الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: حكم صيام يوم السبت
.
اختيار الشيخ: اختار كراهة إفراد يوم السبت بالصيام موافقة للجمهور، فقال:"فالمنهي عنه إفراد السبت وفي معناه إفراد الأحد، والمستحب صومهما جميعا"(1).
اختلف الفقهاء في حكم صيام يوم السبت على ثلاثة أقوال:
القول الأول: كراهة صوم السبت في غير الفريضة مفردا ويجوز مع غيره (2).
وبه قال: الحنفية (3) ، والمالكية (4) ، والشافعية (5) ، والحنابلة في المذهب (6)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: جواز صيام يوم السبت مطلقا.
وهي رواية عند: الحنابلة (7) ، ورجحه الطحاوي (8).
القول الثالث: كراهة صيام يوم السبت في غير فريضة مطلقا.
وبه قال: قوم ذكرهم الطحاوي ولم يسمهم (9).
سبب الخلاف: ويرجع سبب اختلافهم في هذه المسألة إلى اختلافهم في حديث: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم» ، فمن قائل بضعفه، وقائل بنسخه، وقائل بالجمع بينه وبين الأحاديث التي أجازت صيام يوم السبت كحديث جويرية (10) رضي الله عنها وغيره (11).
أدلة القول الأول: القائلين بكراهة صوم السبت في غير الفريضة مفردا ويجوز مع غيره.
(1) مرعاة المفاتيح 7/ 97.
(2)
والمقصود تخصيصه بصيام منفردا، أما إذا كانت له عادة صيام فلا بأس.
(3)
تحفة الفقهاء 1/ 343، بدائع الصنائع 2/ 79، البحر الرائق 2/ 278، درر الحكام 1/ 198.
(4)
النوادر والزيادات 2/ 76، الذخيرة 2/ 497، القوانين الفقهية 78، الدر الثمين ص 455.
(5)
فتح العزيز 6/ 472، المجموع 6/ 439، المنهاج القويم ص 264، أسنى المطالب 1/ 432.
(6)
الهداية ص 164، المغني 3/ 171، المبدع 3/ 52، الانصاف 3/ 347.
(7)
شرح العمدة كتاب الصيام 2/ 653، تهذيب السنن 7/ 49، الانصاف 3/ 347.
(8)
شرح معاني الآثار 2/ 80.
(9)
شرح معاني الآثار 2/ 80. وقال العيني: "أراد بالقوم هؤلاء: مجاهدا، وطاوس بن كيسان، وإبراهيم، وخالد بن معدان؛ فإنهم كرهوا صوم يوم السبت تطوعا". نخب الأفكار 8/ 433.
(10)
سبق تخريجه صفحة (413).
(11)
ينظر: بداية المجتهد 2/ 73.
الدليل الأول: عن جُوَيْرية بنت الحارث رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: «أصمت أمس» . قالت لا. قال: «تريدين أن تصومي غدا» . قالت لا. قال «فأفطري» (1).
وجه الاستدلال: فالمعنى: إذا أردتِ صيام الجمعة مع السبت فلا بأس به، وإلا فلا (2).
الدليل الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول:«لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو بعده» (3).
وجه الاستدلال: واليوم الذي بعده هو يوم السبت أي فيجوز صيام الجمعة مع السبت (4).
الدليل الثالث: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: أُخبِر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت، فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأُمّي
…
قال: «فصم يوما وأفطر يوما فذلك صيام داود عليه السلام وهو أفضل الصيام» (5).
وجه الاستدلال: أن من صام يوما وأفطر يوما فلا بد أن يكون في عادته صيام يوم السبت، وهذا غير من يقصد إفراده بصيام.
الدليل الرابع: عن كريب مولى ابن عباس قال: أرسلني ابن عباس رضي الله عنه، وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة رضي الله عنها أسألها: أي الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرها صياما؟ قالت: «كان يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام، ويقول: «إنهما يوما عيد للمشركين، فأنا أحب أن أخالفهم» (6).
(1) سبق تخريجه صفحة (413).
(2)
ينظر: إرشاد الساري 3/ 415، وتحفة الأحوذي 7/ 53.
(3)
سبق تخريجه صفحة (412).
(4)
ينظر: حاشية ابن القيم على سنن أبي داود 7/ 49.
(5)
سبق تخريجه صفحة (143).
(6)
أخرجه أحمد 44/ 330 رقم 267449، وابن حبان 8/ 407 رقم 3646، وابن خزيمة 3/ 318 رقم 2167، في الصيام باب الرخصة في يوم السبت إذا صام يوم الأحد بعده، والحديث ضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة 3/ 219، رقم 1099.
الدليل الخامس: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس» (1).
