الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: نسخ وجوب صيام يوم عاشوراء
.
اختيار الشيخ: اختار أن صوم عاشوراء كان واجبا ثم نسخ، فقال:"واستدل من قال بوجوب صوم عاشوراء في أول الإسلام بأحاديث كثيرة". ثم قال: "وهذا القول هو الراجح عندنا"(1).
تحرير محل الخلاف: لا يختلف أهل العلم أن عاشوراء يوم من أيام شهر الله المحرم (2)، وأن صيامه مرغب فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يُكَفِّر السنة التي قبله» (3). واتفقوا أيضا على أن صوم يوم عاشوراء الآن سنة وليس بواجب (4).
واختلفوا في حكمه أول الإسلام، على قولين:
القول الأول: أن صيامه كان واجبا ثم نسخ وجوبه وصار سنة مؤكدة بعد فرض صيام رمضان.
وهو قول: الحنفية (5) ، والمالكية (6) ، وقول عند الشافعية (7) ، ورواية عند الحنابلة (8)، وهو اختيار الشيخ رحمه الله.
القول الثاني: أن صيامه كان سنة مؤكدة، ثم صار دون ذلك بعد فرض رمضان.
وهو الأصح عند الشافعية (9) ، والمذهب عند الحنابلة (10).
سبب الخلاف: والسبب في اختلافهم -والله أعلم-: ما المقصود بترك صيام عاشوراء بعد فرض صيام رمضان الوارد في الحديث: أهو ترك فرضيته، أو ترك تأكد سُنِّيته؟ .
أدلة القول الأول: القائلين بأن صيامه كان واجبا، ثم نسخ وجوبه.
(1) مرعاة المفاتيح 7/ 98.
(2)
ينظر: رد المحتار 6/ 429، الدر الثمين ص 452، العزيز 3/ 246، الكافي لابن قدامة 1/ 450.
(3)
سبق تخريجه صفحة (420).
(4)
الاستذكار 3/ 327، المجموع 6/ 383، المغني 3/ 178، عمدة القاري 11/ 118.
(5)
المبسوط 3/ 67، بدائع الصنائع 2/ 103، البناية 4/ 9، البحر الرائق 2/ 279.
(6)
المقدمات 1/ 242، المنتقى 2/ 35، الذخيرة 1/ 110، مواهب الجليل 2/ 378.
(7)
المجموع 6/ 383، الشافي في شرح مسند الشافعي 3/ 245، كفاية النبيه 6/ 228، النجم الوهاج 3/ 272.
(8)
المغني 3/ 178، الفروع 5/ 92، المقنع 1/ 318، الإنصاف 3/ 346.
(9)
الحاوي الكبير 3/ 473، المجموع 6/ 383، أسنى المطالب 1/ 431، نهاية المحتاج 3/ 207.
(10)
المغني 3/ 178، الفروع 5/ 91، المقنع 1/ 318، الإنصاف 3/ 346.
الدليل الأول: عن عائشة رضي الله عنها، قالت:«كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما نزل رمضان كان رمضان الفريضة، وتُرِك عاشوراء، فكان من شاء صامه ومن شاء لم يصمه» (1).
وجه الاستدلال من أربعة وجوه:
الوجه الأول: في قولها رضي الله عنها: «صامه وأمر بصيامه» ، دليل على أنه كان واجبا؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصيامه، والأمر المجرد عن القرائن يدل على الوجوب (2).
الوجه الثاني: في قولها رضي الله عنها: «كان رمضان الفريضة» ، وهذا اللفظ مشير إلى فرضية عاشوراء قبل رمضان، فمعنى كلامها: صار رمضان هو الفريضة، بعد أن كان عاشوراء هو الفريضة (3)؛ فيكون معنى (كان) هنا بمعنى:(صار)(4).
