الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية: حكم نية صوم النفل من النهار
.
اختيار الشيخ: اختار جواز نية النفل من النهار، فقال:"وفيه دليل على جواز نية النفل في النهار"(1).
وقال مرجحا لهذا القول: "وهذا هو القول الراجح عندنا"(2).
اختلف أهل العلم في جواز عقد نية صيام النفل من النهار على قولين:
القول الأول: يجوز صوم التطوع بنية من النهار ولا يشترط تبييت النية.
وبه قال: الحنفية (3) ، والشافعية في المذهب (4) ، والحنابلة (5)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: يشترط في صيام التطوع تبييت النية من الليل، ولا يصح بنية من النهار.
وبه قال: المالكية (6)، والمُزني (7) من الشافعية (8) ، والظاهرية (9).
سبب الخلاف:
قال ابن رشد: "والسبب في اختلافهم: تعارض الآثار في ذلك"(10).
أدلة القول الأول: القائلين أنه يجوز صوم التطوع بنية من النهار ولا يشترط تبييت النية.
(1) مرعاة المفاتيح 7/ 103. يقصد حديث عائشة الآتي.
(2)
المصدر السابق 6/ 466.
(3)
بدائع الصنائع 2/ 85، الاختيار 1/ 127، تبيين الحقائق 1/ 314، مراقي الفلاح 1/ 238.
(4)
الحاوي 3/ 404، حلية العلماء 3/ 159، البيان 3/ 495، منهاج الطالبين ص 74.
(5)
الكافي 1/ 439، الفروع 4/ 457، شرح الزركشي 2/ 567، المبدع 3/ 20.
(6)
الكافي 1/ 335، المنتقى 2/ 41، مواهب الجليل 2/ 418 - 419، الشرح الكبير للدردير 1/ 520.
(7)
هو: إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المُزَني؛ أبو إبراهيم من أهل مصر، وأصله من مزينة، صاحب الإمام الشافعي، كان زاهدا عالما مجتهدا قوي الحجة، قال الشافعي:"المزني ناصر مذهبي"، من كتبه: الجامع الكبير؛ والجامع الصغير؛ والترغيب في العلم، توفي سنة 264 هـ. ينظر: طبقات الشافعية الكبرى 2/ 93؛ طبقات الشافعيين ص 122، سير أعلام النبلاء 12/ 492.
(8)
البيان 3/ 495، المجموع 6/ 292، روضة الطالبين 2/ 352.
(9)
المحلى 4/ 296.
(10)
بداية المجتهد 2/ 56.
الدليل الأول: عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل علي قال: «هل عندكم طعام؟ » ، فإذا قلنا: لا، قال:«إني صائم» . فدخل علينا يوما آخر، فقلنا: يا رسول الله، أهدي لنا حيس؛ فحبسناه لك، فقال:«أدنيه» ، فأصبح صائما وأفطر (1).
وفي رواية: دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: «هل عندكم شيء؟ » ، فقلنا: لا. قال: «فإني إذا صائم» . ثم أتانا يوما آخر فقلنا: يا رسول الله، أهدي لنا حيس، فقال:«أرينيه، فلقد أصبحت صائما» فأكل (2).
وفي رواية: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيني فيقول: «أعندك غداء (3)؟ » ، فأقول: لا، فيقول:«إني صائم» . قالت: فأتاني يوما فقلت: يا رسول الله، إنه قد أهديت لنا هدية، قال:«وما هي؟ » . قالت: قلت: حيس، قال:«أما إني قد أصبحت صائما» . ثم أكل (4).
وجه الاستدلال: إن دلالته على جواز إنشاء صوم التطوع من النهار ظاهرة وذلك من وجوه (5):
الأول: لم يكن طلب النبي صلى الله عليه وسلم للطعام عبثا، وإنما كان طلبه ليأكل، فلما لم يجده نوى الصوم (6).
الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «فإني صائم» ، وهذه الفاء تفيد السبب والعلة، فيصير المعنى: إني صائم؛ لأنه لا شيء عندكم، ومعلوم أنه لو كان قد أجمع الصوم من الليل لم يكن صومه لهذه العلة (7).
الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: «فإني إذا صائم» و «إذا» أصرح في التعليل من الفاء، وهي لابتداء النية، لا لما مضى وتقدم (8).
(1) سبق تخريجه صفحة (166).
(2)
أخرجه مسلم 2/ 808 رقم 1154، كتاب الصيام، باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال.
(3)
الغَداء: الطعام الذي يؤكل أول النهار أو طعام الغدوة، أو أكلة الظهيرة، وهو خلاف العشاء. ينظر: النهاية 3/ 346، لسان العرب 15/ 118، المعجم الوسيط 2/ 670 مادة: غدا.
