الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: في الكفارة، وخصالها
وفيه تسعة مطالب:
المطلب الأول: هل الإعسار يسقط كفارة الجماع في رمضان؟ .
المطلب الثاني: هل على المرأة المجامعة في رمضان كفارة؟ .
المطلب الثالث: هل على من جامع ناسيا في رمضان كفارة؟ .
المطلب الرابع: هل الأكل والشرب في رمضان عمدا يوجبان الكفارة كالجماع؟ .
المطلب الخامس: هل تجري الخصال الثلاثة في كفارة الجماع في رمضان أو هو الإطعام فقط؟ .
المطلب السادس: هل الخصال الثلاثة في كفارة الجماع في رمضان على الترتيب أو على التخيير؟ .
المطلب السابع: حكم اشتراط التتابع في صيام كفارة الجماع في رمضان.
المطلب الثامن: ما هو الحد الواجب في الإطعام في كفارة الجماع في رمضان.
المطلب التاسع: هل يشترط في الرقبة المعتقة في كفارة الجماع في رمضان أن تكون مؤمنة؟ .
المطلب الأول: هل الإِعْسار (1) يُسقِط كفارة الجماع في رمضان؟ .
اختيار الشيخ: اختار أن الإعسار لا يسقط كفارة الجماع في رمضان، فقال:"وفيه دليل لما ذهب إليه الجمهور من أن الإعسار لا يسقط الكفارة"(2).
وقال أيضا: "الطريق الثاني، وهو الأقرب الأقوى أن يجعل إعطاءه إياها لا على جهة الكفارة عليه وعلى أهله بتلك الصدقة؛ لما ظهر من حاجتهم. وأما الكفارة فلم تسقط بذلك، ولكن ليس استقرارها في ذمته مأخوذا من هذا الحديث"(3).
تحرير محل الخلاف: اتفق أهل العلم أن الرجل إذا جامع بعد الفجر في رمضان أنه عاص إذا كان عالما بالنهي عن ذلك، وأن صيامه فاسد وعليه الكفارة (4).
واختلفوا إذا عجز عن الكفارة وقت وجوبها هل تثبت في ذمته على قولين:
القول الأول: تسقط الكفارة عن المجامع في رمضان وإن استطاع بعد ذلك فلا شيء عليه.
وهو: قول عند الشافعية (5)، والمذهب عند الحنابلة (6)، وبه قال الأوزاعي (7).
القول الثاني: تبقى الكفارة في ذمته إلى أن يجدها.
وهو: الظاهر من مذهب الحنفية (8) ، وقول المالكية (9) ، والصحيح عند الشافعية (10).
ورواية عند: الحنابلة (11)، وهو اختيار الشيخ رحمه الله.
(1) الإِعْسَارُ: من العُسْر ضد اليُسْر، وهو: قلة ذات اليد. ينظر: النهاية 3/ 235، تاج العروس 13/ 29.
(2)
مرعاة المفاتيح 6/ 504. أي في حديث أبي هريرة الآتي ذِكره.
(3)
مرعاة المفاتيح 6/ 508.
(4)
ينظر: الإقناع لابن المنذر 1/ 193، والإشراف له 3/ 121، الإقناع لابن القطان 1/ 235، بداية المجتهد 2/ 64، والمغني 3/ 134.
(5)
الأم 2/ 108، الحاوي 3/ 433، المهذب 1/ 339، منهاج الطالبين ص 79.
(6)
الهداية ص 160، المغني 3/ 143، الروض المربع ص 234، الإنصاف 3/ 323.
(7)
التمهيد 7/ 176، بداية المجتهد 2/ 68، المغني 3/ 144، فتح الباري 4/ 171، إكمال المعلم 4/ 57.
(8)
ينظر: المبسوط 3/ 71، فتح القدير 2/ 340، تبيين الحقائق 1/ 329، نخب الأفكار 8/ 321.
(9)
الذخيرة 2/ 518، القوانين الفقهية ص 84، المنتقى 2/ 55، إكمال المعلم 4/ 57.
(10)
الأم 2/ 108، الحاوي الكبير 3/ 433، العزيز 3/ 235، المجموع 6/ 343.
(11)
الهداية ص 160، المغني 3/ 144، المبدع 3/ 35، الإنصاف 3/ 323.
