الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: دراسة الصيغ المعتبرة (في الاختيار) عند الشيخ المباركفوري
.
يمكن تقسيم الصيغ التي اختار بها الشيخ المباركفوري قولا من الأقوال في المسائل الفقهية إلى اعتبارين:
الاعتبار الأول: تقسيمها باعتبار الوضوح في الاختيار.
الاعتبار الثاني: تقسيمها باعتبار قوة القول المختار، وتضعيف الأقوال الأخرى.
فبالاعتبار الأول: تنقسم الصيغ المعتبرة في الاختيار لدى الشيخ المباركفوري باعتبار الوضوح في الاختيار إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن تكون الصيغة نصا في الاختيار، ومعظم اختياراته كذلك، وذلك أن يأتي الشيخ بصيغة هي نص صريح في الاختيار لا مجال للاحتمال فيها.
مثل قوله: هو الحق، كما اختار الشيخ أن الصيام لا يشترط لصحة الاعتكاف، فقال:"فعدم اشتراط الصوم هو الحق"(1).
ومثل قوله: القول الراجح المعول عليه، عندما اختار أن السواك يجوز مطلقا للصائم قبل الزوال وبعده رطبا كان أو يابسا في الفرض وفي النفل، فقال:"أن القول الراجح المعول عليه هو ما ذهب إليه أبو حنيفة ومن وافقه"(2).
ومثل قوله: والقول الراجح عندي في مسألة الوصال إلى السحر، حيث رجح جواز ذلك بلا كراهة، ولكن تركه أفضل، فقال:"والقول الراجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد"(3).
ومثل قوله: وهو الراجح، عندما اختار القول بأن الكذب والغيبة والنميمة لا تفسد الصوم، فقال:"والراجح الأول"(4).
(1) مرعاة المفاتيح 7/ 154
(2)
مرعاة المفاتيح 6/ 520 - 521.
(3)
مرعاة المفاتيح 6/ 459.
(4)
مرعاة المفاتيح 6/ 479
ومثل قوله: أعدل الأقوال وأقواها، وذلك في ترجيحه لقول من فرق بين من يملك نفسه ومن لا يملك نفسه في مسألة القبلة والمباشرة للصائم، حيث قال:"إن أعدل الأقوال وأقواها هو ما ذهب إليه الشافعي ومن وافقه"(1).
ومثل قوله: أولى الأقوال عندي، في مسألة المرضع والحامل إذا أفطرتا خوفا على ولدهما، حيث رجح إفرادهما بالقضاء دون الإطعام، حيث قال:"أولى الأقوال عندي في ذلك هو قول من أفردهما بالقضاء دون الإطعام"(2).
ومثل قوله: الظاهر عندنا، حيث إختار بهذه الصيغة عدم جواز اشتراط المعتكف الخروج لبعض الطاعات أو المباحات مما ينافي الاعتكاف، فقال:"الظاهر عندنا هو قول من لم يقل بالاشتراط في الاعتكاف"(3).
ومثل قوله: الراجح عندنا، وذلك في مسائل منها مسألة انقطاع اعتكاف من خرج لعيادة مريض أو صلاة جنازة حيث اختار أن الخروج إليهما يقطع الاعتكاف، فقال:"والراجح عندنا: إنه لا يجوز الخروج لعيادة المريض وصلاة الجنازة"(4).
ومثل قوله: الحديث حجة عليه، وذلك في مسألة اشتراط التتابع في صيام كفارة الجماع، حيث اشترط الشيخ ذلك فقال -ردا على ابن أبي ليلى القائل بعدم اشتراط التتابع-:"والحديث حجة عليه"(5).
الثاني: الظاهر في الاختيار، وذلك أن يذكر الشيخ في المسألة قولين أو أكثر، فيذكر أدلة القول الذي يراه راجحا في المسألة مع إيراد أدلته، ثم يذكر أدلة الأقوال الأخرى يرد عليها ردا علميا، فيقول: وهو المردود، أو أن الحديث لا يصح، وغير ذلك، وهذا قليل في اختياراته.
