الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: حكم صيام يوم عرفة للحاج
.
اختيار الشيخ: اختار كراهة صيام يوم عرفة للحاج فقال: "وظاهر الحديث أنه يستحب صوم يوم عرفة مطلقا، وظاهر حديث أبي هريرة الآتي في الفصل الثاني أنه لا يجوز صومه بعرفات، فيجمع بينهما بأن صوم هذا اليوم مستحب لكل أحد مكروه لمن كان بعرفات حاجا"(1).
تحرير محل الخلاف: اتفق العلماء على جواز صيام يوم عرفة لغير الحاج (2).
واختلفوا في حكم صيامه للحاج على خمسة أقوال:
القول الأول: يستحب إفطار يوم عرفة للحاج.
وبه قال: المالكية (3) ، والشافعية في المعتمد من المذهب (4) ، والحنابلة في المذهب (5) ، وهو قول أكثر العلماء (6).
القول الثاني: يستحب للحاج أن يصوم يوم عرفة، إلا أن يضعفه عن الدعاء، فإن أضعفه عن الدعاء كره في حقه.
وهو مذهب: الحنفية (7) ، والشافعي في القديم (8)، وبه قال: قتادة (9) ، وعطاء (10).
القول الثالث: يكره صوم يوم عرفة للحاج.
وهو قول عند: الحنفية (11)، وقول عند الشافعية (12) ، ورواية عند الحنابلة (13) ، وهو اختيار الشيخ.
(1) مرعاة المفاتيح 7/ 61. يعني ظاهر حديث أبي قتادة ص 427، وحديث أبي هريرة نفس الصفحة.
(2)
التمهيد 21/ 164، بدائع الصنائع 2/ 79، المجموع 6/ 379، شرح العمدة كتاب الصيام 2/ 562.
(3)
الاستذكار 4/ 235، الشامل 1/ 202، الذخيرة 2/ 530، مواهب الجليل 2/ 401.
(4)
مختصر المزني 8/ 164، الحاوي الكبير 3/ 472، فتح العزيز 6/ 468، المجموع 6/ 380.
(5)
الهداية ص 164، المغني 3/ 179، المبدع 3/ 50، الإنصاف 3/ 344.
(6)
الحاوي الكبير 3/ 472، المجموع 6/ 380، المغني 3/ 179.
(7)
المبسوط 3/ 81، بدائع الصنائع 2/ 79، البحر الرائق 2/ 278، تبيين الحقائق 1/ 332.
(8)
معرفة السنن والآثار 6/ 348، المجموع 6/ 380، كفاية النبيه 6/ 395، النجم الوهاج 3/ 356.
(9)
الإشراف لابن المنذر 3/ 156، الاستذكار 4/ 235، المغني 3/ 179، المجموع 6/ 380 - 381.
(10)
الإشراف لابن المنذر 3/ 156، الاستذكار 4/ 235، الحاوي 3/ 472، المغني 3/ 179.
(11)
فتح القدير 2/ 350، تبيين الحقائق 1332، المحيط البرهاني 2/ 393.
(12)
المجموع 6/ 380، وكفاية النبيه 6/ 396، والنجم الوهاج 3/ 356.
(13)
شرح العمدة كتاب الصيام 2/ 568، والإنصاف 3/ 344.
القول الرابع: يستحب صيام يوم عرفة للحاج.
وهو قول: الظاهرية (1).
وروي عن: عائشة، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم ، وإسحاق (2).
القول الخامس: يجب فطر يوم عرفة للحاج.
وهو قول: يحيى بن سعيد الأنصاري (3)(4).
سبب الخلاف: قال ابن رشد: "وأما اختلافهم في يوم عرفة؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر يوم عرفة، وقال فيه: «صيام يوم عرفة يكفر السنة الماضية والآتية» (5)، ولذلك اختلف الناس في ذلك"(6).
أدلة القول الأول: القائلين بأنه يستحب إفطار يوم عرفة للحاج.
الدليل الأول: عن ميمونة رضي الله عنها قالت: «إن الناس شكوا في صيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فأرسلت إليه بحِلاب (7) وهو واقف في الموقف فشرب منه والناس ينظرون» (8).
وجه الاستدلال: في هذا الحديث دليل على استحباب إفطار يوم عرفة للحاج؛ تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، والخير كلّ الخير في ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وللتقوي على الدعاء (9).
(1) المحلى 4/ 437.
