الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: حكم (الاعتكاف)
(1).
اختيار الشيخ: اختار أن الاعتكاف سنة، ويكون سنة مؤكدة في العشر الأواخر من رمضان، فقال:"وفي الحديث دليل على أن الاعتكاف لم ينسخ، وأنه من السنن المؤكدة في العشر الأواخر من رمضان"(2).
وقال في موطن آخر: "وفيه دليل على أن الاعتكاف لا يختص بالعشر الأخير وإن كان هو فيه أفضل"(3).
تحرير محل الخلاف: أجمع أهل العلم أن الاعتكاف لا يجب على المكلف إلا إذا أوجبه على نفسه بالنذر (4).
واختلفوا في من أراد أن يتطوع باعتكاف العشر الأواخر من رمضان أو غيرها على قولين:
القول الأول: يسن الاعتكاف، وهو آكد في العشر الأواخر من رمضان.
وبه قال: الحنفية (5) ، والمالكية في المذهب (6) ، والشافعية (7) ، والحنابلة (8)، والظاهرية (9)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: يُكره الدخول في الاعتكاف مخافة أن لا يوفي شرطه.
(1) الاعتكاف والعُكوف: في اللغة: الإقامة على الشيء بالمكان ولزومهما، والاحتباس عليه. ينظر: النهاية 3/ 284، لسان العرب 9/ 255 (مادة: عكف). وأما الاعتكاف: في الشرع: فهو عند الحنفية: اللبث في المسجد مع الصوم ونية الاعتكاف ينظر: مختصر القدوري ص 65. وعند المالكية: هو الاحتباس في المساجد للعبادة على وجه مخصوص. ينظر: الذخيرة 2/ 534. وعند الشافعية: ملازمة الْمَسْجِد واللبث فِيهِ. ينظر: تحرير ألفاظ التنبيه ص 130. وعند الحنابلة: هو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى فيه. ينظر: المطلع على ألفاظ المقنع ص 194.
(2)
مرعاة المفاتيح 7/ 143. يعني حديث عائشة الذي سيأتي في الأدلة صفحة 620.
(3)
المصدر السابق 7/ 149.
(4)
الإجماع لابن المنذر ص 50، والإقناع له 1/ 243، والأشراف له 3/ 158، وبداية المجتهد 2/ 76.
(5)
المبسوط 3/ 114، بدائع الصنائع 2/ 108، كنز الدقائق ص 225، فتح القدير 2/ 389.
(6)
التلقين 1/ 76، الكافي 1/ 352، مواهب الجليل 2/ 454، منح الجليل 2/ 163. وعندهم: هو نافلة لا سنة مؤكدة، واختار ابن عبد البر أنه سنة في العشر الأواخر، جائز فيما سوى ذلك.
(7)
المهذب 1/ 349، العزيز 3/ 249، روضة الطالبين 2/ 389، كفاية النبيه 6/ 422.
(8)
الكافي 1/ 454، شرح العمدة كتاب الصيام 2/ 709، المغني 3/ 186، العدة ص 173.
(9)
المحلى 3/ 412.
ونقل ذلك عن: الإمام مالك (1).
سبب الخلاف: اختلافهم في اعتكافه صلى الله عليه وسلم: هل يدُلّ على أنه سنة مستحبة لمن بعده، أو يَدلّ على مطلق الجواز؟ .
أدلة القول الأول: القائلين بأنه يسن الاعتكاف، وهو آكد في العشر الأواخر من رمضان.
الدليل الأول: قوله سبحانه وتعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (2). وقوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (3).
وجه الاستدلال: أن إضافة الاعتكاف إلى المساجد التي هي الأماكن المختصة بالقُرَب، وترك ما يباح للمرء مِن الجِماع من أجل القيام به؛ دليل على أن هذا الفعل قُرْبة مستحبة (4).
الدليل الثاني: عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده» (5).
وجه الاستدلال: في هذا الحديث دليل على أن الاعتكاف سنة، ويتأكد في العشر الأواخر من رمضان؛ لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وأزواجه من بعده (6).
