الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السادس: هل الخصال الثلاثة في كفارة الجماع في رمضان على الترتيب أو على التخيير
؟ (1).
اختيار الشيخ: اختار الترتيب، فقال:"ويترجح الترتيب أيضا بأنه أحوط"(2).
اختلف الفقهاء في من وجبت عليه كفارة الإفطار في رمضان هل تكون خصالها على الترتيب أو على التخيير، على قولين:
القول الأول: أنها على التخيير.
وبه قال: المالكية في المشهور (3)، والحنابلة في رواية (4).
القول الثاني: أنها على الترتيب.
وبه قال: الحنفية (5) ، والمالكية في قول (6)، والشافعية (7) ، والحنابلة في المذهب (8) ، والظاهرية (9)، وهو اختيار الشيخ.
سبب الخلاف: والسبب في اختلافهم تعارض الآثار وتجاذب الاعتبار؛ والمقصود بتعارض الآثار: حديث الأعرابي الذي جامع في رمضان، فقد روي بما يفيد الترتيب، وروي بما يفيد التخيير. والمقصود بتجاذب الاعتبار: هل تقاس كفارة الإطعام في رمضان على كفارة الظهار، أو تقاس على كفارة الأيمان؟ (10).
أدلة القول الأول: القائلين بأنها على التخيير.
(1) المراد بالترتيب: أن لا ينتقل المكلف إلى المؤخَر في الذِكْر إلا بعد العجز عن الذي قبله، وبالتخيير أن يفعل منها ما شاء ابتداء من غير عجز. ينظر: مرعاة المفاتيح 6/ 501.
(2)
المصدر السابق.
(3)
المدونة 2/ 323، الرسالة ص 61، الكافي 1/ 341، التاج والإكليل 3/ 363.
(4)
الهداية ص 160، المغني 3/ 140، المبدع 3/ 35، الإنصاف 3/ 322.
(5)
المبسوط 3/ 71، بدائع الصنائع 5/ 96، البناية 4/ 62، تبيين الحقائق 1/ 328.
(6)
قال به: ابن حبيب. ينظر: إكمال المعلم 4/ 57، ومناهج التحصيل 2/ 146.
(7)
مختصر المزني 8/ 153، الحاوي الكبير 3/ 432، الوسيط 6/ 47، المجموع 6/ 345.
(8)
الهداية ص 160، متن الخرقي ص 50، الكافي 1/ 447، الإنصاف 3/ 322.
(9)
المحلى 4/ 328.
(10)
ينظر: مناهج التحصيل 2/ 146، وبداية المجتهد 2/ 67.
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا أفطر في رمضان، أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين، أو يطعم ستين مسكينا (1).
وجه الاستدلال: أن الحديث جاء على التخيير؛ إذ موضوعية (أو) في كلام العرب للتخيير في غالب الاستعمال (2).
الدليل الثاني: ولأنها كفارة وجبت من غير عمد ولا إتلاف، فكانت على التخيير؛ أصله كفارة اليمين (3).
الدليل الثالث: ولأنها تجب بالمخالفة، فكانت على التخيير؛ ككفارة اليمين (4).
أدلة القول الثاني: القائلين بأنها على الترتيب.
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت. قال: «وما شأنك؟ » قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال:«تستطيع تعتق رقبة» قال: لا. قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين» قال: لا. قال: «فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا» قال: لا. قال: «اجلس» فجلس، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر -والعرق المكتل الضخم- قال:«خذ هذا فتصدق به» قال: أعلى أفقر منا؟ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، قال:«أطعمه عيالك» (5).
وجه الاستدلال: أن استفهام النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الترتيب يوجب ترتيب الإيجاب في الكفارة على حسب ما وقع في السؤال ويكون ذلك كالكفارة في الظهار (6).
قال ابن دقيق العيد: "واستُدِلّ على الترتيب في الوجوب بالترتيب في السؤال، وقوله أولا: «هل تجد رقبة تعتقها»؟ ثم رتب الصوم بعد العتق، ثم الإطعام بعد الصوم"(7).
(1) سبق تخريجه صفحة (379).
(2)
ينظر: مناهج التحصيل 2/ 146، والمعونة ص 478، والمغني 3/ 140.
(3)
ينظر: المعونة ص 478.
(4)
ينظر: المغني 3/ 140.
(5)
سبق تخريجه صفحة (363).
(6)
ينظر: المعلم 2/ 53، وفتح الباري 4/ 167.
(7)
إحكام الأحكام 2/ 15، وينظر: تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة 1/ 498، شرح المشكاه للطيبي 5/ 1592، وفتح الباري 4/ 167.
الدليل الثاني: ولأن الترتيب زيادة، والأخذ بالزيادة متعين (1).