(2)
تنظر أقوالهم في: الإشراف لابن المنذر 3/ 155، الاستذكار 4/ 235، التمهيد 21/ 158، الحاوي الكبير 3/ 472، البيان 3/ 549، المغني 3/ 179.
(3)
هو: يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري النجاري، أبو سعيد المدني القاضي، الحافظ الفقيه، كان حجة في الحديث، روى عن: أنس، وعروة، وغيرهما، روى عنه: الزهري، ومالك. توفي سنة 143 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 5/ 468، تهذيب الكمال 31/ 346، تهذيب التهذيب 11/ 221.
(4)
البيان للعمراني 3/ 550، المجموع 6/ 381، فتح الباري 4/ 238.
(5)
سبق تخريجه صفحة (420).
(6)
بداية المجتهد 2/ 70.
(7)
الحِلاب: هو الإناء الذي يجعل فيه اللبن، وقيل الحلاب اللبن المحلوب، وقد يطلق على الإناء ولو لم يكن فيه لبن. فتح الباري 4/ 238، النهاية 1/ 1027.
(8)
أخرجه البخاري 4/ 278 رقم 1989 كتاب الصوم، باب صوم يوم عرفة، ومسلم 2/ 791 رقم 1124 كتاب الصيام، باب استحباب الفطر للحاج يوم عرفة.
(9)
ينظر: فتح الباري 4/ 238، الاستذكار 4/ 233، كشف المشكل لابن الجوزي 4/ 433.
الدليل الثاني: عن ابن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن صوم يوم عرفة بعرفة فقال: «حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه، وحججت مع أبي بكر فلم يصمه، وحججت مع عمر فلم يصمه، وحججت مع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه، ولا آمر به ولا أنهى عنه» (1).
وجه الاستدلال: في الحديث بيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين في تركهم صيام يوم عرفة بعرفة، ولو كان الأفضل في حق الحجيج صيامه لما ترك النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدين صيامه مع ما جاء في صيامه من عظيم الأجر، فدل على أن ذلك الأجر لغير الحاج، وأن المستحب للحاج الفطر تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم.
الدليل الثالث: عن عُقْبة بن عامر (2) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام» (3).
وجه الاستدلال: أن هذه الأيام سوى يوم عرفة مخصوصات بمعنى يتقرب به إلى الله تعالى فيها من صلاة ونحر وتكبير عقيب المكتوبات، فصارت بذلك أعيادا في جميع المواضع، ووجدنا يوم عرفة مخصوصا بمعنى يتقرب به وهو الوقوف بعرفة لأهل الحج دون غيرهم من الناس، فصار لهم بذلك عيدا، فلم يصلح لهم صومه، بخلاف غيرهم ممن ليس له بعيد (4).
(1) أخرجه أحمد 9/ 100 رقم 5080، وقال شعيب الأرنؤوط:"حديث صحيح بطرقه وشواهده"، والترمذي 3/ 116 رقم 751، أبواب الصيام باب كراهية صوم عرفة بعرفة، وقال:"هذا حديث حسن"، وقال الألباني في التعليقات الحسان 5/ 397 رقم 3595:"صحيح لغيره دون قوله: «فأنا لا أصومه .... » إلخ ، وقد ثبت نهيه عنه".
(2)
هو: عُقْبة بن عامر بن عبْس الجهني المصري، كان قارئا عالما بالفرائض والفقه، هاجر قديما، وهو أحد من جمع القرآن، روى عنه: أبو أمامة، وابن عباس، وقيس بن أبي حازم، وآخرون، وشهد صفين مع معاوية، ولي إمرة مصر من قبله سنة 44 هـ، وتوفي في آخر خلافته. ينظر: معرفة الصحابة 4/ 2150، سير أعلام النبلاء 2/ 467، تهذيب التهذيب 7/ 242.
(3)
أخرجه أبو داود 2/ 320 رقم 2419، في الصيام باب صيام أيام التشريق، والترمذي 3/ 134 رقم 773، أبواب الصيام باب ما جاء في كراهية الصوم في أيام التشريق، وقال:"حديث حسن صحيح"، والنسائي 5/ 252 رقم 3004، في الصيام باب النهي عن صوم يوم عرفة، وأحمد 28/ 605 رقم 17379، وقال شعيب الأرنؤوط:"إسناده صحيح على شرط مسلم"، وصححه الألباني في الإرواء 4/ 130.
(4)
ينظر: فتح الباري 4/ 238، فيض القدير 6/ 333، المعتصر من المختصر 1/ 152.
