الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: هل الضيافة عذر للإفطار من صوم النفل
؟ .
اختيار الشيخ: اختار أن الصائم المتنفل إذا كان ضيفا وقرب إليه الطعام جاز له الفطر، فقال:"فيه دليل على أن من صام تطوعا لا يجب عليه الإفطار إذا قُرِّب إليه الطعام، وإن أفطر يجوز؛ للحديث السابق"(1).
تحرير محل الخلاف: من المسائل التي مرت مسألة حكم الإفطار في صوم النافلة، وعلمنا أن الجمهور جوزوا للصائم فطر ذلك اليوم واستحبوا له إتمامه، وقال الحنفية والمالكية بحرمة فطر ذلك اليوم، لمن أفطره بلا عذر، واختلفوا في الضيافة هل تكون عذرا للصائم فيفطر من صيام النفل أو لا؟ ، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: الضيافة عذر، فيجوز للضيف أن يفطر من صيام النفل، وعليه قضاء ذلك اليوم.
وبه قال الحنفية في الأظهر (2).
القول الثاني: الضيافة عذر، فيجوز للضيف أن يفطر من صيام النفل من غير إيجاب، وليس عليه قضاء ذلك اليوم.
وهو قول: الشافعية (3) ، والحنابلة (4) ، وهو اختيار الشيخ.
القول الثالث: يحرم على الضيف أن يفطر من صيام النفل.
وهو قول: المالكية (5) ، ورواية عند الحنفية (6).
(1) مرعاة المفاتيح 7/ 108. في حديث أم سليم ص 501، والسابق حديث أبي سعيد ص 500.
(2)
المبسوط 3/ 70، درر الحكام 1/ 210، البناية 4/ 90، رد المحتار 2/ 430. والصحيح عندهم: إن كان صاحب الدعوة ممن يرضى بمجرد حضوره، ولا يتأذى بترك الإفطار لا يفطر، وإن كان يعلم أنه يتأذى بترك الإفطار يفطر. ينظر: الدر المختار 1/ 150.
(3)
فتح العزيز 6/ 465، تحفة المحتاج 3/ 460، حاشية الجمل 2/ 353. وعندهم: يكره الخروج منه بغير عذر، والضيافة عندهم عذر. ينظر: المجموع 6/ 393.
(4)
الهداية ص 410، المغني 7/ 279، المبدع 3/ 56، الإنصاف 3/ 353. وعند الحنابلة أيضا خلاف: هل يستحب إفطاره مطلقا أو على من يعز عليه؟ وستأتي معنا إن شاء الله في المسألة الآتية ص 504.
(5)
النوادر والزيادات 4/ 570، التوضيح لخليل 4/ 256، الدر الثمين ص 483، مواهب الجليل 2/ 431. واستثنى المالكية: إذا كان المضيف والده أو شيخه فأجازوا له الفطر مع القضاء.
(6)
المبسوط 3/ 70، درر الحكام 1/ 210، تبيين الحقائق 1/ 337، البناية 4/ 90.
أدلة القول الأول: القائلين بأن الضيافة عذر ويجوز للضيف أن يفطر من صيام النفل، وعليه قضاء ذلك اليوم.
استدل أصحاب هذا القول بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، قال: صنع رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابا له، فلما أتى بالطعام تنحى أحدهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«ما لك؟ » ، قال: إني صائم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«تكلف لك أخوك وصنع ثم تقول: إني صائم، كل وصم يوما مكانه» (1).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الضيافة عذرا مبيحا للفطر، وألزم المفطر بقضاء يوم آخر (2).
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه يجوز للضيف أن يفطر من صيام النفل من غير إيجاب، وليس عليه قضاء ذلك اليوم.
الدليل الأول: عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دُعِي إلى طعام وهو صائم، فليُجِب، فإن شاء طعم، وإن شاء ترك» (3).
وجه الاستدلال: في الحديث دليل على جواز قطع صيام التنفل بعذر إجابة الدعوة لمن شاء، ومثله الضيف إذ هو مدعو إلى الطعام (4).
الدليل الثاني: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه طعاما، فدعاهم، فلما دخلوا وضع الطعام، فقال رجل من القوم: إني صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«دعاكم أخوكم وتكلف لكم، ثم تقول: إني صائم؟ ، أفطر، ثم صم يوما مكانه إن شئت» (5).
(1) رواه الدارقطني 3/ 140 رقم 2241، كتاب الصيام، بابٌ.
(2)
ينظر: فتح القدير لابن الهمام 2/ 363، وتبيين الحقائق 1/ 338.
(3)
رواه ابن ماجه 1/ 557 رقم 1751، في الصيام، باب من دعي إلى طعام وهو صائم، واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح الجامع 2/ 1071 رقم 6236.
(4)
ينظر: حاشية السندي على ابن ماجه 1/ 533.
(5)
رواه الطبراني في المعجم الأوسط 3/ 306 رقم 3240، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 462 رقم 8362، في الصيام، باب التخيير في القضاء إن كان صومه تطوعا، وحسنه الألباني في الإرواء 7/ 11 رقم 1952.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الضيافة غرضا صحيحا يقطع المتنفل من أجله صيامه، وخيره في القضاء ولم يجعله حتما عليه.
قال الشوكاني: "والأحاديث المذكورة في الباب تدل على أنه يجوز لمن صام تطوعا أن يفطر، لا سيما إذا كان في دعوة إلى طعام أحد من المسلمين، ويدل على أنه يستحب للمتطوع القضاء لذلك اليوم"(1).
أدلة القول الثالث: القائلين بأنه يحرم على الضيف أن يفطر من صيام النفل.