وجه الاستدلال: أن حديث أم سلمة نص على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من صيام السبت والأحد فيحمل على صومهما جميعا متواليين حتى لا يخالف ما سيأتي من النهي عن صوم يوم السبت مفردا. وقد وضحه حديث عائشة بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين، أي متتاليين.
قال القَسْطلاني (2) -في الحكمة من جمعه صلى الله عليه وسلم بين صيام السبت والأحد-: "لأن اليهود تعظم يوم السبت، والنصارى يوم الأحد، ولا يكره جمع السبت مع الأحد؛ لأن المجموع لم يعظمه أحد"(3).
الدليل السادس: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياما منه في شعبان» (4).
الدليل السابع: عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يُكَفِّر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يُكَفِّر السنة التي قبله» (5).
(1) رواه الترمذي 3/ 113 رقم 746، أبواب الصيام باب ما جاء في صوم يوم الاثنين والخميس، وقال:"هذا حديث حسن"، والحديث ضعفه الألباني في ضعيف الترمذي ص 87 رقم 43.
(2)
هو: أحمد بن محمد بن أبي بكر، أبو العباس القَسْطَلَّاني، القيتي المصري، المحدث الفقيه المقرئ. أخذ عن جماعة منهم: النجم بن فهد. توفي سنة 923 هـ، من تصانيفه: إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري. ينظر: شذرات الذهب 8/ 121، البدر الطالع 1/ 95، والأعلام 1/ 232.
(3)
إرشاد الساري 3/ 415.
(4)
أخرجه البخاري 3/ 38 رقم 1969، في الصوم، باب صوم شعبان، ومسلم 2/ 810 رقم 1156، في الصيام، باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان.
(5)
رواه مسلم 2/ 818 رقم 1162، كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس.
وجه الاستدلال من الأحاديث: فمن المؤكد دخول يوم السبت في تلك الأيام التي يسردها عليه السلام في شعبان وغيره. كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حَثَّ على صيام يوم عاشورا ويوم عرفة، وقد يوافقان يوم السبت، وهذا كله مستثنى من صورة الكراهة.
الدليل الثامن: حديث أن امرأة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتغدى وذلك يوم السبت، فقال:«تعالي فكلي» فقالت: إني صائمة، فقال لها:«صمت أمس» ؟ فقالت: لا، قال:«فكلي فإن صيام يوم السبت لا لك ولا عليك» (1).
وجه الاستدلال: فتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم لها بالفطر، بعد أن أخبرته أنها لم تصم قبله يوما دليل على كراهة إفراده، أما لو كانت صامت يوما قبله لما كره.
الدليل التاسع: عن الصَمّاء بنت بُصْر (2) رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افتُرِض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا عود عنب أو لِحَاء (3) شجرة فليمضغه» (4).
وجه الاستدلال: أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم «لا تصوموا يوم السبت» ، أي: لا تقصدوا صومه بعينه إلا في الفرض، فإن الرجل يقصد صومه بعينه، بحيث لو لم يجب عليه إلا صوم يوم السبت؛ كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلا يوم السبت، فإنه يصومه وحده. وأيضا فقَصدُه بعينه في الفرض لا يُكره، بخلاف قصده بعينه في النفل فإنه يُكره، ولا تزول الكراهة إلا بضم غيره إليه، أو موافقته عادة. فالمُزيل للكراهة في الفرض مجرد كونه فرضا لا المقارنة بينه وبين غيره،
(1) سبق تخريجه صفحة (416).
(2)
هي: الصَمّاء بنت بُسْر المازنية، يقال اسمها بهية ويقال بهيمة، أخت عبد الله بن بسر، وقيل عمته، وقيل خالته، روى عنها: عبد الله بن بسر، وأبو زيادة عبيد الله بن زياد. ينظر: معرفة الصحابة 6/ 3380، تهذيب الكمال 35/ 218، الإصابة 7/ 748.
(3)
يقال: لِحاء، ككِساء، ولِحى: وهو قشر الشجر. ينظر: الصحاح 6/ 2480، معجم مقاييس اللغة 5/ 240، تاج العروس 39/ 443.
(4)
أخرجه أبو داود 2/ 320 رقم 2421، في الصيام باب النهي أن يخص يوم السبت بصوم، وقال:"وهذا حديث منسوخ"، والترمذي 3/ 111 رقم 744، أبواب الصيام باب ما جاء في كراهية صوم يوم السبت، وقال:"هذا حديث حسن"، وابن ماجه 1/ 550 رقم 1726، في الصيام باب ما جاء في صيام يوم السبت، وأحمد 45/ 7 رقم 27075، وقال شعيب الأرنؤوط:"رجاله ثقات إلا أنه أعل بالاضطراب والمعارضة"، وقال الألباني في الإرواء 4/ 118 رقم 960:"صحيح".