الدليل الرابع: ولأن الصوم يضعف الحاج، ويمنعه الدعاء في هذا اليوم المُعَظَّم، الذي يستجاب فيه الدعاء في ذلك الموقف الشريف، الذي يقصد من كل فج عميق، رجاء فضل الله فيه، وإجابة دعائه به. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة» (1)، فلهذا المعنى كان ترك الصوم فيه أفضل (2).
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه يستحب للحاج صوم يوم عرفة، إلا أن يضعفه عن الدعاء، فإن أضعفه عن الدعاء كره في حقه.
استدل أصحاب هذا القول بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن صيامه يكفر سنتين، وحملوا ما ورد من النهي عن صيامه على من كان يضعفه الصوم.
الدليل الأول: عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده» (3).
الدليل الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة بعرفة» (4).
وجه الاستدلال من الحديثين: إذا كان صوم يوم عرفة له هذا الفضل العظيم، فهو كذلك في حق الحاج إن كان لا يضعفه عن الوقوف، والدعاء لما فيه من الجمع بين القربتين.
وأما إن كان يضعفه عن الوقوف والدعاء والابتهال فيكره؛ لأن فضيلة صوم هذا اليوم مما يمكن استدراكها في غير هذه السنة، وأما فضيلة الوقوف والدعاء فيه فلا يستدرك في حق عامة الناس عادة إلا في العمر مرة واحدة؛ فكان إحرازها أولى (5).
أدلة القول الثالث: القائلين بأنه يكره صوم يوم عرفة للحاج.
(1) رواه مالك في الموطأ ص 214 رقم 32، وعنه البيهقي في الكبرى 5/ 190 رقم 9473، وقال:"هذا مرسل وقد روى عن مالك بإسناد آخر موصولا ووصله ضعيف"، وقال الألباني في مناسك الحج والعمرة ص 29:"حديث حسن أو صحيح له طرق خرجتها في الصحيحة 1503".
(2)
ينظر: المغني 3/ 179، والحاوي الكبير 3/ 473.
(3)
سبق تخريجه صفحة (420).
(4)
أخرجه أحمد 13/ 401 رقم 8031، وأبو داود 2/ 326 رقم 2440، في الصيام باب في صوم عرفة بعرفة، وابن ماجه 1/ 551 رقم 1732، في الصيام باب صيام يوم عرفة. وضعفه الألباني في الضعيفة 1/ 581 رقم 404.
(5)
ينظر: بدائع الصنائع 2/ 79، معالم السنن 2/ 131.
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة بعرفة» (1).
وجه الاستدلال: في الحديث كراهة صيام يوم عرفة للحاج؛ لأنه يوم عيد لأهل عرفة، وليقوى الحاج على الاجتهاد في العبادة (2).
الدليل الثاني: سئل ابن عمر رضي الله عنه عن صوم يوم عرفة فقال: «حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه، وحججت مع أبي بكر فلم يصمه، وحججت مع عمر فلم يصمه، وحججت مع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه، ولا آمر به ولا أنهى عنه» (3).
وجه الاستدلال: أنه يكره صيامه للحاج بعرفة؛ وذلك لترك النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده صيامه، وترك ابن عمر يؤكد هذا المعنى.
الدليل الثالث: ولأن الدعاء في عرفة من أهم أعمال الحاج، والصيام قد يُخِلّ به، فكُرِه لذلك (4).
أدلة القول الرابع: القائلين بأنه يستحب صيام يوم عرفة للحاج.
استدلوا بحديث أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده» (5).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حضَّ على صيام يوم عرفة أعظم حضَّ، وأخبر أنه يكفر ذنوب سنتين، ولم يحضّ النبي صلى الله عليه وسلم الحاج على ترك صيامه، فيبقى الحكم عاما للحاج وغيره (6).
أدلة القول الخامس: القائلين بأنه يجب فطر يوم عرفة للحاج.
استدل أصحاب هذا القول بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة بعرفة» (7).
(1) سبق تخريجه صفحة (427).
(2)
ينظر: التيسير بشرح الجامع الصغير 2/ 474.
(3)
سبق تخريجه صفحة (426).
(4)
فتح القدير للكمال 2/ 350.
(5)
سبق تخريجه صفحة (420).
(6)
ينظر: المحلى 4/ 439 - 440.
(7)
سبق تخريجه صفحة (427).