الدليل الأول: عن أنس رضي الله عنه، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أمّ سُلَيْم (2) فأتته بتمر وسمن، فقال:«أعيدوا سمنكم في سِقائه، وتمركم في وِعائه، فإني صائم» . ثم قام إلى ناحية من البيت فصلى غير المكتوبة فدعا لأم سليم وأهل بيتها (3).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفطر، ولو كانت الضيافة عذرا لما تردد صلى الله عليه وسلم في الفطر؛ جبرا لخاطر أم سُلَيْم رضي الله عنها.
الدليل الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم، فليقل: إني صائم» (4).
وفي رواية قال: «إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائما فليصل، وإن كان مفطرا فليطعم» (5).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل للصائم إلا البقاء على صومه؛ وذلك بإخبارهم بذلك كما في الرواية الأولى؛ أو الدعاء لهم كما في الرواية الثانية، ولو كان الفطر مباحا له لخيَّره بين البقاء على فِطره أو المضي في صيامه.
(1) نيل الأوطار 4/ 306، وينظر: تحفة الأحوذي 3/ 355.
(2)
هي: أم سُلَيْم بنت مِلْحان بن خالد الأنصارية، اختلف في اسمها، وهي أم أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، اشتهرت بكنيتها، أسلمت مع السابقين إلى الإسلام من الأنصار، روى عنها: ابنها أنس، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وغيرهم. ينظر: الإصابة 8/ 408، والاستيعاب 4/ 1940، السير 2/ 304.
(3)
رواه البخاري 3/ 41 رقم 1982، في الصوم، باب من زار قوما فلم يفطر عندهم.
(4)
رواه مسلم 2/ 805 رقم 1150، في الصيام، باب الصائم يدعى لطعام فليقل: إني صائم.
(5)
رواه مسلم 2/ 1054 رقم 1431، في النكاح، باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة.
الدليل الثالث: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نزل على قوم فلا يصومن تطوعا إلا بإذنهم» (1).
وجه الاستدلال: أن أهل البيت يتكلفون لهذا الضيف بإعداد الطعام، فإذا أعلمهم بأنه صائم أفسد عليهم ما أعدوه له، ولو كان قطع صيامه جائزا لأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى فعله؛ منعا للحرج، ولذلك كان ينبغي على الضيف إعلامهم بصيامه حتى لا يخسروا (2).
الراجح: الذي يترجح في هذه المسألة -والله أعلم- هو القول الثاني: أنه يجوز للضيف أن يفطر من صيام النفل من غير إيجاب، وليس عليه قضاء ذلك اليوم؛ وذلك لصحة ما استدلوا به؛ ولدلالته على المطلوب من جواز قطع الضيف صيام نفله لغرض الضيافة، إذ هو غرض صحيح، وهو مخير في قضاء ذلك اليوم كما نص عليه حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
وأما ما استدل به أصحاب القولين الآخرين، فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما استدلال أصحاب القول الأول بحديث أبي سعيد الخدري ¢ على لزوم قضاء ذلك اليوم، فيجاب عنه: أنه قد بينت الرواية الأخرى لحديث أبي سعيد ¢ عدم إيجاب القضاء عليه، وأنه مخير في ذلك (3).
ثانيا: وأما استدلال أصحاب القول الثالث بحديث أم سُلَيم رضي الله عنها على عدم جواز إفطار الضيف المتنفل بالصيام، فيجاب عنه:
أن الحديث لا يفيد ذلك، بل يفيد: أن من صام تطوعا لا يجب عليه الإفطار إذا قُرِّب إليه الطعام حال كونه ضيفا. وأما إن أفطر، فيجوز له ذلك؛ لحديث أبي سعيد الخدري وجابر رضي الله عنهما السابقين. وإنما لم يفطر النبي صلى الله عليه وسلم عند أم سليم؛ لأنها كانت عنده بمنزلة أهل بيته (4).
ثالثا: وأما استدلالهم بحديث أبي هريرة رضي الله عنه فيجاب عنه:
أنه قد ورد في حديث جابر رضي الله عنه تخييره بين الفطر والإمساك، فكان دليلا على جواز الأمرين.
(1) رواه الترمذي 3/ 147 رقم 789، في الصيام، باب ما جاء فيمن نزل بقوم فلا يصوم إلا بإذنهم، وقال:"حديث منكر"، واللفظ له، وابن ماجه 1/ 560 رقم 1763، في الصيام، باب فيمن نزل بقوم فلا يصوم إلا بإذنهم، وقال الألباني في السلسلة الضعيفة 6/ 235 رقم 2713:"ضعيف جدا".
(2)
ينظر: مواهب الجليل 2/ 431.
(3)
ينظر: فتح الباري 4/ 210.
(4)
ينظر: فيض القدير 6/ 231.
رابعا: وأما استدلالهم بحديث عائشة رضي الله عنها فيجاب عنه:
أنه حديث ضعيف جدا لا تقوم به الحجة (1).
وعلى التسليم بصحته فلا يفيد أبدا أن الضيف لا يجوز له الفطر من صيام النفل، وإنما يفيد عِظَم حق أصحاب الدعوة؛ لأن لهم حق ضيافته، فلا يَحزنهم بالصوم؛ إذ جبر خاطرهم أفضل من الصوم تطوعا (2).
ولأن صوم التطوع حينئذ قد يورث حقدا في النفس، وأما جبر خاطر المضيف بالفِطر عنده يورث المودة والمحبة في الله، وهو أعم نفعا (3).
ولأنه من آداب الضيف أن يطيع المضيف، فإذا خالف فقد ترك الأدب (4). والله أعلم.
(1) ينظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير 6/ 231.
(2)
ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير 10/ 412.
(3)
ينظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير 6/ 231.
(4)
ينظر: تحفة الأحوذي 3/ 419.