الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: هل لأقل الاعتكاف حدّ
؟ .
اختيار الشيخ: اختار أنه ليس لأقل الاعتكاف حد، فقال:"وفي الحديث (1) رد على من قال أقل الاعتكاف عشرة أيام أو أكثر من يوم"(2).
تحرير محل الخلاف: اتفق الفقهاء أن اللُبْث والمُكوث في المسجد هو ركن الاعتكاف (3).
واختلفوا في مقدار اللبث والمكوث المُجزئ في الاعتكاف على قولين:
القول الأول: ليس لأقل الاعتكاف زمان معين.
وبه قال: أبو حنيفة في رواية وهو المفتى به (4) ، والشافعية (5) ، والحنابلة في المذهب (6) ، والظاهرية (7)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: أقله يوم وليلة.
وبه قال: أبو حنيفة في رواية (8) ، والمالكية (9) ، والحنابلة في رواية (10).
سبب الخلاف: قال ابن رشد: "والسبب في اختلافهم: معارضة القياس للأثر:
(1) يعني حديث عمر الذي سيأتي صفحة (635).
(2)
مرعاة المفاتيح 7/ 154.
(3)
بدائع الصنائع 2/ 113، الذخيرة 2/ 534، الإنصاف 3/ 359
(4)
درر الحكام 1/ 213، مجمع الأنهر 1/ 256، فتح القدير 2/ 393. وأقله نفلا: مدة يسيرة ولو كان ماشيا على المفتى به. فتح باب العناية 1/ 595، مراقي الفلاح ص 266.
(5)
الوسيط 2/ 562، العزيز 3/ 252، المجموع 6/ 489، مغني المحتاج 2/ 191. والأصح عندهم: أنه يشترط في الاعتكاف لبث قدر يسمى عكوفا؛ لأن مادة لفظ الاعتكاف تقتضيه بأن يزيد على أقل طمأنينة الصلاة ولا يكفي قدرها، ويستحب عندهم اعتكاف يوم فأكثر للخروج من الخلاف.
(6)
الكافي 1/ 455، المغني 3/ 190، منتهى الإرادات 2/ 55، الإنصاف 3/ 359.
(7)
المحلى 3/ 411.
(8)
مجمع الأنهر 1/ 256، درر الحكام 1/ 213. وهذا الخلاف: عند الحنفية في اعتكاف النفل، أما الاعتكاف الواجب فأقله عندهم يوم قولا واحدا. فتح باب العناية 1/ 595، فتح القدير 2/ 392.
(9)
الرسالة ص 63، الكافي 1/ 352، جامع الأمهات ص 181، التلقين 1/ 76. قال ابن العربي:"وأدنى الاعتكاف يوم وليلة، وأعلاه عشرة أيام، هذا هو مذهب مالك". المسالك 4/ 255.
(10)
الهداية ص 167، الكافي 1/ 455، شرح الزركشي 3/ 6، الإنصاف 3/ 359.
أما القياس: فإنه من اعتقد أن من شرطه الصوم قال: لا يجوز اعتكاف ليلة، وإذا لم يجز اعتكافه ليلة فلا أقل من يوم وليلة؛ إذ انعقاد صوم النهار إنما يكون بالليل.
وأما الأثر المعارض: فما خرجه البخاري من أن عمر رضي الله عنه نذر أن يعتكف ليلة، «فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفي بنذره» (1) " (2).
أدلة القول الأول: القائلين بأنه ليس لأقل الاعتكاف زمان معين.
الدليل الأول: قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (3).
وجه الاستدلال: أن القرآن خاطب العرب بما يعرفونه من لغتهم، والاعتكاف في لغة العرب الإقامة. فكل إقامة في مسجد لله تعالى بنية التقرب إليه اعتكاف مما قل من الأزمان أو كثر، ولم يخص القرآن عددا من عدد، ولا وقتا من وقت (4).
ولم يأتنا في الشرع في تقدير مدة الاعتكاف شيء يصلح للتمسك به، واللبث في المسجد والبقاء فيه يصدق على اليوم وبعضه، بل وعلى الساعة إذا صحب ذلك نية الاعتكاف (5).
الدليل الثاني: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«أوف نذرك» ، فاعتكف ليلة (6).
وجه الاستدلال: أن في اعتكاف عمر رضي الله عنه ليلة رد على من حدد أقل الاعتكاف بيوم أو أكثر (7).
الدليل الثالث: عن يَعلى بن أُمَيَّة (8) رضي الله عنه قال: «إني لَأَمْكُث في المسجد الساعة، وما
(1) سبق تخريجه صفحة (629).
(2)
بداية المجتهد 2/ 78.
(3)
سورة البقرة: آية: 187.
(4)
ينظر: المحلى 3/ 411.
(5)
ينظر: السيل الجرار ص 293.
(6)
سبق تخريجه صفحة (629).
(7)
ينظر: فتح الباري 4/ 275.
(8)
هو: يعلى بن أمية بن أبي عبيدة، أبو صفوان التميمي المكي، صحابي، أسلم بعد الفتح، وشهد الطائف وحنينا وتبوك، واستعمله: أبو بكر، وعمر، وعثمان. توفي سنة 37 هـ. ينظر: الإصابة 6/ 538، والاستيعاب 4/ 1585، سير أعلام النبلاء 3/ 100.
