الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: هل يجوز الاعتكاف في غير (المسجد الجامع)
(1)؟ .
اختيار الشيخ: اختار عدم اشتراط المسجد الجامع لصحة الاعتكاف، فقال:"قلت: الراجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد؛ لحديث الباب (2) "(3).
ثم قال: "فيصحّ الاعتكاف في كل مسجد تقام فيه الجماعة، ولا يجوز في غيره، ولا يشترط مسجد الجمعة، وإن كان هو أفضل، ويجب الخروج إلى الجُمعة، ولا يبطُل اعتكافه بالخروج إليها"(4).
اختلف الفقهاء في اشتراط المسجد الجامع لصحة الاعتكاف على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يصح الاعتكاف إلا في المسجد الجامع.
وهو قول: الزهري (5)، ورواية: ابن عبد الحَكَم (6) عن الإمام مالك (7).
القول الثاني: يشترط المسجد الجامع إذا تخلل الاعتكاف يوم جمعة، وإلا فلا يشترط.
وهو المشهور من: مذهب المالكية (8).
القول الثالث: لا يشترط المسجد الجامع لصحة الاعتكاف، وإن تخلل اعتكافه يوم جمعة وعليه الخروج لشهودها.
وهو قول: الحنفية (9) ، والشافعية (10) ، والحنابلة (11).
(1) هو: الْمَسْجِد الَّذِي تُقَام فِيهِ الْجُمُعَة، سُمِّي بِهِ لجمعه النَّاس. وَيُقَال لَهُ: الْمَسْجِد الْجَامِع، وَمَسْجِد الْجَامِع. ينظر: تحرير ألفاظ التنبيه ص 131، تاج العروس 20/ 453.
(2)
يعني حديث عائشة الذي سيأتي ذكره صفحة (677).
(3)
مرعاة المفاتيح 7/ 165.
(4)
مرعاة المفاتيح 7/ 166.
(5)
مصنف ابن أبي شيبة رقم 9673، الاستذكار 3/ 385، شرح مسلم للنووي 8/ 68.
(6)
هو: عبد الله بن عبد الحكم بن أعين، أبو محمد الفقيه المالكي، انتهت إليه الرياسة بمصر بعد أشهب، وكان صديقا للشافعي وروى عنه، من مصنفاته: المختصر الكبير؛ والمناسك، توفي سنة 214 هـ. ينظر: ترتيب المدارك 3/ 363، شجرة النور الزكية ص 89، الديباج المذهب 1/ 419.
(7)
المقدمات الممهدات 1/ 256، الاستذكار 3/ 385، المسالك 4/ 255، إكمال المعلم 4/ 151.
(8)
الرسالة ص 63، الكافي 1/ 353، الذخيرة 2/ 535، جامع الأمهات ص 180.
(9)
بدائع الصنائع 2/ 114، تحفة الفقهاء 1/ 373، الهداية 1/ 129، درر الحكام 1/ 213.
(10)
الحاوي 3/ 485، المهذب 1/ 354، البيان 3/ 589، العزيز 3/ 262، روضة الطالبين 2/ 398.
(11)
الهداية ص 166، مختصر الخرقي ص 52، الكافي 1/ 455، الإنصاف 3/ 366.
وقول: الظاهرية (1)، وهو اختيار الشيخ رحمه الله.
سبب الخلاف: قال ابن رشد: "وأما سبب اختلافهم في تخصيص بعض المساجد أو تعميمها: فمعارضة العموم للقياس المخصص له. فمن رجح العموم قال: في كل مسجد على ظاهر الآية، ومن انقدح له تخصيص بعض المساجد من ذلك العموم بقياس اشترط أن يكون مسجدا فيه جمعة لئلا ينقطع عمل المعتكف بالخروج إلى الجمعة"(2).
أدلة القول الأول: القائلين بأنه لا يصح الاعتكاف إلا في المسجد الجامع.
الدليل الأول: قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (3).
وجه الاستدلال: أن الآية أشارت أنه لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجمعة؛ لأن المقصود بالمساجد في الآية جنس معين منها، وهو المسجد الجامع (4).
وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، فلم يعتكف إلا في مسجده، وهو مسجد جامع (5).
الدليل الثاني: عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «السُنَّة على المعتكف أن لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع» (6).
