الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: حكم إفراد يوم الجمعة بصيام
.
اختيار الشيخ: اختار تحريم إفراد يوم الجمعة بصيام، فقال:"قلت وأرجح الأقوال عندي: قول من ذهب إلى تحريم إفراد يوم الجمعة بالصيام؛ لما قد صح النهي عنه، والأصل في النهي التحريم والله تعالى أعلم"(1).
تحرير المسألة: المقصود بإفراد يوم الجمعة: أن يُعيِّنَه ويخُصَّه بصيام ولم يكن قد وافق عادة له، كصيام يوم وإفطار يوم، أو صيام الاثنين والخميس، ولا ضم إليه يوم قبله أو بعده.
تحرير محل الخلاف: أجمع أهل العلم على أن صوم يومي العيدين منهي عنه، محرم في التطوع والنذر المطلق والقضاء والكفارة (2).
واختلفوا في إفراد يوم الجمعة بصيام النفل إذا لم يوافق عادة له أو ضمَّ إليه يوم قبله أو بعده، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يباح إفراد يوم الجمعة بصيام بلا كراهة.
وبه قال: الحنفية (3)، والمالكية (4).
القول الثاني: أنه يكره إفراد يوم الجمعة بصيام.
وبه قال: الشافعية (5)، والحنابلة (6).
القول الثالث: أنه يحرم إفراد يوم الجمعة بصيام.
وبه قال: الظاهرية (7)، وهو اختيار الشيخ.
سبب الخلاف: قال ابن رشد: "والسبب في اختلافهم: اختلاف الآثار في ذلك"(8).
أدلة القول الأول: القائلين بأنه يباح إفراد يوم الجمعة بصيام بلا كراهة.
(1) مرعاة المفاتيح 7/ 75.
(2)
ينظر: الإشراف لابن المنذر 3/ 153، الإقناع له 1/ 196، مراتب الإجماع ص 40، بداية المجتهد 2/ 71، الحاوي الكبير 3/ 455، التمهيد 21/ 164، المغني 3/ 169.
(3)
الحجة 1/ 407، بدائع الصنائع 2/ 79، البحر الرائق 2/ 278، مراقي الفلاح 1/ 137.
(4)
الكافي 1/ 350، المقدمات 1/ 243، بداية المجتهد 2/ 72، جامع الأمهات ص 178.
(5)
البيان 3/ 560، المجموع 6/ 436، فتح العزيز 6/ 471، أسنى المطالب 1/ 432.
(6)
مسائل أحمد وإسحاق 3/ 1438، الهداية ص 164، المغني 3/ 170، الانصاف 3/ 347.
(7)
المحلى 4/ 440.
(8)
بداية المجتهد 2/ 72.
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام يوم الجمعة، كَتَب الله له عشرة أيام عددهن من أيام الآخرة لا يُشَاكِلُهُنَّ (1) أيام الدنيا» (2).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم رتب هذا الأجر العظيم على من صام يوم الجمعة، ولا يكون هذا إلا تخصيصا منه لهذا اليوم.
الدليل الثاني: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «خمسٌ مَن عَمَلَهُن في يومٍ كتبه الله من أهل الجنة: من صام يوم الجمعة، وراح إلى الجمعة، وشهد جنازة، وأعتق رقبة» (3).
وجه الاستدلال: الحديث ينص على تخصيص يوم الجمعة بأعمال تدخل صاحبها الجنة إذا اجتمعت في هذا اليوم، ومن هذه الأعمال: صيام يوم الجمعة، فدل على جواز تخصيصه بذلك.
الدليل الثالث: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من غُرَّة (4) كل شهر، وقلما يفطر يوم الجمعة» (5).
الدليل الرابع: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر يوم جمعة قط» (6).
الدليل الخامس: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «ما رأيته مفطرا يوم جمعة قط» (7).