وجه الاستدلال: أخذا بظاهر الحديث؛ لأن الأصل في النهي أن يقتضي التحريم، فيجب الفطر يوم عرفة للحاج (1).
الترجيح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الأول: أنه يستحب للحاج الفطر يوم عرفة بعرفة؛ وذلك لما يلي:
أولا: أنه هو الثابت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن فعل خلفائه الراشدين من بعده.
ثانيا: أنه يوم عيد لأهل عرفة، كما صح بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثالثا: أن فيه جمعا بين الأدلة الواردة في الباب، فيحمل حديث صيام يوم عرفة يكفر سنتين، على أهل الآفاق، وتحمَل الأحاديث التي فيها استحباب فطر يوم عرفة، على من بعرفة.
وأما ما استدل به أصحاب الأقوال الأخرى فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما ما استدل به أصحاب القول الثاني، فيجاب عنه:
أن الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه في يوم عرفة هو الإفطار، وكذلك هو فعل خلفائه الراشدين من بعده، ولأن هذا اليوم هو يوم عيد لأهل عرفة؛ لاجتماعهم فيه، كما سبق معنا في أدلة القول الأول.
ثانيا: وأما استدلال أصحاب القول الثالث بحديث: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة بعرفة» على إثبات حكم الكراهة لمن صامه، فيجاب عنه:
أنه حديث ضعيف لا تقوم به الحجة (2).
وبنفس الجواب يجاب عن أصحاب القول الخامس القائلين بوجوب فطر يوم عرفة للحاج؛ لأنهم استدلوا بنفس الحديث.
ثالثا: وأما الاستدلال بأثر ابن عمر رضي الله عنهما على إثبات حكم الكراهة، فيجاب عنه:
أنه ليس فيه نهي، وإنما هو خلاف الأفضل (3).
وجواب ابن عمر رضي الله عنه يدل على ذلك، حيث قال:«وأنا لا أصومه، ولا آمر به ولا أنهى عنه» .
(1) ينظر: فتح الباري 4/ 238.
(2)
ينظر: المجموع 6/ 380.
(3)
المصدر السابق.
ثم إن مجرد الترك لا يدل على الكراهة، ولو كان عند ابن عمر رضي الله عنه نص من النبي صلى الله عليه وسلم بالكراهة لما تأخر في التحديث به. نعم فطره صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين من بعده دليل على أن هذا الفعل هو الأفضل، والله أعلم.
رابعا: وأما قولهم: "إن الدعاء في عرفة من أهم أعمال الحاج والصيام قد يخل به، فكره لذلك"، فيجاب عنه:
أن الكراهة حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل من الكتاب أو السنة، ولم يقم دليل على كراهة صيام الحاج في عرفة، وإنما يتوجه القول بأن الفطر أفضل لفعله صلى الله عليه وسلم كما سبق.
خامسا: وأما ما استدل به أصحاب القول الرابع، فيجاب عنه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم حض على صيام يوم عرفة لغير الحاج، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا حج وقف مفطرا؛ بَيانا منه للأفضل، خاصة والمَقام مَقام تعليم وأَخذٍ عنه.
قال الزّرْقاني (1): "ففِطرُ يوم عرفة للحاج أفضل من صومه؛ لأنه الذي اختاره صلى الله عليه وسلم لنفسه"(2). والله أعلم.
(1) هو: محمد بن عبد الباقي بن يوسف بن أحمد الزُّرْقاني المصري، أبو عبد الله الأزهري المالكي، خاتمة المحدثين بالديار المصرية، من مصنفاته: شرح موطأ الإمام مالك، وشرح البيقونية، وشرح المواهب اللدنية، توفي بالقاهرة سنة 1122 هـ. ينظر: شجرة النور الزكية 1/ 460؛ ومعجم المؤلفين 10/ 124؛ فهرس الفهارس 1/ 456، والأعلام 6/ 184.
(2)
شرح الموطأ 2/ 477 - 478.
المطلب الرابع: حكم صيام أيام (التشريق)(1)(للمتمتع)(2) وغيره.
اختيار الشيخ: اختار تحريم صيام أيام التشريق مطلقا فقال: "والراجح عندي هو المنع مطلقا؛ لأحاديث النهي وهي مخصصة للآية، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الرخصة للمتمتع صريحا بسند صحيح"(3).
اختلف أهل العلم في حكم صيام أيام التشريق للمتمتع وغيره على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يجوز صيام أيام التشريق مطلقا.