سبب الخلاف: قال ابن رشد: "والسبب في اختلافهم في ذلك: أنه حكم مسكوت عنه، فيحتمل أن يُشبَّه بالديون، فيعود الوجوب عليه في وقت الإثراء (أي غناه). ويحتمل أن يقال: لو كان ذلك واجبا عليه لَبَيَّنه له صلى الله عليه وسلم "(1).
أدلة القول الأول: القائلين بسقوط الكفارة عن المعسر.
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، هلكت! قال: «ما لك؟ » . قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تجد رقبة تعتقها؟ » . قال: لا. قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ » . قال: لا. قال: «فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ » . قال: لا. قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم». فبينا نحن على ذلك أُتِيَ النبي صلى الله عليه وسلم بعَرَق (2) فيها تمر، قال:«أين السائل؟ » . فقال: أنا. قال: «خذ هذا فتصدق به» . فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ ! فوالله ما بين لَابَتَيْهَا (3) أهل بيت أفقر من أهل بيتي! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال:«أطعمه أهلك» (4).
الدليل الثاني: عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه احترق (5)! » ، قال:«ما لك؟ » . قال: أصبت أهلي في رمضان. فأُتِي النبي صلى الله عليه وسلم
(1) بداية المجتهد 2/ 68.
(2)
العَرَق: هو زبيل منسوج من نسائج الخوص، وكل شيء مضفور فهو عرق وعرقة بفتح الراء فيهما. ينظر: غريب الحديث لأبي عبيد 1/ 105، النهاية في غريب الحديث 3/ 219.
(3)
اللَاّبَة: الحَرَّة، وهي الأرض ذات الحجارة السود. وما بين لابتيها: أي: المدينة؛ لأنها بين حَرَّتَين. ينظر: المصباح المنير 2/ 560، تاج العروس 4/ 223، تهذيب اللغة 15/ 275.
(4)
رواه البخاري 3/ 32 رقم 1936، كتاب الصوم، باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر، واللفظ له، ومسلم 2/ 781 رقم 1111، كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان، ووجوب الكفارة الكبرى فيه وبيانها، وأنها تجب على الموسر والمعسر
…
(5)
قال الحافظ: "كأنه لما اعتقد أن مرتكب الإثم يعذب بالنار أطلق على نفسه أنه احترق لذلك، وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم له هذا الوصف فقال: «أين المحترق؟ » إشارة إلى أنه لو أصر على ذلك لاستحق ذلك". فتح الباري 4/ 162.
بمِكْتل (1) يدعى العَرَق، فقال:«أين المحترق؟ » . قال: أنا. قال: «تصدق بهذا» (2).
وجه الاستدلال: أن قوله صلى الله عليه وسلم: «أطعمه أهلك» دل على سقوط الكفارة بالإعسار المقارن لوجوبها؛ لأن الكفارة لا تصرف إلى النفس ولا إلى العيال، ولم يبين النبي صلى الله عليه وسلم استقرارها في ذمته إلى حين يساره (3). ولو كانت واجبة لم يسكت عنه حتى يبين ذلك له (4).
الدليل الثالث: وقياسا على زكاة الفطر إذا عدمها وقت الوجوب ثم وجدها فيما بعد؛ فإنها تسقط عنه؛ لتعلقها بطُهرة الصوم (5).
أدلة القول الثاني: القائلين تبقى الكفارة في ذمته إلى أن يجدها.
الدليل الأول: استدلوا بحديث المجامع الذي استدل به أصحاب القول الأول.
وجه الاستدلال: أن الأعرابي لما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعجزه عن أجناس الكفارة لم يبين له سقوطها عنه، بل أمر له بما يكفر به من التمر، فدل على ثبوتها في ذمته وإن عجز عنها (6).
قال الخطابي: "هذا رجل وجبت عليه الرقبة فلم يكن عنده ما يشتري به رقبة، فقيل له: صم، فلم يطق الصوم، فقيل له: أطعم ستين مسكينا، فلم يجد ما يطعم، فأمر له النبي صلى الله عليه وسلم بطعام ليتصدق به، فأخبر أنه ليس بالمدينة أحوج منه، فلم ير له أن يتصدق على غيره ويترك نفسه وعياله، فلما نقص من ذلك بقدر ما أطعم أهله لقوت يومه صار طعاما لا يكفي ستين مسكينا، فسقطت عنه الكفارة الوقت فكانت في ذمته إلى أن يجدها، وصار كالمُفلِس (7) يُمهَل ويؤجَل، وليس في الحديث أنه قال: لا كفارة عليك"(8).