(1) المُشاكلة: هي الموافقة، والمعنى لا يشبههن، ولا يضاهيهن. ينظر: مختار الصحاح ص 168، القاموس المحيط ص 1019، وتاج العروس 1/ 322.
(2)
رواه البيهقي في شعب الإيمان 5/ 380 رقم 3579، وفي فضائل الأوقات ص 506 رقم 282، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص 328 رقم 392، وقال الألباني في ضعيف الترغيب 1/ 159 رقم 634:"منكر".
(3)
رواه ابن حبان في صحيحه 7/ 6 رقم 2771، وأبو يعلى في مسنده 2/ 312 رقم 1044، والبيهقي في شعب الإيمان 5/ 380 رقم 3581، وصححه الألباني في الصحيحة 3/ 21 رقم 1023.
(4)
الغُرَّة من الشهر: ليلة استهلال القمر، لبياض أولها، تشبيها بغرة الفرس في جبهته. ويقال لثلاث ليال من الشهر: الغرر والغر، وهي أيام البيض. ينظر: تاج العروس 13/ 222، والنهاية 3/ 354
(5)
رواه الترمذي 3/ 109 رقم 742، أبواب الصوم باب ما جاء في صوم يوم الجمعة، وقال:"حسن غريب"، والنسائي 4/ 204 رقم 2368، في الصوم، صوم النبي صلى الله عليه وسلم، وابن ماجة 1/ 549 رقم 1725، في الصيام باب في صيام يوم الجمعة، وقال الألباني في المشكاة رقم 2058:"حسن".
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 303 رقم 9260، في الصيام من رخص في صوم يوم الجمعة.
(7)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 303 رقم 9259، في الصيام من رخص في صوم يوم الجمعة.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام يوم الجمعة، وقلما كان يفطر فيه؛ فدل على أنه كان يخصه بذلك دون سائر الأيام.
الدليل السادس: قال الإمام مالك: "لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يُقتَدى به، ينهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه كان يتحراه"(1).
الدليل السابع: ولأن الأصل في صوم يوم الجمعة أنه عمل بِرّ، لا يُمنَع منه إلا بدليل لا معارض له (2).
الدليل الثامن: ولأنه يوم لا يُكرَه صومه مع غيره، فلا يُكرَه وحده (3).
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه يكره إفراد يوم الجمعة بالصيام.
الدليل الأول: عن جابر رضي الله عنه أنه سئل: «أَنَهَى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة؟ قال: «نعم» ، يعني: أن ينفرد بصومه» (4).
وجه الاستدلال: نص الحديث أن النهي عن صوم يوم الجمعة محمول على صومه مفردا (5).
الدليل الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم» (6).
وجه الاستدلال: بَيَّن الحديث أن النهي مُنْصَبّ على من خَصّ يوم الجمعة بالصيام، أما من وافق عادة له كصيام داوود عليه السلام فلا حرج في ذلك (7).
(1) الموطأ 3/ 447 رقم 1104.
(2)
ينظر: الاستذكار 3/ 382، وشرح البخاري لابن بطال 4/ 131.
(3)
ينظر الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 450.
(4)
رواه البخاري 3/ 42 رقم 1984، في الصوم باب صوم يوم الجمعة، واللفظ له، ومسلم 2/ 801 رقم 1143، في الصيام باب كراهة صيام يوم الجمعة منفردا.
(5)
ينظر: إحكام الأحكام 2/ 33.
(6)
رواه مسلم 2/ 801 رقم 2684، في الصيام باب كراهة صيام يوم الجمعة منفردا.
(7)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 2/ 652.
الدليل الثالث: عن جُوَيْرِيَة بنت الحارث (1) رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة، فقال: «أصمت أمس» ؟ قالت: لا، قال:«تريدين أن تصومي غدا» ؟ قالت: لا، قال:«فأفطري» (2).
وجه الاستدلال: دَلّ الحديث على كراهة إفراد يوم الجمعة بصيام؛ لأن نهيه صلى الله عليه وسلم معلل بكونها رضي الله عنها لم تَصُم يوم أمس ولا تريد صوم يوم غد، (3).
