الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية: الوصال إلى السَحَر
(1).
اختيار الشيخ: اختار أن الوصال إلى السحر يجوز بلا كراهة، لكن تعجيل الفطر أفضل، فقال مرجحا لهذا القول:"والقول الراجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد والله تعالى أعلم"(2).
تحرير محل الخلاف: مر في المسألة السابقة خلاف الفقهاء في حكم الوصال أكثر من يوم؛ لأن الجميع يسميه وصالا. ولكن في مسألتنا هذه انقسم الفقهاء إلى فريقين:
الأول: فريق لا يرى الوصال من سحر إلى سحر شيئا؛ لأن الإمساك إلى السحر ليس وصالا عندهم، بل الوصال أن يمسك في الليل جميعه كما يمسك في النهار، وإنما أُطلِق على الإمساك إلى السحر وصالا لمشابهته الوصال في الصورة.
وهؤلاء هم: الحنفية (3)، والشافعية (4) ، فهم ليسوا معنا في هذه المسألة.
الثاني: وفريق يسمون الإمساك من سحر إلى سحر وصالا، وهم المالكية، والحنابلة.
وقد اختلفوا في حكم الوصال من سحر إلى سحر على قولين:
القول الأول: يُكره الوصال من سحر إلى سحر.
وهو قول المالكية في المذهب (5).
القول الثاني: يجوز الوصال من سحر إلى سحر بلا كراهة، ولكن تعجيل الفطر أفضل.
(1) السَّحَر: وهو الوقت المعروف آخر الليل قُبيل الصبح، وقت إدبار الليل وإقبال النهار فهو متنفس الصبح. ينظر: التعريفات الفقهية ص 112، مختار الصحاح ص 143، تاج العروس 11/ 512.
(2)
مرعاة المفاتيح 6/ 459 - 460.
(3)
قال العيني: "وحقيقة الوصال هو أن يصل صوم يوم بصوم يوم آخر من غير أكل أو شرب بينهما، هذا هو الصواب في تحقيق الوصال". عمدة القاري 11/ 73. وينظر: بدائع الصنائع 2/ 79، وتبيين الحقائق 1/ 332، والبحر الرائق 2/ 278، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 641.
(4)
قال النووي: "قال أصحابنا: وحقيقة الوصال المنهي عنه أن يصوم يومين فصاعدا، ولا يتناول في الليل شيئا لا ماء ولا مأكولا، فإن أكل شيئا يسيرا أو شرب فليس وصالا، وكذا إن أخر الأكل إلى السحر لمقصود صحيح أو غيره فليس بوصال" المجموع 6/ 357. وينظر: الحاوي الكبير 3/ 71، وفتح الباري 4/ 204.
(5)
النوادر والزيادات 2/ 78، المنتقى 2/ 42، مواهب الجليل 2/ 399، المسالك لابن العربي 4/ 173.
وبه قال: الحنابلة (1)، وإسحاق (2)، وعبد الله بن وهْب (3)(4) ، واللَّخْمي (5)(6) من المالكية، وهو اختيار الشيخ عبيد الله.
سبب الخلاف: والسبب في اختلافهم والله أعلم: هل نهيه صلى الله عليه وسلم عن الوصال يدخل فيه الإمساك من سحر إلى سحر أم لا؟ .
أدلة القول الأول: القائلين بأنه يكره الوصال من سحر إلى سحر.
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواصل إلى السحر» ، ففعل بعض أصحابه، فنهاه، فقال: يا رسول الله، إنك تفعل ذلك قال:«لستم مِثلي، إني أظل عند ربي يُطعمني ويَسقيني» (7).
وجه الاستدلال: أن هذا الحديث صريح في النهي عن الوصال إلى السحر (8).
الدليل الثاني: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم» (9).
(1) مسائل أحمد وإسحاق 3/ 1211، الكافي 1/ 450، الإقناع 1/ 319، الروض المربع ص 240.
(2)
مسائل أحمد وإسحاق 3/ 1212، الإشراف لابن المنذر 3/ 154، والاستذكار 3/ 335، والمعلم 2/ 48.
(3)
هو: عبد الله بن وهب بن مسلم المصري؛ أبو محمد الفِهْري بالوَلاء، من تلاميذ الإمام مالك؛ والليث بن سعد، جمع بين الفقه والحديث والعبادة، كان حافظًا مجتهدًا، عرض عليه القضاء فامتنع ولزم منزله، توفي بمصر سنة 197 هـ، من مصنفاته: الجامع في الحديث. ينظر: سير أعلام النبلاء 9/ 223، التهذيب 6/ 71؛ والأعلام 4/ 144.
(4)
المنتقى للباجي 2/ 42، ومواهب الجليل 3/ 401، وشرح الزرقاني على الموطأ 2/ 268.
(5)
هو: علي بن محمد الربعي القيرواني، أبو الحسن اللَّخْمي، من فقهاء المذهب المالكي بالمدرسة المغربية، كان دينا متفننا، وهو أحد الأربعة الذين اعتمدهم خليل في مختصره، وتفقه به جماعة من الطبقة العاشرة في طبقات المذهب المالكي، من مؤلفاته: التبصرة وهو تعليق على المدونة، توفي سنة 478 هـ بصفاقس. ينظر: ترتيب المدارك 2/ 69؛ الديباج المذهب 1/ 114؛ شجرة النور الزكية 1/ 117.
(6)
التبصرة 2/ 780، وينظر: الذخيرة 2/ 510، مواهب الجليل 2/ 399.