الدليل الثالث: ولأنها كفارة فيها صوم شهرين متتابعين، فكانت على الترتيب؛ ككفارة الظهار والقتل (2).
الدليل الرابع: ولأنها إذا وجبت على المظاهر على وجه الترتيب، فعلى المجامع في رمضان أولى؛ لأن ذنب المُجامِع أعظم؛ وذلك أن التحريم في الظهار ثبت بقول المكلف، وهنا ثبت بتحريم الله ابتداءً (3).
الدليل الخامس: ولأن الكفارات في الشرع نوعان: نوع بدئ فيه بالأغلظ فكان الترتيب فيه واجبا، مثل كفارة الظهار والقتل، فقد بدئ فيها بالعتق. ونوع بدئ فيه بالأخف، فكان التخيير فيه مستحقا مثل كفارة اليمين بدئ فيها بالإطعام. ثم وجدنا كفارة الجماع بدئ فيها بالأغلظ، وهو العتق؛ فوجب أن يكون الترتيب فيها مستحقا (4).
الدليل السادس: ولأنه إمساكٌ عن محظوراتٍ تجب بالوطء، وجَب فيه الكفارة؛ فكانت على الترتيب؛ ككفارة المجامع في إحرامه (5).
الراجح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الثاني: أن الكفارة على الترتيب؛ وذلك لوجوه:
الوجه الأول: أن رواية الترتيب في حديث الأعرابي مُرجَحة على رواية التخيير؛ وذلك لما يلي:
أولا: لأن الذين رووا الترتيب أكثر ممن روى التخيير، فإن الذين رووا الترتيب هم تمام ثلاثين نفسا أو أزيد (6).
ثانيا: ولأن راوي الترتيب حكى لفظ القصة على وجهها، فمعه زيادة علم من صورة الواقعة، وراوي التخيير حكى لفظ راوي الحديث، فدل على أنه من تَصرُّف بعض الرواة، إما لقصد الاختصار أو لغير ذلك (7).
(1) ينظر: المغني 3/ 141.
(2)
ينظر: المغني 3/ 141، وينظر: المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 1/ 260.
(3)
ينظر: شرح عمدة الفقه كتاب الصيام 1/ 295 - 296.
(4)
ينظر: الحاوي الكبير 3/ 432 - 433.
(5)
ينظر: شرح عمدة الفقه كتاب الصيام 1/ 296.
(6)
ينظر: المجموع 6/ 293، فتح الباري 4/ 167، عمدة القاري 11/ 34، نيل الأوطار 4/ 255.
(7)
ينظر: فتح الباري 4/ 167 - 168، والتوضيح لابن الملقن 13/ 267.
ثالثا: أن الأخذ بحديث الترتيب متضمن العمل بالحديث الآخر؛ لأنه يفسره ويبين المراد منه، والعمل بحديث التخيير لا يتضمن العمل بحديث الترتيب، ولا ريب أن العمل بالنصين أولى (1).
رابعا: ولأن الترتيب أحوط؛ لأن الأخذ به مجزء، وإن قيل بجواز التخيير، بخلاف العكس (2).
خامسا: أن حرف (أو) وإن كان ظاهرا في التخيير فليس بنص فيه، وقوله صلى الله عليه وسلم:«هل تستطيع» صريح في الترتيب؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يُجِز له الانتقال إلى الثاني إلا بعد إخباره بعجزه عما قبله، مع أنه صريح لفظ صاحب الشرع (3).
الوجه الثاني: أن كفارة الجماع في رمضان أشبه بكفارة الظهار والقتل منها بكفارة اليمين (4)؛ لاشتراط تتابع الصيام في كفارة الجماع في رمضان وفي كفارة الظِهار والقتل، بخلاف كفارة اليمين فإنه لا يشترط تتابع الصيام فيها.
قال ابن القيم: "قد رأينا صاحب الشرع جعل نظير هذه الكفارة سواء على الترتيب، وهي كفارة الظهار، وحكم النظير حكم نظيره. ولا ريب أن إلحاق كفارة الجماع في رمضان بكفارة الظهار وكفارة القتل، أولى وأشبه من إلحاقها بكفارة اليمين"(5). والله أعلم.
(1) ينظر: حاشية ابن القيم على سنن أبي داوود 7/ 18.
(2)
ينظر: فتح الباري 4/ 168، شرح عمدة الفقه كتاب الصيام 1/ 295، والتوضيح لابن الملقن 13/ 267، ومرعاة المفاتيح 6/ 501.
(3)
ينظر: حاشية ابن القيم على سنن أبي داوود 7/ 18.
(4)
ينظر: مناهج التحصيل 2/ 146، وبداية المجتهد 2/ 67، والذخيرة 2/ 526.
(5)
حاشية ابن القيم على سنن أبي داوود 7/ 19.