وبه قال: الحنفية (4) ، والحنابلة في أصح الروايتين (5) ، والأصح عند الشافعية (6).
وهو قول: الظاهرية (7) ، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: يجوز صيام أيام التشريق للمتمتع الذي لم يجد الهدي ولم يصم قبل يوم العيد.
وهو قول: المالكية (8)، والشافعي في القديم (9)، ورواية عند الحنابلة (10).
القول الثالث: يجوز صيام أيام التشريق مطلقا.
وروي ذلك عن: الزبير بن العوام، وأبو طلحة؛ رضي الله عنهما ، والأسود بن يزيد، وابن سيرين (11).
(1) التَشْريق: هو تقديد اللحم، ومنه سميت أيام التشريق وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر؛ لأن لحوم الأضاحي تُشَرَّق فيها أي تُقَدَد في الشرقة وهي الشمس. وقيل غير ذلك. ينظر: النهاية 2/ 464، مختار الصحاح ص 164، القاموس المحيط 1/ 897، تاج العروس 25/ 502.
(2)
التمتع في اللغة: هو الانتفاع بالشي. والمقصود هنا: التمتع بالحج وهو أن يأتي بعمرة في أشهر الحج، ثم يتحلل منها ويحرم بالحج من عامه من مكة. ينظر: النهاية 4/ 292، والمصباح المنير 2/ 562.
(3)
مرعاة المفاتيح 7/ 73.
(4)
الحجة على أهل المدينة 1/ 390، المبسوط 4/ 181، مراقي الفلاح ص 236، مجمع الأنهر 1/ 232. وعندهم: إذا نذر صوم أيام التشريق صح، لكن يفطر ويقضيها. ينظر: كنز الدقائق ص 224.
(5)
المغني 10/ 23، الهداية ص 164، المبدع 3/ 53، الإنصاف 3/ 351.
(6)
الحاوي الكبير 3/ 455، نهاية المطلب 4/ 197، فتح العزيز 6/ 410، المجموع 6/ 441.
(7)
المحلى بالآثار 4/ 451.
(8)
الكافي 1/ 347، البيان والتحصيل 3/ 421، الذخيرة 3/ 352، منح الجليل 2/ 369.
(9)
نهاية المطلب 4/ 197، الحاوي 3/ 456، المجموع 6/ 443، كفاية الأخيار 1/ 202.
(10)
مسائل أحمد وإسحاق 5/ 2213، الكافي 1/ 452، الهداية ص 164، الإنصاف 3/ 351.
(11)
تنظر أقوالهم في: الإشراف لابن المنذر 3/ 153، والاستذكار 4/ 238، والمغني 3/ 169.
سبب الخلاف: قال ابن رشد: "والسبب في اختلافهم: تردد قوله صلى الله عليه وسلم: «في أنها أيام أكل وشرب»، بين أن يحمل على الوجوب، أو على الندب"(1).
أدلة القول الأول: القائلين بأنه لا يجوز صيام أيام التشريق مطلقا.
الدليل الأول: قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (2).
وجه الاستدلال من الآية من وجهين:
الوجه الأول: أن الصحابة رضي الله عنهم فسروا الأيام الثلاثة بأن آخرها يوم عرفة لمن لم يجد الهدي.
فعن ابن عباس رضي الله عنه في تفسيرها: «وهذا على المتمتع بالعمرة إذا لم يجد هديا، فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة، فإن كان يوم عرفةَ الثالثَ فقد تم صومه، وسبعة إذا رجع إلى أهله» (3).
وعن علي رضي الله عنه في صيام الأيام الثلاثة قال: «قبل التروية بيوم، (ويوم الترْوية) (4)، ويوم عرفة» (5).
الوجه الثاني: أن الآية نفسها دلت على أن آخر الأيام الثلاثة التي أوجب الله صومهن في الحج على من لم يجد الهدي من المتمتعين هو يوم عرفة، وبيان ذلك:
أن الله جل ثناؤه أوجب صومهن في الحج بقوله: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} ، وإذا انقضى يوم عرفة، فقد انقضى الحج؛ لأن يوم النحر يوم إحلال من الإحرام، وقد أجمع الجميع أنه غير جائز له صوم يوم النحر: إما لأنه ليس من أيام الحج؛ فأيام التشريق بعده أحرى أن لا تكون
(1) بداية المجتهد 2/ 72.
(2)
سورة البقرة: الآية: 196.