أَمكُث إلا لأعتكف» (1).
أدلة القول الثاني: القائلين بأن أقله يوم وليلة.
الدليل الأول: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجِعِرَّانة (2)، بعد أن رجع من الطائف، فقال: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوما في المسجد الحرام، فكيف ترى؟ قال:«اذهب فاعتكف يوما» (3).
وفي رواية: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«أوف نذرك» ، فاعتَكَفَ ليلة (4).
وجه الاستدلال: أن أصل هذا الحديث أن عمر رضي الله عنه قال: "إني نذرت أن أعتكف يوما وليلة في الجاهلية"، فنَقَل بعض الرُواة ذِكر الليلة وحدها، ونَقَل بعضهم ذِكر اليوم وحده، ويجوز للراوي أن ينقل بعض ما سمِع (5).
ولما كان الاعتكاف اسما لغويا شرعيا، وجاء الشرع في حديث عمر رضي الله عنه بتقدير يوم وليلة؛ كان ذلك هو أقلّه (6).
الدليل الثاني: ولأن الصوم يُشتَرَط مع الاعتكاف، والصوم لا يكون إلا في يوم كامل؛ فكذلك الاعتكاف لا يكون إلا في يوم كامل.
قال الباجي: "والدليل على ما نقوله: أن هذه عبادة مِن شرطها الصوم، وقد أجمعنا على أن الصوم لا يَتبعَّض ولا يكون أقل من يوم كامل؛ فوجب أن يكون أقل مدتها ما يصح فيه الصوم، وذلك يوم"(7).
(1) رواه عبد الرزاق في المصنف 4/ 345 رقم 8006، كتاب الاعتكاف، باب الجوار والاعتكاف.
(2)
الجِعِرَّانة: في ضبطها روايتان: بكسر العين وتشديد الراء، وبسكنون العين وتخفيف الراء، وهي: ماء بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أقرب، نزلها النبي صلى الله عليه وسلم، لما قسم غنائم هوازن مرجعه من غزاة حنين، وأحرم منها. ينظر: معجم البلدان ص/142، المعالم الأثيرة ص/90.
(3)
رواه مسلم 3/ 1277 رقم 1656، كتاب الأيمان باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم.
(4)
سبق تخريجه صفحة (629).
(5)
ينظر: شرح البخاري لابن بطال 4/ 180، والتوضيح 13/ 629، وعمدة القاري 11/ 141.
(6)
ينظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/ 135.
(7)
المنتقى 2/ 81.
الترجيح: الذي يترجح في هذه المسألة -والله أعلم- هو القول الأول: أنه ليس لأقل الاعتكاف زمان معين؛ لعدم ورود نص يقدِّر أقله، فتقديره بيوم أو أكثر تَحَكُّم لا دليل عليه.
وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما قولهم لمّا كان الاعتكاف اسما لغويا شرعيا، وجاء الشرع في حديث عمر رضي الله عنه بتقدير يوم وليلة؛ كان ذلك هو أقله. فيجاب عنه من وجهين:
الأول: أن الحديث لم يأت بلفظ: "إني نذرت أن أعتكف يوما وليلة في الجاهلية"، وإنما هو اجتهاد من بعض العلماء في الجمع بين الروايتين، كابن بطال وغيره، † (1).
والصحيح أن من روى الحديث بلفظ (يوم)، فروايته شاذّة، كما رجحه الحافظ ابن حجر، والدليل رواية:«فاعتَكَفَ ليلةً» ، فدل على أن عمر رضي الله عنه لم يزد على نذره شيئا (2).
الثاني: وعلى التسليم بأن عمر رضي الله عنه كان قد نذر صيام يوم وليلة: فليس في الحديث ما يفيد تحديد أقل مدة الاعتكاف، بل ما في الحديث أن عمر رضي الله عنه كان قد نذر اعتكاف مدة معينة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء بها.
وبما أنه لم يأت عن غير عمر رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أقل من ذلك، -حتى يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض ذلك أو أجازه-، فيبقى على الأصل في الاعتكاف أنه: المُكث في المسجد بنية اللبث فيه، وبنية العبادة.
ثانيا: وأما قولهم: إن الصوم يشترط مع الاعتكاف، والصوم لا يكون إلا في يوم كامل؛ فكذلك الاعتكاف لا يكون إلا في يوم كامل، فيجاب عنه من وجهين:
الأول: أن الراجح أن الصيام ليس شرطا في صحة الاعتكاف كما مر معنا في المسألة السابقة (3).
الثاني: وعلى التسليم بأن الصوم من شرطه فَضَعيف أيضا؛ لأن العبادة لا تكون مُقَدَّرَة بشرطها؛ ألا ترى أن الطهارة شَرطٌ في الصلاة، وتنقضي الصلاة وتبقى الطهارة (4). والله أعلم.
(1) ينظر: شرح البخاري لابن بطال 4/ 180، وفتح الباري 4/ 274.
(2)
ينظر: فتح الباري 4/ 274.
(3)
ينظر: صفحة 626 وما بعدها.
(4)
ينظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/ 135.