الدليل الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قُبِضَ فيه اعتكف عشرين يوما» (7).
وجه الاستدلال: في الحديث دليل على أن الاعتكاف في رمضان من السنن المؤكدة؛ لأنه مما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد أُكِّد فعله صلى الله عليه وسلم بلفظة (كان) التي تفيد الاستمرار. فينبغي للمؤمنين الاقتداء بسنة نبيهم في ذلك، وقد قال ابن شهاب الزهري: «عجبا للمسلمين تركوا
(1) النوادر والزيادات 2/ 89 ، بداية المجتهد 2/ 76، الذخيرة 2/ 542، مواهب الجليل 2/ 454.
(2)
سورة البقرة: آية: 125.
(3)
سورة البقرة: آية: 187.
(4)
ينظر: المبسوط للسرخسي 3/ 114، وشرح العمدة كتاب الصيام 2/ 709، مراقي الفلاح ص 268.
(5)
رواه البخاري 3/ 47 رقم 2026، كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف في العشر الأواخر، ومسلم 2/ 831 رقم 1172، كتاب الاعتكاف، باب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان.
(6)
ينظر: سبل السلام 1/ 593، إحكام الأحكام 2/ 41، الاستذكار 3/ 405، نيل الأوطار 4/ 313.
(7)
رواه البخاري 3/ 51 رقم 2044، كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف في العشر الأوسط من رمضان.
الاعتكاف، وإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتركه منذ دخل المدينة كل عام في العشر الأواخر حتى قبضه الله» (1).
الدليل الرابع: عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المعتكف:«هو يُكَفِّر الذنوب، ويُجرى له من الحسنات كعامل الحسنات كلها» (2).
وجه الاستدلال: في الحديث أن للمعتكف -الذي يفرغ نفسه للاعتكاف، ويبتعد عن الذنوب- من الأجر كعامل الحسنات كلها، وهذا أجر عظيم وفضل جسيم، يدل على فضل الاعتكاف (3).
قال ابن تيمية: "وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن المعتكِف قد حَبَس الذنوب ووقفها، وامتنع منها؛ فلا تَخْلُص إليه، وقد تهيأ لجميع العبادات"(4).
الدليل الخامس: ولأن في الاعتكاف من القُرَب، والمُكْث في بيت الله، وحبس النفس على عبادة الله، وإخلاء القلب من الشواغل عن ذكر الله، والتَخَلّي لأنواع العبادات المحضة من: التفكر، وذكر الله، وقراءة القرآن، والصلاة، والدعاء، والتوبة، والاستغفار، إلى غير ذلك من أنواع القُرَب (5).
قال عطاء: «إن مَثَل المعتكف مَثَل المجرم ألقى نفسه بين يدي الرحمن، فقال: والله لا أبرح حتى ترحمني» (6).
والمعتكف يجلس في بيت الله تعالى، ويقول: لا أبرح حتى يغفر لي فهو أشرف الأعمال إذا كان عن إخلاص (7).
(1) ينظر: شرح البخاري لابن بطال 4/ 181، التوضيح لابن الملقن 13/ 668، وفتح الباري 4/ 285، وعمدة القاري 11/ 157.
(2)
رواه ابن ماجة 1/ 567 رقم 1781، في الصيام باب في ثواب الاعتكاف، والبيهقي في الشعب 5/ 434 رقم 3678، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير 5940.
(3)
ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير 10/ 486.
(4)
شرح العمدة كتاب الصيام 2/ 712.
(5)
شرح العمدة كتاب الصيام 2/ 711، والإحكام شرح أصول الأحكام 2/ 306.
(6)
رواه البيهقي في شعب الإيمان 5/ 437 رقم 3684، باب الاعتكاف.
(7)
ينظر: المبسوط للسرخسي 3/ 115، ومراقي الفلاح ص:269.
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه يكره الدخول في الاعتكاف مخافة أن لا يوفي شرطه.