(4)
أخرجه الترمذي 3/ 102 رقم 734، أبواب الصوم، باب صيام المتطوع بغير تبييت، وقال:"هذا حديث حسن". وقال الألباني في صحيح الترمذي 1/ 224: "حسن صحيح".
(5)
ينظر: عون المعبود 7/ 91، معالم السنن 2/ 134، شرح المشكاة للطيبي 5/ 1618.
(6)
ينظر: المسالك لابن العربي 4/ 170.
(7)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 186.
(8)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 186، الحاوي الكبير 3/ 406، والتوضيح لابن الملقن 13/ 154.
الرابع: ولأن الظاهر من حال من أجمع الصيام من الليل أنه لا يجيء سائلا عن الغداء، وإنما يسأل عن الغداء أحد شخصين: المفطر، أو المتلوم (1)(2).
الدليل الثاني: عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا ينادي في الناس يوم عاشوراء: «أن من أكل فليتم أو فليصم، ومن لم يأكل فلا يأكل» (3).
وفي رواية: «من كان لم يصم فليصم، ومن كان أكل فليتم صيامه إلى الليل» (4).
وجه الاستدلال: إن قيل: إن صيام يوم عاشوراء كان نفلا فهو نص؛ فقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بصومه من النهار (5).
وإن قيل: إن صيامه كان فرضا، فجواز الفرض بنية من النهار يدل على جواز النفل بطريق الأَولى (6).
الدليل الثالث: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ربما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدائه فلا يجده، فيفرض عليه الصوم ذلك اليوم» (7).
الدليل الرابع: أن أبا طلحة (8) رضي الله عنه: «كان يأتي أهله في الضحى، فيقول: هل عندكم من غداء؟ فإن قالوا: لا، صام ذلك اليوم وقال: إني صائم» (9).
(1) المُتَلَوِّم: المنتظر لقضاء حاجته. ينظر: النهاية 4/ 278، المعجم الوسيط 2/ 847، الفائق للزمخشري 4/ 59، تاج العروس 33/ 455.
(2)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 186.
(3)
سبق تخريجه صفحة (113).
(4)
سبق تخريجه صفحة: (113).
(5)
ينظر: الحاوي 3/ 405، المغني 3/ 114، المبسوط 3/ 85.
(6)
ينظر: المبسوط 3/ 85.
(7)
سبق تخريجه صفحة (151).
(8)
هو: زيد بن سهل بن الأسود بن حزام النجاري الأنصاري، صحابي من الشجعان الرماة المعدودين في الجاهلية والإسلام، شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق وسائر المشاهد، روى عنه: ربيبه أنس بن مالك، وعبد الله بن عباس، وابنه عبد الله، وغيرهم، وتوفي في المدينة سنة 34 هـ. ينظر: أسد الغابة 2/ 361، والاستيعاب /553، الإصابة 2/ 502.
(9)
أخرجه البخاري تعليقا 3/ 29، كتاب الصوم، باب إذا نوى بالنهار صوما، ووصله: عبد الرزاق في المصنف 4/ 273 رقم 7777، كتاب الصيام، باب إفطار التطوع وصومه إذا لم يبيته، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 342 رقم 7917، باب المتطوع يدخل في الصوم بنية النهار قبل الزوال.
وفي رواية: «أن أبا طلحة رضي الله عنه كان يأتي أهله فيقول: هل عندكم من غداء؟ فإن قالوا: لا، قال: فإني صائم، وإن كان عندهم أفطر» (1).
الدليل الخامس: عن أم الدرداء (2)«أن أبا الدرداء (3) رضي الله عنه كان يجيء بعد ما يصبح فيقول: أعندكم غداء؟ ، فإن لم يجده، قال: فأنا إذا صائم» (4).
الدليل السادس: قياس صيام النفل على صلاة النفل؛ وذلك: أن الصوم عبادة يتنوع جنسها فرضا ونفلا، ويخرج منها بالفساد، فوجب أن يخالف فرضها نفلها في شيء من أحكامها وشرائطها؛ كالصلاة يخالف فرضها نفلها في ترك التوجه إلى القبلة، والقيام مع القدرة، وجوازها على الراحلة في السفر (5).
أدلة القول الثاني: يشترط في صيام التطوع تبييت النية من الليل، ولا يصح بنية من النهار.
الدليل الأول: عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يُجمِع الصيام قبل الفجر، لا صيام له» (6).
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 291 رقم 9107، كتاب الصيام، باب من كان يدعو بغدائه فلا يجد فيفرض الصوم، وقال الألباني في مختصر صحيح البخاري 1/ 556:"أما أثر أبي طلحة فوصله عبدالرزاق وابن أبي شيبة من طريقين عن أنس، فهو صحيح".