(7)
رواه أحمد في المسند 14/ 480 رقم 8902، وابن خزيمة في صحيحه 2/ 996 رقم 2072، كتاب الصوم، باب النهي عن الوصال إلى السحر، إذ تعجيل الفطر أفضل من تأخيره
…
وقال الألباني في تعليقه على صحيح ابن خزيمة: "إسناده صحيح على شرط البخاري".
(8)
ينظر: فتح الباري 4/ 209، وعمدة القاري 11/ 76.
(9)
سبق تخريجه صفحة (309).
وجه الاستدلال: أن قوله: «فقد أفطر الصائم» أي: صار مفطرا حقيقة، فلا معنى حينئذ للوصال (1).
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه يجوز الوصال من سحر إلى سحر بلا كراهة.
الدليل الأول: عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر» (2).
وجه الاستدلال: فهذا الحديث صريح في إذنه صلى الله عليه وسلم بالوصال إلى السحر (3).
الدليل الثاني: عن علي رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل من سحر إلى سحر» (4).
وجه الاستدلال: أن الحديث نص على أن الإمساك من سحر إلى سحر يسمى وصالا، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم فيه وفعله فيكون نهيه عن الوصال عام، وإذنه بالوصال إلى السحر خاص فيبنى العام على الخاص (5).
الدليل الثالث: ولأن هذا الوصال الذي أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يترتب عليه شيء مما يترتب على غيره، إلا أنه في الحقيقة بمنزلة عشائه إلا أنه يؤخره؛ لأن الصائم له في اليوم والليلة أكلة، فإذا أكلها في السحر كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره، وكان أخف لجسمه في قيام الليل (6).
الترجيح: الذي يترجح -إن شاء الله- هو القول الثاني: أنه يجوز الوصال إلى السحر بلا كراهة، -وإن كان تعجيل الفطر هو الأفضل-؛ لورود النص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالإذن في ذلك.
وأما ما استدل به أصحاب القول الأول فيجاب عنه بما يلي:
(1) ينظر: شرح الزرقاني على الموطأ 2/ 268.
(2)
رواه البخاري 3/ 38 رقم 1967، كتاب الصوم، باب الوصال إلى السحر.
(3)
ينظر: التبصرة 2/ 780، التمهيد 14/ 362، الفروع 5/ 96، سبل السلام 1/ 566.
(4)
رواه أحمد في مسنده 2/ 109 رقم 700، والطبراني في المعجم الكبير 1/ 109 رقم 185، واللفظ له، وعبد الرزاق في المصنف 4/ 267 رقم 7752، كتاب الصيام، باب الوصال، وابن أبي شيبة في المصنف 2/ 331 رقم 9589، كتاب الصيام، باب ما قالوا في الوصال في الصيام من نهي عنه، وقال في مجمع الزوائد 3/ 158 رقم 4901:"رجاله رجال الصحيح"، وقال محققو المسند:"حسن لغيره".
(5)
ينظر: نيل الأوطار 4/ 259، وإرشاد الساري 3/ 398.
(6)
ينظر: فتح الباري 4/ 204.
أولا: أما استدلالهم بحديث أبي هريرة رضي الله عنه والذي فيه نهيه صلى الله عليه وسلم عن الوصال إلى السحر، فيجاب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أن رواية: «يواصل إلى السحر» ، (رواية شاذة) (1)؛ لأن جميع من روى هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه رواه دون قوله:«إلى السحر» ، ولم يروها إلا عبيدة بن حميد (2)، فكان المحفوظ رواية الأكثر عن أبي هريرة رضي الله عنه (3).
الوجه الثاني: وعلى تقدير أن تكون رواية عبيدة محفوظة فيجمع بين هذه الرواية وحديث أبي سعيد الخدري ¢ بأن يكون النهي عن الوصال أولا جاء مطلقا، سواء في ذلك جميع الليل أو بعضه، ثم خُصّ النهي بجميع الليل، فأباح الوصال إلى السحر. فيُحمَل حديث أبي سعيد ¢ على هذا، وحديث عبيدة على الأول (4).
ثانيا: وأما استدلالهم بحديث عمر رضي الله عنه والذي فيه: «فقد أفطر الصائم» ، فيجاب عنه:
أن المراد بـ: «أفطر» دخل في وقت الإفطار، لا أنه صار مفطرا حقيقة؛ لأنه لو صار مفطرا حقيقة لما ورد الحث على تعجيل الإفطار، ولا النهي عن الوصال، ولا استقام الإذن بالوصال إلى السحر (5).
والله أعلم.
(1) المحفوظ والشاذ: إن خولف بأرجح منه: لمزيد ضبط، أو كثرة عدد، أو غير ذلك من وجوه الترجيحات، فالراجح يقال له:"المحفوظ". ومقابله، وهو المرجوح، يقال له:"الشاذ". ينظر: نزهة النظر ص 84.
(2)
هو عُبَيدة بن حميد بن صهيب التَّيْمِيّ الحذاء رَوَى عَن: الأسود بْن قَيْس، وحميد الطويل، وغيرهما، وعنه: أحمد بن حنبل، وسفيان الثوري، وغيرهما، توفي سنة: 90 هـ. صدوق ربما أخطأ. ينظر: تهذيب الكمال 19/ 260 وتهذيب التهذيب 7/ 82، وتقريب التهذيب ص 379.
(3)
ينظر: فتح الباري 4/ 209، وعمدة القاري 11/ 76.
(4)
المصدران السابقان.
(5)
ينظر: سبل السلام 1/ 566.