الدليل الأول: ترك السلف الاعتكاف دليل على أنه ليس من القرب المرغب فيها.
قال الإمام مالك: "ولم يبلغني أن أحدا من السلف اعتكف إلا أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام (1)، وليس بحرام، ولا أراهم تركوه إلا لشدته عليهم؛ لأن ليله ونهاره سواء"(2).
الدليل الثاني: أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ، أي: كونه قربة، أما في حق غيره فمكروه مثل الوصال.
قال الإمام مالك: "ما زلت أفكر في ترك الصحابة الاعتكاف، وقد اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله سبحانه، وهم أتبع الناس لأموره وآثاره، حتى أخذ بنفسي أنه كالوصال الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: إنك تواصل، فقال: «إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني» (3). وليس الاعتكاف بحرام"(4).
الدليل الثالث: أن الإمام مالك منع الاعتكاف لأنه يرى أن قراءة العلم وتعليمه قربة لا تعدلها قربة، والمعتكف عنده ممنوع من قراءة العلم وتعليمه (5).
قال ابن عبد البر: "قال مالك لا يشتمل المعتكف في مجالس أهل العلم ولا يكتب العلم"(6)؛ لأنه من أسباب الدنيا، ولا يجوز له عند الإمام مالك أن يعمل من الدنيا إلا ضرورة الآدمية، وهي: الطعام، والشراب، ومآله. وقصر الاعتكاف على الذكر المجرد: كالصلاة، وقراءة القرآن، وذكر الله تعالى (7).
(1) هو: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، القرشي المخزومي المدني، كان أحد الفقهاء السبعة، وكان ثقة فقيها عالما شيخا كثير الحديث، روى عن: أبيه، وأبي هريرة، وعائشة، وغيرهم رضي الله عنهم. وعنه: أولاده، والقاسم بن محمد بن عبد الرحمن، والزهري، وغيرهم، توفي سنة 94 هـ وقيل غير ذلك. ينظر: الطبقات 5/ 207، سير أعلام النبلاء 4/ 416، تهذيب التهذيب 12/ 30.
(2)
التهذيب في اختصار المدونة 1/ 389، جامع الأمهات ص: 180، الذخيرة 2/ 541.
(3)
سبق تخريجه صفحة (308).
(4)
النوادر والزيادات 2/ 89، التوضيح لخليل 2/ 462، الدر الثمين ص:490.
(5)
ينظر: التلقين 1/ 76.
(6)
الاستذكار 3/ 392.
(7)
ينظر: المسالك 4/ 255، القبس 1/ 531 - 532.
قال ابن العربي: "ومَنَعَه مالك (يعني الاعتكاف) تَفَطُّنا لهذه الدقيقة من قراءة العلم؛ لأنه من أسباب الدنيا، وقَصَرَه على الذكر المجرد"(1).
الترجيح: الذي يترجح في هذه المسألة -والله أعلم- هو القول الأول: أن الاعتكاف سُنَّة، وهو آكد في العشر الأواخر من رمضان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواظب على الاعتكاف كما مر معنا في الأدلة، وما واظب عليه صلى الله عليه وسلم فهو سنة ولا شك، واعتكاف أزواجه رضي الله عنهن من بعده دليل على أنه من السنن المؤكدة.
وأما ما استُدلّ به لأصحاب القول الثاني فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما قول الإمام مالك: "ولم يبلغني أن أحدا من السلف اعتكف إلا أبا بكر بن عبد الرحمن"، فالظاهر أن الإمام مالك يقصد اعتكافا معينا بصفات وشروط معينة، لا نفي مُطلق الاعتكاف.
قال الحافظ ابن حجر: "وكأنه أراد صفة مخصوصة، وإلا فقد حكيناه عن غير واحد من الصحابة"(2).