الدليل الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يصم أحدكم يوم الجمعة، إلا أن يصوم قبله، أو يصوم بعده» (4).
الدليل الخامس: عن بَشِير بن الخَصَاصِيّة (5) رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أصوم يوم الجمعة، ولا أكلم ذلك اليوم أحدا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تَصُم يوم الجمعة إلا في أيام هو أحدها، أو في شهر» (6).
الدليل السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن يوم الجمعة يوم عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم، إلا أن تصوموا قبله أو بعده» (7).
(1) هي: جُوَيْرِيّة بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية، المصطلقية أم المؤمنين، وسيدة قومها، سبيت في غزوة المريسيع سنة 5 هـ، اصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقها وتزوجها، وكانت من أعظم النساء بركة على قومها، توفيت بالمدينة سنة 56 هـ، روى عنها: ابن عباس، وابن عمر، وجابر. ينظر: معرفة الصحابة 6/ 3229، الطبقات الكبرى 8/ 116، تهذيب الكمال 35/ 145.
(2)
رواه البخاري 3/ 42 رقم 1986، في الصوم باب صوم يوم الجمعة.
(3)
ينظر: المغني 3/ 17، ونخب الأفكار 8/ 426.
(4)
رواه البخاري 3/ 42 رقم 1985، في الصوم باب صوم يوم الجمعة، ومسلم 2/ 801 رقم 1144، في الصيام باب كراهة صيام يوم الجمعة منفردا، واللفظ له.
(5)
هو: بَشِير بن معبد، وقيل ابن يزيد بن معبد بن ضباب السدوسي الضبي، المعروف بابن الْخَصَاصِيَّة، صحابي نزل البصرة، كان اسمه زحماً فسماه النبي بشيراً، روى عنه: ليلى المعروفة بالجهدمة -امرأته- ولها صحبة أيضا، وبشير بن نهيك، وجري بن كليب، وغيرهما، ينظر: معرفة الاستيعاب 1/ 173، تهذيب الكمال 4/ 175، وتهذيب التهذيب 1/ 467.
(6)
رواه أحمد 36/ 286 رقم 21955، وقال شعيب الأرنؤوط:"إسناده صحيح"، والطبراني في الكبير 2/ 44 رقم 1232، وصححه الألباني في الصحيحة 6/ 1073 رقم 2945.
(7)
رواه أحمد 13/ 395 رقم 8025، وابن خزيمة 3/ 317 رقم 2165، في الصيام، باب ذكر الدليل على أن النهي عن صوم يوم السبت تطوعا إذا أفرد بصوم. وقال شعيب الأرنؤوط:"إسناده حسن"، وقال الألباني في الضعيفة 11/ 563 رقم 5344:"منكر".
وجه الاستدلال: بينت هذه الأحاديث أن النهي قد وقع على إفراد يوم الجمعة بالصوم، وتخصيصه بذلك، أما إن وافق عادة له كمن كان يصوم يوما ويفطر يوما، أو من أراد صوم هذا اليوم ويوما قبله أو يوما بعده، فلا حرج في ذلك؛ لما سبق من الأدلة.
قال النووي: "وفي هذه الأحاديث الدلالة الظاهرة لقول جمهور أصحاب الشافعي وموافقيهم: أنه يكره إفراد يوم الجمعة بالصوم، إلا أن يوافق عادة له، فإن وصله بيوم قبله أو بعده أو وافق عادة له بأن نذر أن يصوم يوم شفاء مريضه أبدا فوافق يوم الجمعة لم يكره لهذه الأحاديث"(1).
أدلة القول الثالث: القائلين بأنه يحرم إفراد يوم الجمعة بصيام.
استدل أصحاب هذا القول بكل ما استدل به أصحاب القول الثاني إلا أنهم حملوا ذلك كله على نهي التحريم لا نهي الكراهة؛ لأنه الأصل في النهي ولا صارف له إلى الكراهة (2).