وأما في النفل فالمُزيل للكراهة ضم غيره إليه، أو موافقته عادة ونحو ذلك. ويؤيد هذا ما تقدم من إذنه صلى الله عليه وسلم لمن صام الجمعة أن يصوم السبت بعدها، وصيامه صلى الله عليه وسلم السبت والأحد كما سبق، والجمع مهما أمكن أولى من النسخ (1).
أدلة القول الثاني: القائلين بجواز صيام يوم السبت مطلقا.
الدليل الأول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس» (2).
الدليل الثاني: عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت ويوم الأحد وكان يقول: «إنهما يوما عيد للمشركين وأنا أريد أن أخالفهم» (3).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يحب موافقة أهل الكتاب في ما لم يؤمر فيه» (4)، في أول الأمر، ثم خالفهم في آخر الأمر، والنهي عن صوم يوم السبت يوافق الحالة الأولى، وصيامه إياه يوافق الحالة الثانية، فيكون حديث النهي عن صيام السبت منسوخ (5).
كما أن حديث أم سلمة دال على استحباب صوم السبت والأحد؛ مخالفة لأهل الكتاب، وظاهره صوم كل على الانفراد والاجتماع (6).
أدلة القول الثالث: القائلين بكراهة صيام يوم السبت في غير فريضة مطلقا.
استدل أصحاب هذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تصوموا يوم السبت إلا في ما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا عود عنب أو لحى شجرة فليمضغه» (7).
وجه الاستدلال: فقوله: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم» دليل على المنع من صومه في غير الفرض مفردا أو مضافا؛ لأن الاستثناء دليل التناول، وهو يقتضي أن
(1) ينظر: تهذيب السنن 7/ 51، اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 77، نيل الأوطار 4/ 298.
(2)
سبق تخريجه صفحة (419).
(3)
سبق تخريجه صفحة (419).
(4)
الحديث أخرجه البخاري 7/ 162 رقم 5917، كتاب اللباس باب الفرق، ومسلم 4/ 1817 رقم 2336، كتاب الفضائل باب في سدل النبي صلى الله عليه وسلم شعره وفرقه، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(5)
ينظر: نيل الأوطار 4/ 297، وسبل السلام 1/ 590.
(6)
ينظر: سبل السلام 1/ 590، وينظر: شرح معاني الآثار 2/ 81.
(7)
سبق تخريجه صفحة (421).
النهي عنه يتناول كل صور صومه إلا صورة الفرض، ولو كان إنما يتناول صورة الإفراد لقال: لا تصوموا يوم السبت إلا أن تصوموا يوما قبله أو يوما بعده، كما قال في الجمعة. فلما خص الصورة المأذون في صومها بالفرضية علم تناول النهي لما قابلها (1).
الترجيح: الذي يترجح والله أعلم هو القول الأول: أنه يكره صوم السبت في غير الفريضة مفردا؛ جمعا بين الأدلة، والجمع مهما أمكن أولى من النسخ (2).
أما ما استدل به أصحاب القول الثاني والثالث فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما قول أصحاب القول الثاني بأن أحاديث صيام يوم السبت ناسخة لحديث النهي: فهذه دعوى تحتاج إلى برهان (3).
ثانيا: وأما استدلالهم بحديث عائشة وأم سلمة -الذَين دلا على جواز صيام يوم السبت-، على جواز تخصيصه بذلك:
فغير ظاهر، بل الظاهر صومه مع ما بعده (4).
وأما ما قاله: أصحاب القول الثالث في حديث النهي عن صيام يوم السبت: من أن الاستثناء دليل التناول
…
إلى آخره، فيجاب عنه:
أنه لا ريب أن الاستثناء أخرج صورة الفرض من عموم النهي، وأما صورة الاقتران بما قبله أو بما بعده، أو موافقته لعادة صيام، فقد أُخرِجت بدليل آخر، وهو ما تقدم من حديث جويرية وأبي هريرة وغيرهما، فكِلا الصورتين مُخرَج، أما الفرض فبالمُخرِج المتصل، وأما صومه مضافا، أو موافقا لصوم، فبالمُخرِج المنفصل، فبقيت صورة التخصيص بالإفراد واللفظ متناول لها، ولا مُخرِج لها من عمومه، فيتعين حَمله عليها (5). والله أعلم.
(1) ينظر: حاشية ابن القيم تهذيب السنن 7/ 50 - 51، وينظر: شرح معاني الآثار 2/ 80.
(2)
ينظر: نيل الأوطار 4/ 298.
(3)
ينظر: المجموع 6/ 439، وحاشية ابن القيم تهذيب السنن 7/ 50.
(4)
ينظر: تهذيب السنن 7/ 52.
(5)
ينظر: تهذيب السنن 7/ 51، واقتضاء الصراط المستقيم 2/ 77.