(3)
رواه ابن جرير الطبري 2/ 248، ورواه البيهقي بمعناه في السنن الكبرى 5/ 37، برقم 8904، في جماع أبواب الاختيار في إفراد الحج، باب الإعواز من هدي المتعة ووقت الصوم.
(4)
يوم التَرْوِيَة: هو ثامن ذي الحجة؛ لأنهم كانوا يَرْتَوون فيه من الماء لما بعد. تاج العروس 38/ 194.
(5)
رواه ابن أبي شيبة في المصنف 3/ 383، رقم 15149 في الحج، باب: في قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} ، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 37، رقم 8901، في جماع أبواب الاختيار في إفراد الحج، باب الإعواز من هدي المتعة ووقت الصوم، وابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم 1/ 342.
من أيام الحج، وإما لأنه يوم عيد، فأيام التشريق التي بعده في معناه؛ لأنها أيام عيد. وإذا كان يفوت صومهن بمضي يوم عرفة، لم يكن إلى صيامهن في الحج سبيل؛ لأن الله شرط صومهن في الحج، فلم يجز عنه إلا الهدي (1).
الدليل الثاني: عن نُبَيْشة الهُذلي (2) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أكل وشرب» (3).
الدليل الثالث: عن كَعْب بن مالك (4) رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وأوس بن الحَدَثان (5) أيام التشريق، فنادى:«أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأيام مِنى أيام أكل وشرب» (6).
الدليل الرابع: عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حُذَافة (7) أن يركب راحلته (أيام منى)(8) فيصيح في الناس: «ألا لا يصومن أحد فإنها أيام أكل وشرب» . قال: فلقد رأيته على راحلته ينادي بذلك (9).
(1) ينظر: تفسير ابن جرير 3/ 99.
(2)
هو: نُبَيشة الخير بن عبد الله بن عمرو الهذلي، صحابي قليل الحديث، روى عنه: أبو المليح الهذلي، وغيره. ينظر: معرفة الصحابة 5/ 2702، تهذيب الكمال 29/ 315.
(3)
رواه مسلم 2/ 800 رقم 1141، في الصيام باب تحريم صوم أيام التشريق.
(4)
هو: كعب بْن مَالِك بْن أَبِي كَعْب، الأَنْصَارِيّ السُّلَمِيّ صحابي جليل. أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم في القرآن، بعد تخلفهم عن غزوة تبوك. توفي في زمن معاوية بعد سنة خمسين. ينظر: الاستيعاب 3/ 1323، وأسد الغابة 4/ 187، تهذيب الكمال 24/ 193.
(5)
هو: أَوْسُ بن الْحَدَثَان النَّصْرِيّ، أبو مالك، له صحبة، معدود في المدنيين، روى عنه من الصحابة: كعب بن مالك، وابنه: مالك، واختلف في صحبة ابنه مالك بن أوس بن الحدثان، ينظر: معرفة الصحابة 1/ 304، الاستيعاب 1/ 119، الإصابة 1/ 297.
(6)
رواه مسلم 2/ 800 رقم 1142، في الصيام، باب تحريم صوم أيام التشريق.
(7)
هو: عبد الله بن حُذَافَة بن قَيْس بن عدي، أبو حُذَافة القرشي السَّهْمي، من السابقين الأولين، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام، وهاجر إلى الحبشة، وقيل: شهد بدرا. وأسره الروم في أيام عمر، ثم أطلقوه، توفي بمصر في خلافة عثمان. ينظر: الإصابة 4/ 50، السير 2/ 11، الأعلام 4/ 78.
(8)
أيام منى: هي أيام التشريق أضيفت إلى منى لإقامة الحاج بها. ينظر: المطلع على ألفاظ المقنع ص 237.
(9)
رواه أحمد 36/ 281 رقم 21950، وقال محققه:"صحيح لغيره"، والنسائي في السنن الكبرى 3/ 245 رقم 2893، في الصيام، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 246 رقم 4116، في المناسك باب المتمتع الذي لا يجد هديا ولا يصوم في العشر. وصححه الألباني في الإرواء 4/ 130.
الدليل الخامس: عن عُقْبَة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب» (1).
وجه الاستدلال من هذه الأحاديث: قد ثبت بهذه الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن صيام أيام التشريق، وكان نهيه عن ذلك بمنى والحجاج مقيمون بها وفيهم المتمتعون وغيرهم، ولم يستثن منهم متمتعا ولا غير متمتع، فدخل المتمتعون وغيرهم في ذلك النهي (2).