الراجح: الذي يترجح والله أعلم هو القول الثالث: أنه يحرم إفراد يوم الجمعة بصيام، إلا إذا صام يوم معه أو وافق عادة له كصيام يوم وفطر يوم؛ وذلك لصحة أدلة النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصيام، والأصل في النهي التحريم، ولا صارف له إلى الكراهة (3).
وأما ما استدل به أصحاب القولين الآخرين فيجاب عنه بما يلي:
أما المجيزون فيجاب عن أدلتهم بالآتي:
أولا: أما استدلالهم بحديث: «من صام يوم الجمعة كتب الله له عشرة أيام
…
» الحديث فيجاب عنه: أنه حديث لا يصح.
ثانيا: وأما استدلالهم بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه فيجاب عنه:
أن المقصود من الحديث أن يوافق صيامه يوم الجمعة، لا أن يخصص يوم الجمعة بصيام، وتبينه الرواية الأخرى بلفظ: «من وافق صيامه يوم الجمعة وعاد مريضا
…
» الحديث (4).
ثالثا: وأما استدلالهم بحديث ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم، فيجاب عنه:
(1) شرح مسلم 8/ 19، وينظر: نيل الأوطار 4/ 297.
(2)
ينظر: مرعاة المفاتيح 7/ 75، والمحلى 4/ 440 - 441.
(3)
ينظر: إرشاد الفحول 1/ 279.
(4)
رواه أبو يعلى في المسند 2/ 312 رقم 1043، وقال الألباني في الصحيحة 3/ 21:"إسناد صحيح".
أن مرادهم كان لا يتعمد صلى الله عليه وسلم فطره إذا وقع في الأيام التي كان يصومها، ولا يضاد ذلك النهي عن إفراده بالصوم؛ جمعا بين الأدلة (1).
رابعا: وأما ما جاء عن الإمام مالك؛ فقد أجيب عنه:
أن ما قاله الإمام مالك هو رأيه، وقد رأى غيره من العلماء خلاف ما رأى هو، والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره، وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة فيتعين القول به. وأجيب أيضا أن الإمام مالك معذور، فلعله لم يبلغه حديث النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصيام، ولو بلغه لم يخالفه (2).
وهذا الكلام الذي أجيب به يكون له وجه قوي لو صح أن الإمام مالك كان يرى جواز تخصيص يوم الجمعة بالصيام، والذي ظهر لي -والله أعلم-: أن قول الإمام مالك ¢ يوافق قول الجمهور: أنه يكره تخصيصه بالصيام، لو تؤمل كلامه؛ فقد قال:"لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن".
فإلى الآن ليس في كلامه ما يدل على أنه يرى جواز تخصيص يوم الجمعة بصيام بل ذكر أن صيامه حسن، وإذا علمت أن الإمام مالك قد نص في المدونة على كراهة تخصيص يوم أو شهر بعينه بصيام، وضحت لك الصورة أنه يعني صيامه إذا وافق عادة له أو إذا انضم معه يوم آخر، ويبين ذلك كله قوله:"وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه كان يتحراه". فذكر أن بعض أهل العلم كان يتحراه ولم يقل إني أحب ذلك ولا نسبه إلى نفسه، ولو كان يستحب ذلك لصدر به الكلام في أول عبارته، والله أعلم (3).
خامسا: وأما قولهم: إن الأصل في صوم يوم الجمعة أنه عمل بر لا يمنع منه إلا بدليل لا معارض له، فيجاب عنه:
أنه قد صح المعارض صحة لا مطعن فيها، وهي الأحاديث التي أورِدَت في أدلة المانعين.
سادسا: وأما قولهم: إنه يوم لا يكره صومه مع غيره فلا يكره وحده، فيجاب عنه:
أن هذا: (قياس فاسد الاعتبار)(4)؛ لأنه منصوب في مقابلة النصوص الصحيحة (5).