وجه الاستدلال: أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ذكرت أن من شرط الاعتكاف أن يكون في مسجد جامع تصلى فيه الجمعة.
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه يشترط المسجد الجامع إذا تخلل الاعتكاف يوم جمعة، وإلا فلا يشترط.
أ- أدلة جواز الاعتكاف في جميع المساجد إن لم يتخلل اعتكافه صلاة الجمعة:
الدليل الأول: قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (7).
(1) المحلى 3/ 430.
(2)
بداية المجتهد 2/ 77، وينظر: عقد الجواهر الثمينة 1/ 262.
(3)
سورة البقرة: آية: 187.
(4)
ينظر: الاستذكار 3/ 385.
(5)
ينظر: سبل السلام 1/ 595.
(6)
سبق تخريجه صفحة (627).
(7)
سورة البقرة: آية: 187.
وجه الاستدلال: أن لفظ المساجد عام لجميع المساجد، وتخصيصه بالمسجد الجامع يحتاج إلى دليل (1).
قال الإمام مالك: "فعم الله المساجد كلها، ولم يخصص منها شيئا"(2).
الدليل الثاني: عن حذيفة رضي الله عنه ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح» (3).
وجه الاستدلال: أن الحديث أجاز الاعتكاف في جميع المساجد التي تؤدى فيها الصلوات، ولم يخصص المسجد الجامع.
ب- دليل بطلان اعتكافه إذا تخلل اعتكافه جمعة وخرج لها:
أن الخروج في الأصل مضاد للاعتكاف ومناف له؛ لأن الاعتكاف قرار وإقامة، والخروج انتقال وزوال؛ فكان مبطلا له إلا فيما لا يمكن التحرز عنه كحاجة الإنسان. وكان يمكنه التَحرُّز عن الخروج إلى الجمعة بأن يعتكف في المسجد الجامع (4).
أدلة القول الثالث: القائلين بأنه لا يشترط المسجد الجامع لصحة الاعتكاف وإن تخلل اعتكافه يوم جمعة، وعليه الخروج لشهودها.
أ- أدلة جواز الاعتكاف في جميع المساجد إن لم يتخلل اعتكافه صلاة الجمعة:
هي نفس أدلة القول الثاني.
ب- أدلة عدم انقطاع اعتكاف من خرج لصلاة الجمعة، إن كان المسجد لا يجمع فيه:
الدليل الأول: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (5).
(1) ينظر: الاستذكار 3/ 385.
(2)
الموطأ 3/ 450 رقم 1113، كتاب الاعتكاف، باب ذكر الاعتكاف.
(3)
رواه الدارقطني في السنن 3/ 185 رقم 2357، كتاب الصيام، باب الاعتكاف، وقال الألباني في ضعيف الجامع رقم 4250:"موضوع".
(4)
ينظر: بدائع الصنائع 2/ 114.
(5)
سورة الجمعة: آية: 9.
وجه الاستدلال: أن إقامة الجمعة فرض؛ والأمر بالسعي إلى الجمعة أمر بالخروج من المعتكف. ولو كان الخروج إلى الجمعة مبطلا للاعتكاف؛ لَما أُمِر به؛ لأنه يكون أمرا بإبطال الاعتكاف (1).
قال ابن حزم: "وإنما يبطل الاعتكاف خروجه لما ليس فرضا عليه"(2).
الدليل الثاني: عن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا، فأتيته أزوره ليلا، فحدثته ثم قمت لأنقلب، فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد» (3).
وفي رواية: «فذهب معها حتى أدخلها بيتها، وهو معتكف» (4).
وجه الاستدلال: أن للمعتكف أن يخرج من المسجد لما لا بد منه؛ كالجُمعة، ولا يؤثر ذلك في اعتكافه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما خرج للخوف على أهله؛ فيُلحَق به كل حاجة (5).
قال ابن تيمية: "ولا يجوز أن يقال: اعتكافه كان تطوعا، وللمتطوع أن يدع الاعتكاف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحفظ اعتكافه مما ينقصه، ولهذا كان لا يدخله إلا لحاجة، ويُصْغي رأسه إلى عائشة لتُرَجِّله ولا يدخل. ولأنه لو ترك الاعتكاف ساعة لم يكن قد اعتكف العشر الأواخر، وهو صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر. ثم إنه كان يقضي هذا الاعتكاف إذا فاته، فكيف يفسده أو يترك منه شيئا؟ ! "(6).