والذي يظهر أن ما فهمه الحافظ هو مقصود الإمام مالك؛ لأنه كان يرى أن للاعتكاف شروطا لا يستطيعها كل أحد، من وجوب قضائه إذا قطعه وإن كان نفلا، وترك المعتكف طلب العلم وإقرائه، وشهود الجنائز، وعيادة المرضى، وغير ذلك مما سيأتي معنا إن شاء الله في المسائل التالية (3).
قال ابن العربي: "والاعتكاف شرط شديد، لا يَقدِر عليه إلا من له عزم من الناس"(4).
وعليه فإن الإمام مالك لا يرى الاعتكاف لمن رأى من نفسه عدم القدرة على الإتيان بشروطه، لا أنه كرهه مطلقا، بل جاء عنه ما يدُلّ على أنه يرى أن الاعتكاف قربة مستحبة.
(1) القبس 1/ 532.
(2)
فتح الباري 4/ 272. ينظر: آثار السلف الذين اعتكفوا في مصنف ابن أبي شيبة عن عائشة برقم 9633، عبد الله ابن عمر برقم 9653، سعيد بن جبير برقم 9634، يعلى بن أمية برقم 9652، أبو قلابة برقم 9660، أبو الأحوص برقم 9667.
(3)
ينظر: ص: 638 - 42، وص: 657 - 60.
(4)
المسالك 4/ 263.
قال ابن القاسم -في من منزله على أميال من الفسطاط-: أَيَعْتَكِفُ في مسجد قريته، وهو لا يُجمَع فيه وهو يأتي الفسطاط لصلاة الجمعة؟ . قال الإمام مالك:"اعتِكافُه في قريته أَحَبُّ إلي من صلاة الجمعة بالفسطاط"(1).
فيكون أصل الاعتكاف عند الإمام مالك قُربَة مستحبة، إلا أنه -لشدة ورعه- لا يرى للإنسان أن يدخل في قُربة من القُرب ثم يخل بها، وهذا ما رآه.
ثانيا: وأما قياس الاعتكاف على الوصال، فيجاب عنه:
أنه بعيد جدا؛ لأن النصوص جاءت صريحة في نهي الصحابة عن الوصال، وكونه قربة مستحبة في حقه، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم» فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله، قال:«وأيكم مثلي، إني أبيت يطعمني ربي ويسقين» (2). وغيرها من النصوص التي مرت في مسألة الوصال.
أما في الاعتكاف فقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم صحابته فيه كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه، حيث قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر الأول من رمضان واعتكفنا معه، فأتاه جبريل، فقال: إن الذي تطلب أمامك، فاعتكف العشر الأوسط، فاعتكفنا معه، فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلب أمامك، فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا صبيحة عشرين من رمضان فقال:«مَن كان اعتكف مع النبي صلى الله عليه وسلم، فليرجع، فإني أُريت ليلة القدر، وإني نسيتها، وإنها في العشر الأواخر، في وتر» (3).
وفي رواية: «فمن كان اعتكف معي فليثبت في معتكفه» (4).
ثالثا: وأما مَنعُ الإمام مالك الاعتكاف من أجل أن المُعتكِف سيترك -بسبب اعتكافه- قراءة العلم وإقرائه؛ لأنه من أسباب الدنيا، فيجاب عنه:
أن الصحيح أن المُعتكِف لا يترك قراءة العلم ولا إقرائه.
(1) النوادر والزيادات 2/ 101، التوضيح لخليل 2/ 462.
(2)
سبق تخريجه صفحة (309).
(3)
رواه البخاري 1/ 162 رقم 813، كتاب الأذان، باب السجود على الأنف والسجود على الطين.
(4)
رواه البخاري 3/ 46 رقم 2018، كتاب فضل ليلة القدر، باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، ومسلم 2/ 825 رقم 1167، في الصيام باب فضل ليلة القدر.
قال ابن العربي: "وقال غيره (1) من العلماء: يقرأ العلم إذا أخلصت له النية لله تعالى، وبه أقول"(2).
والله أعلم.
(1) أي غير الإمام مالك.
(2)
القبس 1/ 532.