(2)
هي: هُجَيْمَة بنت حيي الوصابية الحميرية; أم الدرداء الصغرى، تابعية جليلة، فقيهة ومحدثة من رواة الحديث، وهي زوجة الصحابي الجليل أبو الدرداء الأنصاري الثانية، روت علما جما عن: زوجها أبي الدرداء، وعائشة بنت أبي بكر، وأبي هريرة، وطائفة، توفيت سنة 81 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 4/ 277، تهذيب الكمال 35/ 352، الأعلام 8/ 77.
(3)
هو: عُوَيْمِر ابن قيس بن أمية، أبو الدرداء الأنصاري، من بني الخزرج، صحابي اشتهر بالشجاعة والنسك، ولاه معاوية قضاء دمشق بأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو أول قاض بها، وهو أحد الذين جمعوا القرآن حفظا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، مات بالشام سنة 32 هـ، له في كتب الحديث 179 حديثا. ينظر: الاستيعاب 3/ 1227، والإصابة 4/ 621، وأسد الغابة 6/ 94.
(4)
أخرجه البخاري تعليقا 3/ 29، كتاب الصوم، باب إذا نوى بالنهار صوما، ووصله: ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 291 رقم 9106، كتاب الصيام، باب من كان يدعو بغدائه فلا يجد فيفرض الصوم، وعبد الرزاق في المصنف 4/ 272 رقم 7774، باب إفطار التطوع وصومه إذا لم يبيته، وقال الألباني في مختصر صحيح البخاري 1/ 556:"وصله ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، فهو صحيح".
(5)
ينظر: الحاوي الكبير 3/ 406، المغني 3/ 114.
(6)
سبق تخريجه صفحة (161).
وجه الاستدلال: في الحديث دليل على عدم إجزاء صيام التطوع إلا بنية من الليل؛ لأن النص ورد بأن لا صوم لمن لم يُبَيِّته من الليل، ولم يخص من ذلك شيئا، فيبقى النص على عمومه (1).
الدليل الثاني: لأنه صوم شرعي، فوجبت له النية من الليل؛ كصيام الفرض (2).
الدليل الثالث: ولأنها عبادة من شرط صحتها النية، فوجب أن يستوي نفلها وفرضها في وقت النية؛ كالصلاة والحج (3).
الدليل الرابع: ولأنها عبادة تتنوع فرضا ونفلا، فوجب أن يكون محل النية في نفلها كمحل النية في فرضها؛ أصله الصلاة (4).
الدليل الخامس: ولأن النهار لو كان زمانا لنية الفعل، لصَحَّتْ فيه نية الفرض كالليل (5).
الدليل السادس: ولأن النية أحد ركني الصيام، فاختصت بأحد جنسَي الزمان وهو الليل، كما اختص الإمساك بالجنس الثاني وهو النهار (6).
الترجيح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الأول: أنه يجوز صوم التطوع بنية من النهار، ولا يشترط تبييت النية؛ وذلك لصحة أدلتهم، وحديث عائشة رضي الله عنها في عقده صلى الله عليه وسلم نية الصيام من النهار نص في محل النزاع.
وأما استدلال أصحاب القول الثاني: بحديث حفصة رضي الله عنها في اشتراط تبييت النية -وهو أقوى ما استدلوا به- فيجاب عنه:
أن عموم حديث حفصة رضي الله عنها مخصوص بحديث عائشة رضي الله عنها السالف الذكر؛ وتوضيح ذلك: أن حديث حفصة رضي الله عنها واضح الدلالة على وجوب تبييت النية قبل الفجر، أي: في الليل، وقد جاء اللفظ عاما في الصيام، فيُعمَل به على عمومه.
(1) ينظر: المحلى 4/ 296، الاستذكار 3/ 286، المعلم 2/ 58، إكمال المعلم 4/ 88.
(2)
ينظر: شرح الرسالة للقاضي عبد الوهاب 1/ 153، المعونة 1/ 465، المنتقى للباجي 2/ 41.
(3)
ينظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 424، وشرح الرسالة له 1/ 154.
(4)
ينظر: الحاوي الكبير 3/ 405.
(5)
ينظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 424.
(6)
المصدر السابق.، وشرح الرسالة له 1/ 153.
ولكن جاء حديث عائشة رضي الله عنها ، وفيه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نوى الصيام من النهار عندما لم يجد طعاما عندها، فدل ذلك على جواز عقد النية في النهار لصوم التطوع؛ لأن الحديث دل على أن الصيام كان صيام تطوع، فكان حديث عائشة رضي الله عنها صالحا لصرف حديث حفصة رضي الله عنها إلى صيام الفريضة (1). والله أعلم.
(1) ينظر: الحاوي الكبير 3/ 406، المجموع 6/ 303، المغني 3/ 114.