(1) مرعاة المفاتيح 6/ 484
(2)
مرعاة المفاتيح 7/ 16
(3)
مرعاة المفاتيح 7/ 163
(4)
مرعاة المفاتيح 7/ 163
(5)
مرعاة المفاتيح 6/ 499
ومثال ذلك: مسألة الحد الواجب في الإطعام في كفارة الجماع، فإنه اختار القول بإجزاء إطعام ستين مسكينا لكل مسكين مُدّ من أي الأنواع، وذلك بالرد على الحنفية، حيث قال -بعد توجيه صاحب كتاب فتح المُلْهِم (1) لأدلة الحنفية-:"قلت: دعوى التعدد مخدوشة لكونها خلاف الظاهر والأصل. وأما رواية أبي داود في قصة المظاهر ففي إسنادها محمد بن إسحاق وقد عنعن"(2).
الثالث: الإيماء إلى الاختيار، وذلك أن لا ينص الشيخ في الاختيار ولا يرد على الأقوال الأخرى، بل يقوي ويرجح قولا في المسألة يلزم منه القول بالاختيار في مسألة أخرى، وهذا نادر جدا جدا كما في مسألة السترة بالخط، فإنه قال:"إن الأولى أن يكون الخط مقوسا مثل الهلال"(3) ، فيلزم من هذا القول بإجزاء السترة بالخط. والله أعلم.
وبالاعتبار الثاني: تقسيمها باعتبار قوة القول المختار، وتضعيف الأقوال الأخرى.
لا شك أن الاختيار له درجات من حيث القوة فأحيانا يقطع الشيخ المباركفوري بتصويب أحد الأقوال في المسألة بكل قوة وثقة، ويبطل الأقوال الأخرى، فيُضَعِّف الأقوال الأخرى تضعيفا شديدا، وأحيانا لا تتوفر له من الأدلة ما يجعله يبطل الأقوال الأخرى، ولا يكون في أدلة الأقوال الأخرى من الضعف ما يجعلها غير معتبرة أصلا، ولكن عند الموازنة بين أدلة تلك الأقوال تترجح كفة أحد الأقوال.
فنظرا لما سبق يمكن تقسيم الصيغ التي تم بها اختيار الشيخ المباركفوري من حيث قوة القول المختار، وتضعيف القول الآخر، إلى درجتين:
(1) كتاب: فتح الملهم شرح صحيح الإمام مسلم، للعلامة شبير أحمد العثماني الديوبندي ثم الباكستاني رحمه الله (1305 - 1369 هـ).
(2)
مرعاة المفاتيح 6/ 503.
(3)
ينظر: مرعاة المفاتيح 2/ 501.
الدرجة الأولى: درجة التصويب.
وهو أن يجعل المباركفوري القول المختار حقا وصوابا فتكون الأقوال الأخرى عنده باطلة أو خاطئة. وهذه الدرجة من الاختيار تدل على عمق علمه وسعة اطلاعه على المسألة من جميع جوانبها والإلمام بأدلة كل قول، ومعرفة درجة أدلتهم من حيث الصحة والضعف، وقوة دلالتها على المطلوب أو ضعفها. فيقرر صواب القول المختار، ومثل هذا القول إنما يصدر من فقيه تمكن وأحاط بجميع الجوانب في المسألة وقد سبقت الأمثلة من المسائل لهذه الصيغة قبل قليل، كقوله: هو الحق وغيرها.
الدرجة الثانية: درجة الموازنة والترجيح.
وهو أن تقوم مع الأقوال الأخرى أدلة شرعية معتبرة، ولا يكون فيها وهن شديد مما يجعلها غير صالحة للاستدلال، إلا أن القول المختار له أدلة قوية في مقابلة الأقوال الأخرى، فتكون كفة القول المختار راجحة على غيرها، وهذا إنما يتم بعد النظر في المسألة وأدلتها مما لها وما عليها، وهذا أيضا إنما يصدر من فرسان ميدان الفقه، وقد تقدم مثاله أيضا سابقا، كقوله: الظاهر عندنا، وقوله: أولى الأقوال عندي، وغيرها.