قال الخطابي -عند إيراده حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه: "وهذا كالتعليل في وجوب الإفطار فيها، وأنها مستحقة لهذا المعنى، فلا يجوز صيامها ابتداء تطوعا ولا نذرا، ولا عن صوم التمتع إذا لم يكن المتمتع صام الثلاثة الأيام في العشر"(3).
وقال أيضا -عند حديث نبيشة الهذلي رضي الله عنه: "فيه دليل على أن صوم أيام التشريق غير جائز؛ لأنه قد وَسَمَها بالأكل والشرب كما وَسَمَ يوم العيد بالفطر، ثم لم يجز صيامه؛ فكذلك أيام التشريق. وسواء كان تطوعا من الصائم، أو نذرا، أو صامها الحاج عن التمتع"(4).
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه يجوز صيام أيام التشريق للمتمتع الذي لم يجد الهدي ولم يصم قبل يوم العيد.
الدليل الأول: قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (5).
وجه الاستدلال من الآية من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: لأن ابن عمر رضي الله عنهما فسرها بذلك فقال رضي الله عنه: «يومٌ قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة، وإذا فاته صامها أيام مِنى» (6).
(1) سبق تخريجه صفحة (426).
(2)
ينظر: شرح معاني الآثار 2/ 246، عمدة القاري 10/ 33، التمهيد 23/ 72.
(3)
معالم السنن 2/ 128.
(4)
المصدر السابق 2/ 233.
(5)
سورة البقرة: الآية: 196.
(6)
رواه ابن جرير الطبري في التفسير 3/ 95 ، وعبد الرزاق في التفسير 1/ 319، وابن أبي شيبة في المصنف 3/ 385 رقم 15159، كتاب الحج، في قوله تعالى:{فصيام ثلاثة أيام في الحج} [البقرة: 196] ، وابن أبي عروبة في المناسك ص 111.
وقال أيضا: «الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج إلى يوم عرفة، فإن لم يجد هديا ولم يصم، صام أيام مِنى» (1).
الوجه الثاني: أنه لا خلاف بين أهل العلم أن هذه الآية نزلت في يوم التروية، وهو الثامن من ذي الحِجَّة، فعُلِم أنه سبحانه وتعالى أراد بها أيام التشريق؛ إذ لا يمكن الصيام قبلها (2).
الوجه الثالث: أن الله أوجب على المتمتع ما استيسر من الهدي، وأنه لا يلزمه نحره إلا يوم النحر وأيام التشريق، فإن لم يجد وجب عليه الصوم، ولا يكون ذلك إلا أيام التشريق؛ لأننا لا نستطيع إلزامه بالصوم وهو لا يدري أيجد الهدي أم لا؟ ، والواجب عليه صيام ثلاثة أيام في الحج ولم يبق معه إلا إيام التشريق، فكان صيامها واجبا عليه (3).
الدليل الثاني: عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما قالا: «لم يُرخَص في أيام التشريق أن يُصَمْن إلا لمن لم يجد الهدي» (4).
وجه الاستدلال: فهذا الحديث نص في المسألة، حيث إنه قد رُخِّص للمتمتع -الذي لم يجد الهدي- في صيام أيام التشريق، والمُرَخِّص هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن قول الصحابي: أُمِرنا بكذا ونُهينا عن كذا ورُخِّص لنا في كذا وأمثالها من العبارات، لها حُكم الرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة قول الراوي: قال صلى الله عليه وسلم كذا (5).
الدليل الثالث: عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: «الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج (لمن لم يجد هديا)، ما بين أن يُهِلّ بالحج إلى يوم عرفة، فإن لم يصم صام أيام مِنى» (6).
الدليل الرابع: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «من فاته صيام ثلاثة أيام في الحج صامهن أيام التشريق» (7).
(1) رواه البخاري 3/ 43، رقم 1999، في الصوم باب صيام أيام التشريق.
(2)
ينظر: الحاوي الكبير 3/ 455، والمُعْلم 2/ 59.
(3)
مستفاد من كلام طويل للطبري في تفسيره 3/ 100، وينظر: تفسير القرطبي 2/ 400.
(4)
أخرجه البخاري 4/ 284 رقم 1997 في الصوم باب صيام أيام التشريق.
(5)
ينظر: المجموع 6/ 442، أضواء البيان 5/ 161، معرفة أنواع علوم الحديث لابن الصلاح ص 49.
(6)
رواه البخاري 4/ 285 رقم 1199، كتاب الصيام، باب صيام أيام التشريق.