(1) ينظر: فتح الباري 4/ 234، نيل الأوطار 4/ 296، نخب الأفكار 8/ 430، وزاد المعاد 1/ 406.
(2)
شرح مسلم للنووي 8/ 19.
(3)
ينظر تقرير ذلك في: شرح الزرقاني للموطأ 2/ 301 - 302، المنتقى 2/ 76، وتهذيب المدونة 1/ 368.
(4)
القياس مع وجود النص: يسمى قياسا فاسد الاعتبار. ينظر: إرشاد الفحول 2/ 93.
(5)
ينظر: نيل الأوطار 4/ 2296.
وأما أصحاب القول الثاني: الذين حملوا النهي على الكراهة فيجاب عن حملهم من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن الأصل في النهي التحريم، فوجب حمله على ذلك، ولا يصرف إلى الكراهة إلا بدليل.
الوجه الثاني: أن ما ورد في آخر حديث جويرية رضي الله عنها: «فأمرها صلى الله عليه وسلم فأفطرت» (1)، لا يُشعِر بأن صيامه مكروه بل محظور، لأنه لو كان مكروها لاكتفى بتوجيهها كما فعل صلى الله عليه وسلم في من صامت يوم السبت ولم تصم يوما قبله، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فكلي فإن صيام يوم السبت لا لك ولا عليك» (2).
الوجه الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن يوم الجمعة يوم عيد؛ والعيد لا يصام: لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا يوم جعله الله عيدا» (3). وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا صوم يوم عيد» (4). ثم استثنى صلى الله عليه وسلم صورتين:
الأولى: صيامه مع غيره ودليلها حديث أبي هريرة رضي الله عنه المرفوع المتقدم: «يوم الجمعة يوم عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده» .
(1) رواه البخاري معلقا 3/ 42 في الصيام باب صوم يوم الجمعة، ووصله الحافظ في تغليق التعليق 3/ 202 - 203.
(2)
رواه أحمد 45/ 8 رقم 27076، عن الصماء بنت بُسْر رضي الله عنها، وقال شعيب الأرناؤوط:"إسناده ضعيف"، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد:"وفيه ابن لهيعة، وفيه كلام"، وقال الألباني في الصحيحة رقم 3101:"فهو إسناد جيد لولا ما في ابن لهيعة من الضعف".
(3)
أخرجه مالك في الموطأ 2/ 88 رقم 213، كتاب الطهارة باب ما جاء في السواك، عن ابن السَّبَّاق، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في جمعة من الجمع، ومن طريقه البيهقي في الكبرى 3/ 345 رقم 5959، من جماع أبواب الهيأة للجمعة باب السنة في التنظيف يوم الجمعة بغسل، وقال:"هذا هو الصحيح مرسل، وقد روي موصولا ولا يصح وصله"، ورواه ابن ماجه 1/ 349 رقم 1098، كتاب إقامة الصلاة باب ما جاء في الزينة يوم الجمعة، عن عبيد بن السباق عن ابن عباس رضي الله عنه ، وصححه الألباني في صحيح الجامع 1/ 449 رقم 2258.
(4)
رواه أحمد في مسنده 18/ 260 رقم 11733، والنسائي في الكبرى 3/ 218 رقم 2803، في الصيام تحريم صيام يوم الفطر ويوم النحر، وابن حبان في صحيحه 8/ 363 رقم 3599، في الزجر عن صوم يوم العيد، ذكر الزجر عن صيام يوم العيد للمسلمين، وقال الأرنؤوط:"إسناده صحيح على شرط مسلم"، وينظر: الإرواء رقم 962.
والثانية: إذا صامه مع صوم كان يصومه كصيام داوود عليه السلام ودليله الحديث المتقدم: «لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم» . إذا وافق عادة له فأذن في صيامه. ويبقى ما عدا ذلك على الأصل وهو التحريم.
والله أعلم.