الوجه الثالث: في قولها رضي الله عنها: «وتُرِك عاشوراء» ، فهذا لا يمكن التخلص منه إلا بأن صيامه كان فرضا قبل رمضان، وحينئذ فيكون المتروك وجوب صومه لا استحبابه، ويتعين هذا ولا بد؛ لأنه عليه السلام قال قبل وفاته بعام كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما:«لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع» (5)، أي: معه، فعُلِم أن استحبابه لم يترك (6).
الوجه الرابع: في قولها رضي الله عنها: «فكان من شاء صامه ومن شاء لم يصمه» : دليل على التخيير في صيامه، مع أنه سنة اليوم؛ فلو لم يكن قبل ذلك واجبا لم يصح التخيير (7).
(1) رواه البخاري 6/ 24 رقم 4504، كتاب تفسير القرآن، باب {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} ، واللفظ له، ومسلم 2/ 792 رقم 1125، كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء.
(2)
ينظر عمدة القاري 11/ 122، والكواكب الدراري 9/ 77، والمنتقى 2/ 58.
(3)
ينظر: فيض الباري 5/ 204، وينظر: البيان والتحصيل 17/ 324.
(4)
كقوله تعالى: {إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين} سورة ص: الآية: 74. أي: صار.
(5)
رواه مسلم 2/ 798 رقم 1134، كتاب الصيام باب أي يوم يصام في عاشوراء.
(6)
ينظر: زاد المعاد 2/ 68.
(7)
ينظر: المجموع 6/ 384.
الدليل الثاني: عن الرُبَيِّع بنت مُعَوّذ ابن عَفْراء (1) رضي الله عنها، قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار، التي حول المدينة:«من كان أصبح صائما، فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرا، فليتم بقية يومه» . فكنا بعد ذلك نصومه، ونصوم صبياننا الصغار منهم إن شاء الله، ونذهب إلى المسجد، فنجعل لهم اللعبة من العِهْن (2)، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناها إياه عند الإفطار (3).
وجه الاستدلال من الحديث على أن صوم يوم عاشوراء كان فرضا من وجهين:
الأول: لأنه عليه السلام أمرهم بإتمام بقية يومهم ذلك بعد أن تَغَدَّوا في أول يومهم، وهذا لا يكون إلا في الواجب؛ وذلك كرمضان إذا أفطروا في أول يوم منه عند عدم ثبوت الرؤية، ثم ثبت في أثناء النهار، فإن الواجب عليهم إمساك بقية يومهم (4).
الثاني: في قولها: «ونصوم صبياننا الصغار» وهذا غاية تأكيد من كون صوم يوم عاشوراء كان فرضا (5)؛ إذ لم يرد عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم حَثَّ صبيانهم على صيام يوم عرفة الذي هو أعظم أجرا من صيام عاشورا.
الدليل الثالث: أن أسْلم أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «صمتم يومكم هذا» ؟ قالوا: لا، قال:«فأتموا بقية يومكم، واقضوه» (6).
(1) هي: الرُّبَيّع بنت مُعوّذ بن عفراء النجارية الأنصارية، صحابية من ذوات الشأن في الإسلام، بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان تحت الشجرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يغشى بيتها فيتوضأ ويصلي ويأكل عندها، عاشت إلى أيام معاوية. ينظر: الاستيعاب 4/ 1837، الطبقات 8/ 447، الإصابة 8/ 132.
(2)
العِهْن: هو الصوف مطلقا، وقيل الصوف المصبوغ ألوانا، وجمعه عهون. ينظر: تهذيب اللغة 1/ 104، الصحاح 6/ 2169، معجم مقاييس اللغة 4/ 177.
(3)
رواه البخاري 3/ 37 رقم 1960، كتاب الصوم باب صوم الصبيان، ومسلم 2/ 798 رقم 1136، كتاب الصيام باب من أكل في عاشوراء فليكف بقية يومه، واللفظ له.
(4)
ينظر: نخب الأفكار 8/ 391، وعمدة القاري 11/ 119.
(5)
ينظر: نخب الأفكار 8/ 393.