(1) المِكْتَل: الزبيل الكبير. أي وعاء يحمل فيه مثل القُفَّة، من ورق النخل ونحوه، قيل: إنه يسع خمسة عشر صاعا، كأن فيه كُتلا من التمر: أي قطعا مجتمعة. ويجمع على مكاتل. ينظر: النهاية 4/ 150، والصحاح 5/ 1809، ومعجم لغة الفقهاء ص 456.
(2)
رواه البخاري 3/ 32 رقم 1935، في الصوم باب إذا جامع في رمضان، ومسلم 2/ 783 رقم 1112، في الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم
…
(3)
ينظر: فتح الباري 4/ 171، إحكام الأحكام 2/ 16، والحاوي 3/ 433، المغني 3/ 143.
(4)
ينظر: شرح البخاري لابن بطال 4/ 76، التمهيد 7/ 178.
(5)
ينظر: الحاوي الكبير 3/ 433، وإحكام الأحكام 2/ 17، والمجموع 6/ 343، والمبدع 3/ 35.
(6)
ينظر: الحاوي الكبير 3/ 433.
(7)
المُفْلس: هو الذي لا مال له ولا ما يدفع حاجته. ينظر: القاموس الفقهي لغة واصطلاحا ص 290.
(8)
معالم السنن 2/ 119، وينظر: شرح عمدة الفقه كتاب الصيام 1/ 297، المجموع 6/ 344، المحلى 4/ 335.
الدليل الثاني: وقياسا على سائر الديون والحقوق والمؤاخذات، كجَزاء الصَيْد (1) وغيره؛ فإنها لا تسقط بالعجز عنها (2).
الترجيح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الثاني: أنه تبقى الكفارة في ذمته إلى أن يجدها؛ وذلك لقوة ما استدلوا به، ولأن كل ما وجب أداؤه في حال اليسر، لزِم في الذِمَّة إلى المَيسَرة على وجهه، وليس في حديث الأعرابي أنه صلى الله عليه وسلم قال له: إنها ساقطة عنك لعسرتك، بل في الحديث أن الأعرابي لما أخبر عن حاجته أباح النبي صلى الله عليه وسلم له الانتفاع بما أعطاه، وأما ما في ذمته من الكفارة فلم يتعرض لحكمه صلى الله عليه وسلم، فبقي ذلك كما وجب عليه (3).
وأما ما استدل به أصحاب القول الأول فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما استدلالهم بحديث الأعرابي على إسقاط الكفارة، فيجاب عنه:
أنه ليس في الحديث إسقاط الكفارة عن الأعرابي، وإنما هذا رجل ازدحمت عليه جهة الحاجة وجهة الكفارة، فقُدِّم الأهم، وهو الاقتيات، وبقيت الكفارة في ذمته إلى حين القدرة حسب ما أوجبها عليه الرسول صلى الله عليه وسلم (4).
ثانيا: وأما قولهم قياسا على زكاة الفطر إذا عدمها وقت الوجوب ثم وجدها فيما بعد؛ فإنها تسقط عنه، فيجاب عنه: أن بينهما فرقا، فصدقة الفطر لها أمد تنتهي إليه، وكفارة الجماع لا أمد لها؛ فتستقر في الذمة (5). والله أعلم.
(1) جَزاء الصَيْد في الإحرام: أي ما يقوم مقامه وينوب عنه في الكفارة. وهو ما جعله العدلان قيمة للصيد في مَوضِع قَتْلِه، أو في أقرب مكان منه. ينظر: مشارق الأنوار 1/ 147، القاموس الفقهي ص 62.
(2)
ينظر: الحاوي الكبير 3/ 433، المجموع 6/ 343، المغني 3/ 144.
(3)
ينظر: التمهيد 7/ 178، شرح البخاري لابن بطال 4/ 76.
(4)
ينظر: القبس لابن العربي 1/ 500.
(5)
ينظر: فتح الباري 4/ 171، ونيل الأوطار 4/ 256.