصحابي ¢ صرَّح في هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُحرِّم الوصال (4).
الدليل الثالث: عن سَمُرَة بن جُنْدُب (5) رضي الله عنه قال: «نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نواصل في شهر الصوم، وكرهه، وليس بالعزيمة» (6).
وجه الاستدلال: قوله: «وليس بالعزيمة» ، دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينههم نهي تحريم.
(1) سبق تخريجه صفحة (309).
(2)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام لابن تيمية 1/ 537، وفتح الباري 4/ 205.
(3)
سبق تخريجه صفحة (308).
(4)
ينظر: فتح الباري 4/ 205.
(5)
هو: سَمُرَة بن جُنْدُب بن هلال الفزاري، من علماء الصحابة وشجعانهم، نشأ في المدينة ونزل البصرة. روى عنه: ابناه سليمان وسعد، وعبد الله بن بريدة، وغيرهم، توفي سنة 60 هـ. ينظر: معرفة الصحابة 3/ 1415، الطبقات الكبرى 6/ 34، 7/ 49، سير أعلام النبلاء 3/ 183.
(6)
رواه الطبراني في المعجم الكبير 7/ 248 رقم 7011، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 158:"رواه البزار، والطبراني في الكبير، وإسناده ضعيف"، وقال الألباني في الصحيحة 6/ 930:"هذا إسناد مظلم مسلسل بالعلل".
الدليل الرابع: ولأن الوصال مجرد تركٍ للأكل بغير نية الصوم، على وجه لا يخاف معه التلف ولا ترك واجب، ومثل هذا لا يكون محرما (1).
الراجح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الثالث: أنه يُكره الوصال، وأن تركه هو الأفضل والأولى، وأن التقرب إلى الله عز وجل بالوصال من خصائصه صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لصحة ما استدلوا به، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع الصحابة الكرام من الوصال رغم أنه قد كرِه وصالهم ونهاهم عنه، فلو كان محرما لما تركهم يواصلون.
وأما الجواب عن ما استدل به أصحاب القولين الآخرين فيكون بما يلي:
أولا: أما القول بجواز الوصال بلا كراهة: فتَأباه الأدلة؛ فنهيه صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة- عن الوصال، وغضبه صلى الله عليه وسلم عندما واصل أصحابه معه، كل ذلك يجعل القول بالجواز دون كراهة قولا ضعيفا؛ فلو كان الوصال جائزا بلا كراهة لما غضب صلى الله عليه وسلم، ولو كان الوصال يجوز لمن لم يشق عليه بلا كراهة، لبَيَّن لهم صلى الله عليه وسلم ذلك.
ثانيا: وأما أصحاب القول بتحريم الوصال فيجاب عنهم بما يلي:
الأول: أما استدلالهم: بقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فيجاب عنه:
بأن يقال: لو صح هذا المعنى الذي ذكروه لم يكن للوصال معنى أصلا، ولا كان في فعله قربة من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الجميع متفقون أن الوصال قربة في حقه صلى الله عليه وسلم كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة التي بينت تقربه صلى الله عليه وسلم إلى ربه بفعله (2).
الثاني: وأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقبل الليل من ها هنا
…
» الحديث، فيجاب عنه:
أن هذا الحديث لا ينافي الوصال؛ لأن المراد بأفطر دخل في وقت الإفطار لا أنه صار مفطرا حقيقة كما قالوا؛ لأنه لو صار مفطرا حقيقة لما ورد الحث على تعجيل الإفطار، ولا النهي عن الوصال، ولا استقام الإذن بالوصال إلى السحر (3). ويكون معنى:«فقد أفطر الصائم» ، جملة خبرية بمعنى الأمر، أي: فليفطر الصائم إذ قد حل له الإفطار (4).
(1) ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 537، وفتح الباري 4/ 205.
(2)
ينظر: فتح الباري 4/ 203.
(3)
ينظر: سبل السلام 1/ 566، إكمال المعلم 4/ 40، عمدة القاري 11/ 73.
(4)
ينظر: صحيح ابن خزيمة 2/ 989.
الثالث: وأما استدلالهم بأحاديث مواصلته صلى الله عليه وسلم بأصحابه على أن فعلهم هذا كان محرما، وإنما فعله صلى الله عليه وسلم ليُبَيِّن لهم صلى الله عليه وسلم حرمة ذلك، فيجاب عنه:
أن الصحابة الكرام لم يكونوا ليواصلوا لو أنهم فهموا من نهيه صلى الله عليه وسلم أنه للتحريم، وإنما فهموا أن نهيه للتنزيه؛ رحمة وشفقة بهم (1).
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليواصل بهم لو كان الوصال محرما، وكيف يوقع صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام في الإثم من أجل أن يبين لهم حرمة الوصال؟ ! (2).
والله أعلم.
(1) ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 537، وعمدة القاري 11/ 75.
(2)
ينظر: المعلم 2/ 48.