(7)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 3/ 154 رقم 12992 كتاب الحج، باب من رخص في الصوم ولم ير عليه هديا، وابن جرير في تفسيره 2/ 249، واللفظ له.
الدليل الخامس: عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أنه كان يقول في ذلك مثل قول عائشة رضي الله عنها» (1).
وجه الاستدلال: أن الصحابة الكرام رضي الله عنهم قد رخصوا للمتمتع بصيام أيام التشريق، مع أنهم ممن رووا أحاديث النهي عن صيامها، فكان دليلا على أن المتمتع مستثنى من عموم النهي والله أعلم.
أدلة القول الثالث: القائلين بأنه يجوز صيام أيام التشريق مطلقا.
الدليل الأول: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين، يوم الفطر، ويوم النحر» (2).
وجه الاستدلال: أن الحديث دل بمنطوقه على تحريم صيام يوم الفطر ويوم الأضحى، ودل بمفهومه على جواز صيام ما عدا ذلك، ويدخل فيه أيام التشريق، وإلا كان تخصيصهما عبثا لا فائدة فيه (3).
الدليل الثاني: ولأن هذا يوم يصح صومه عن الهدي، فصح صومه عن غيره؛ كسائر الأيام (4).
الترجيح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الثاني: أنه يجوز صيام أيام التشريق للمتمتع الذي لم يجد الهدي ولم يصم قبل يوم العيد، وذلك لقوة أدلة هذا القول؛ فهي صحيحة وصريحة، ولأن الأدلة التي عارضت هذا القول عامة، والقاعدة أن العام يبنى على الخاص (5).
وأما ما استدل به أصحاب القولين الآخرين فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما استدلال أصحاب القول الأول بالآية، فيجاب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أما قولهم إن الصحابة رضي الله عنهم قد فسروا الآية بأنها الأيام التي قبل يوم العيد، فغير مُسَلَّم: فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قد فسرها بغير ما فسرها به علي وابن عباس رضي الله عنهم وجعل ابن عمر رضي الله عنهما أيام منى من أيام الحج كما مر، ثم إن عليا ¢ قد جاء عنه الإذن للمتمتع الذي لم يجد الهدي بصيام أيام منى كما سلف في أدلة القول الثاني (6).
(1) رواه البخاري 4/ 284 رقم 1199، في الصوم، باب صيام أيام التشريق.
(2)
رواه مسلم 2/ 799 رقم 1138، في الصيام، باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى.
(3)
ينظر: بداية المجتهد 2/ 72.
(4)
ينظر: المنتقى شرح الموطأ 2/ 59.
(5)
ينظر: إرشاد الفحول 1/ 154، نيل الأوطار 4/ 311.
(6)
صفحة (435).
الوجه الثاني: وأما قولهم إن أيام منى ليست من أيام الحج، فلا معنى له؛ لأنهن يُنْسَك فيهن بالرمي والعكوف على أعمال الحج، كما يُنْسَك غير ذلك من أعمال الحج في الأيام قبلها (1). فلم يبق لهم تعلق بالآية.
ثانيا: وأما استدلالهم بالنهي الوارد في أحاديث النهي عن صوم أيام التشريق، فيجاب عنه:
أن أحاديث النهي عن صوم أيام التشريق جاءت عامة، يُستثنى منها المتمتع بما ثبت في حديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما في أدلة القول الثاني:«أنه لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي» . وحمل المطلق على المقيد واجب، وكذلك بناء العام على الخاص (2).
ثالثا: وأما استدلال أصحاب القول الثالث: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين، يوم الفطر، ويوم النحر» على جواز صيام أيام التشريق، فيجاب عنه:
أن الأحاديث الكثيرة قد دلت على تحريم صيام أيام التشريق، فلا وجه للقول بالجواز مطلقا.
وقد اعتذر ابن قدامة لأصحاب هذا القول بقوله: "والظاهر أن هؤلاء لم يبلغهم نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها، ولو بلغهم لم يَعْدوه إلى غيره"(3).
كما أن ابن عبد البر شكك في نسبة هذا القول إلى قائليه، فقال:"وفي الأسانيد عنهم ضعف"(4). والله أعلم.
(1) ينظر: تفسير الطبري 3/ 100.
(2)
ينظر: نيل الأوطار 4/ 311، وتفسير القرطبي 2/ 400.
(3)
المغني 3/ 169.
(4)
الاستذكار 4/ 238.