(6)
سبق تخريجه صفحة (115).
وجه الاستدلال: في قوله: «فأتموا بقية يومكم، واقضوه» صريح في دلالته على الفرضية؛ لأن القضاء لا يكون إلا في الواجبات، فصار كرمضان إذا أفطروا في أول يوم منه عند عدم ثبوت الرؤية، ثم ثبت في أثناء النهار، فإن الواجب عليهم إمساك بقية يومهم ثم قضاء يوم آخر (1).
الدليل الرابع: حديث الأشْعَث بن قَيْس (2) ¢ أنه دخل على ابن مسعود رضي الله عنه وهو يأكل يوم عاشوراء، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إن اليوم يوم عاشوراء، فقال:«قد كان يصام قبل أن ينزل رمضان، فلما نزل رمضان ترك، فإن كنت مفطرا فاطْعَم» (3).
وجه الاستدلال: في هذا الحديث دليل على أن صيام يوم عاشوراء كان فرضا ثم ترك؛ وذلك أن ابن مسعود رضي الله عنه أخبرَ مَن أنكر عليه الأكل في يوم عاشوراء، بأن لزوم صيامه قد تُرك لمّا فُرض صيام شهر رمضان (4).
أدلة القول الثاني: القائلين بأن صيامه كان سنة مؤكدة، ثم صار دون ذلك بعد فرض رمضان.
الدليل الأول: عن معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنه قال: يا أهل المدينة أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:«هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر» (5).
وجه الاستدلال: "قوله: «لم يكتب عليكم صيامه» يدل على أنه لم يكن واجبا قط؛ لأن (لم) لنفي الماضي"(6).
(1) ينظر: نخب الأفكار 8/ 391، وعمدة القاري 11/ 119.
(2)
هو: الأشعث بن قيس بن معدي كرب الكندي، أبو محمد، له صحبة. وفد على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ظهور الإسلام، فأسلم، وشهد اليرموك فأصيبت عينه. كان من ذوي الرأي والإقدام. توفي سنة 40 هـ. ينظر: أسد الغابة 1/ 118، تهذيب الكمال 3/ 286، الأعلام 1/ 332
(3)
رواه البخاري 6/ 24 رقم 4503، في التفسير، باب {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} ، ومسلم 2/ 794 رقم 1127، في الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، واللفظ له.
(4)
ينظر: إكمال المعلم 4/ 81، الإفصاح عن معاني الصحاح 2/ 18، زاد المعاد 2/ 71.
(5)
سبق تخريجه صفحة (153).
(6)
ينظر: المجموع 6/ 384.
الدليل الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنه، أنه قال: قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسئلوا عن ذلك؟ فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى، وبني إسرائيل على فرعون، فنحن نصومه تعظيما له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«نحن أولى بموسى منكم، فأَمَر بصومه» (1).
وجه الاستدلال: في الحديث دليل على أن المسلمين كانوا يصومون يوم عاشوراء للشكر؛ وما كان صيامه للشكر يكون اختيارا لا فرضا (2).
قال ابن بطال: "وذلك أنه أخبر بالعلة التي من أجلها صامه النبي عليه السلام ، وأنه إنما صامه شكرا لله في إظهاره موسى على فرعون؛ فدل ذلك على الاختيار لا على الفرض"(3).
الترجيح: بعد عرض الأدلة ووجوه الاستدلال منها، الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الأول: أن صيام يوم عاشوراء كان واجبا ثم نسخ وجوبه وصار سنة مؤكدة بعد فرض صيام رمضان؛ لقوة أدلتهم، وحديث عائشة رضي الله عنها واضح الدلالة في أن عاشوراء كان فرضا قبل فرض صيام رمضان ثم خُيِّر في صيامه بعد ذلك.
وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما استدلالهم بقول معاوية رضي الله عنه: «لم يكتب عليكم صيامه» ؛ وأنه يدل على أنه لم يكن واجبا قط لأن (لم) لنفي الماضي، فيجاب عنه:
أن المراد من قوله: «ولم يكتب عليكم صيامه» أي: صيام ذلك اليوم في ذلك العام، وليس في هذا نفي أن يكون قد كان كتب ذلك عليهم فيما تقدم ذلك العام من الأعوام ثم نسخ بعد ذلك، على ما تقدم من الأحاديث (4).
والظاهر أن معاوية رضي الله عنه إنما قال هذا الكلام لأنه سمع من يوجب صيام يوم عاشوراء، أو يحرمه، أو يكرهه؛ فأراد إعلامهم بحكم صيامه، وأنه ليس بواجب، ولا محرم، ولا مكروه (5).
(1) رواه البخاري 3/ 44 رقم 2004، في الصوم، باب صيام يوم عاشوراء، ومسلم 2/ 795 رقم 1130، في الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، واللفظ له.
(2)
ينظر: شرح مشكل الآثار 6/ 44، ونخب الأفكار 8/ 410.
(3)
شرح البخاري 4/ 141.
(4)
ينظر: المغني 3/ 178، وكشاف القناع 2/ 339.
(5)
ينظر: شرح النووي على مسلم 8/ 8، والكواكب الدراري 9/ 150، وإكمال المعلم 4/ 81.
فيكون المعنى: لم يفرض الله عليكم صيام عاشوراء بعد فرض رمضان (1).
ولم يكن القصد من كلامه رضي الله عنه والله أعلم- الحديث عن كونه كان فرضا في أول الإسلام أو لم يكن، فيجمع بهذا بين قوله هذا، وبين الأدلة الصريحة التي دلت على وجوبه قبل فرض رمضان.
ثانيا: وأما استدلالهم بحديث ابن عباس رضي الله عنه وأن المسلمين كانوا يصومون يوم عاشوراء للشكر لا لفرض. فيجاب عنه من وجهين:
الوجه الأول: "يحتمل أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب صيامه بعد أن لم يكن واجبا"(2).
الوجه الثاني -وهو الأولى-: أن يتأول قوله صلى الله عليه وسلم: «فصوموه» على أنه أراد: فصوموه واجبا كما كنتم تصومونه (3).
وليس في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ الأمر بصيامه بقول اليهود، حتى يقال إنه صلى الله عليه وسلم صامه شكرا فيكون مستحبا، بل في حديث عائشة رضي الله عنها السابق التصريح بأنه كان يصومه قبل ذلك، فغاية ما في القصة أنه لم يحدث له بقول اليهود تجديد حكم (4).
ولا مخالفة بينه وبين حديث عائشة رضي الله عنها: أن أهل الجاهلية كانوا يصومونه كما تقدم؛ إذ لا مانع من تَوارُد الفريقين على صيامه مع اختلاف السبب في ذلك (5).
وقال ابن القيم -رادا على من أنكر وجوب صيام عاشوراء في أول الإسلام قبل فرض صيام رمضان-: "ويلزم من قال: إن صومه لم يكن واجبا، أحد الأمرين: إما أن يقول بترك استحبابه، فلم يبق مستحبا، أو يقول: هذا قاله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه برأيه وخفي عليه استحباب صومه، وهذا بعيد؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم حثهم على صيامه، وأخبر أن صومه يكفر السنة الماضية، واستمر الصحابة على صيامه إلى حين وفاته، ولم يُروَ عنه حرف واحد بالنهي عنه وكراهة صومه، فعُلِم أن الذي تُرِك وجوبه لا استحبابه"(6). والله أعلم.
(1) ينظر: إرشاد الساري 3/ 422.
(2)
ينظر: البيان والتحصيل 17/ 324، وشرح مشكل الآثار 6/ 44.
(3)
ينظر: البيان والتحصيل 17/ 325.
(4)
ينظر: فتح الباري 4/ 248.
(5)
ينظر: نيل الأوطار 4/ 288 - 289.
(6)
زاد المعاد 2/ 68.