الدليل الثالث: عن علي رضي الله عنه ، قال:«المُعتكِف يشهد الجمعة، ويتبع الجنازة، ويعود المريض» (7).
وجه الاستدلال: أن عليا رضي الله عنه سمى من خرج لشهود الجمعة معتكفا، فدل على أن خروجه إليها لا يقطع اعتكافه.
(1) ينظر: بدائع الصنائع 2/ 114.
(2)
المحلى 3/ 422.
(3)
سبق تخريجه صفحة (641).
(4)
رواه عبد الرزاق في المصنف 4/ 360 رقم 8066، كتاب الاعتكاف، باب خروج النبي صلى الله عليه وسلم في اعتكافه.
(5)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 2/ 804، والمغني 3/ 192.
(6)
شرح العمدة كتاب الصيام 2/ 804.
(7)
سبق تخريجه صفحة (627).
الدليل الرابع: ولأنه لا مانع من إقامة الجمعة في سائر المساجد، فكذا لا مانع من الاعتكاف في سائر المساجد.
قال الجصاص: "وكما لا تُمنع صلاة الجمعة في سائر المساجد، كذلك لا يمتنع الاعتكاف فيها. فكيف صار الاعتكاف مخصوصا بمساجد الجُمُعات دون مساجد الجَماعات؟ ! "(1).
الترجيح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الثالث: أنه لا يشترط لصحة الاعتكاف المسجد الجامع وإن تخلل اعتكافه يوم جمعة، وعليه الخروج لشهود صلاة الجمعة؛ وذلك لصحة ما استدلوا به، ولعدم وجود نص صريح يشترط المسجد الجامع لصحة الاعتكاف، ولأن خروج المعتكف إلى الجمعة ضرورة من الضرورات لا يبطل بها الاعتكاف.
وأما ما استدل به أصحاب القولين الآخرين فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما قولهم: إن الآية أشارت إلى جنس معين من المساجد وهو ما يجمع فيه، فيجاب عنه:
أنها دعوا بلا بينة، بل إن (ال) في المساجد للعموم، وتخصيص مساجد الجُمَع دون غيرها لا دليل عليه، ولقائل أن يقول: بل إن الآية أشارت إلى جنس من المساجد وهو ما بناه نبي! (2).
ثانيا: وأما قولهم: وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم بفعله فلم يعتكف إلا في مسجده وهو مسجد جامع، فيجاب عنه:
وأيضا لم يعتكف إلا صائما، ولا يشترط الصيام على الراجح، ولم يعتكف إلا في رمضان وشوال، والاعتكاف جائز في السنة كلها، فمجرد الفعل لا يستلزم الشرطية (3).
ثالثا: وأما استدلالهم بحديث عائشة والذي فيه: «ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع» ، فيجاب عنه من وجهين:
الأول: أن المقصود المسجد الذي تقام فيه صلاة الجماعة، والدليل الرواية الثانية وفيها:«ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة» (4).
(1) أحكام القرآن 1/ 302 - 303.
(2)
ينظر: الاستذكار 3/ 385.
(3)
ينظر: المحلى 3/ 413.
(4)
سبق تخريجه صفحة (627).
الثاني: وعلى التسليم بأن المقصود هنا المسجد الذي تقام فيه الجمعة: فقد مر معنا أن الراجح أن قوله: «والسنة
…
» مُدْرَج في الحديث، من قول الزهري فمن دونه (1) ، فلا حجة فيه؛ لأنه اجتهاد لا دليل عليه.
ثالثا: وأما من اشترط المسجد الجامع إذا تخلل الاعتكاف يوم جمعة، فيجاب عنه: أن خروج المعتكف إلى الجمعة ضرورة من الضرورات، لا يبطل بها الاعتكاف، فيكون خروجه لها كالمستثنى باللفظ؛ لوجوبها عليه (2). والله أعلم.
(1) ينظر: الاستذكار 3/ 389، معالم السنن 2/ 141، شرح المشكاة للطيبي 5/ 1632.
(2)
ينظر: شرح الزركشي 3/ 9.