الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب التاسع: حكم الإفطار في صوم النافلة
.
اختيار الشيخ: اختار جواز الإفطار لمن كان قد شرع في صيام النافلة، فقال: "ويدل على ما ذهب إليه الجمهور من جواز الإفطار، وعدم وجوب القضاء، حديث أبي جُحَيفة (1)
…
" (2).
تحرير محل الخلاف: اتفق الفقهاء أن من دخل في صيام واجب كقضاء رمضان، أو صيام النذر، أو الكفارة، لم يجز له الخروج منه (3).
واختلفوا في من شرع في صيام التطوع، هل له أن يفطر؟ على قولين:
القول الأول: يجوز له فطر ذلك اليوم، والمستحب له إتمام صومه.
وبه قال: الشافعية (4) ، والحنابلة (5)، والظاهرية (6)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: يَحرُم عليه فطر ذلك اليوم.
وبه قال: الحنفية (7)، والمالكية (8).
سبب الخلاف: قال ابن رشد: "والسبب في اختلافهم: اختلاف الآثار في ذلك"(9).
أدلة القول الأول: القائلين بأنه يجوز له فطر ذلك اليوم، والمستحب له إتمام صومه.
الدليل الأول: قوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} (10).
وجه الاستدلال: أن المتطوع بالصيام محسن، فإن ألزمناه بالاستمرار وأوقعنا عليه الإثم جعلنا عليه سبيلا، وهو منتفي عنه (11).
(1) سيأتي تخريجه صفحة (464).
(2)
مرعاة المفاتيح 7/ 105.
(3)
البناية 10/ 162، الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 449، المجموع 3/ 74، المغني 3/ 160.
(4)
الحاوي الكبير 3/ 468، المجموع 6/ 394، فتح العزيز 6/ 464، تحفة المحتاج 3/ 460.
(5)
المغني 3/ 159، الهداية ص 165، الفروع 5/ 114، المبدع 3/ 54.
(6)
المحلى 4/ 417.
(7)
المبسوط 3/ 68، الاختيار في تعليل المختار 1/ 66، البناية 4/ 87، تبيين الحقائق 1/ 337.
(8)
البيان والتحصيل 18/ 91، بداية المجتهد 2/ 74، الذخيرة 2/ 528، مواهب الجليل 2/ 430.
(9)
بداية المجتهد 2/ 74.
(10)
سورة التوبة: آية: 91.
(11)
ينظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 3/ 65، البناية 4/ 88.
الدليل الثاني: عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال:«هل عندكم شيء؟ » ، فقلنا: لا، قال:«فإني إذن صائم» ، ثم أتانا يوما آخر فقلنا: يا رسول الله أُهدِي لنا حيس، فقال:«أَرينيه فلقد أصبحت صائما فأكل» (1).
وجه الاستدلال: أن إفطار النبي صلى الله عليه وسلم في صيام النفل بعد أن كان قد شرع فيه، دليل على أن إتمامه غير لازم (2).
قال ابن تيمية: "فهذا نص في جواز الإفطار بعد إجماع الصيام"(3).
الدليل الثالث: عن أبي جُحَيْفة (4) رضي الله عنه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان (5) وأبي الدرداء رضي الله عنهما، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء مُتَبَذِّلَة (6)، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما، فقال: كل فإني صائم، فقال: ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام ثم ذهب يقوم، فقال: نم؛ فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«صدق سلمان» (7).
(1) سبق تخريجه صفحة (183).
(2)
ينظر: معالم السنن 2/ 134.
(3)
شرح العمدة كتاب الصيام 2/ 622.
(4)
هو: وهب بن عبد الله بن مسلم بن جنادة، أبو جُحَيْفَةَ السُّوَائِيّ، ويقال له: وهب الخير، من صغار الصحابة، روى عنه: ابنه عون، وسلمة بن كهيل، والشعبي، وغيرهم، سكن الكوفة وولي بيت المال والشرطة لعلي، توفي سنة 64 هـ. ينظر: معرفة الصحابة 5/ 2722، وتهذيب التهذيب 11/ 164، سير أعلام النبلاء 3/ 202.
(5)
هو: سلمان الفارسي، أبو عبد الله، صحابي جليل يعرف بسلمان الخير، أصله من فارس من رامهرمز، ولإسلامه قصة مشهورة، وهو صاحب فكرة حفر الخندق حول المدينة. توفي سنة 36 هـ. ينظر: الاستيعاب 2/ 634، الإصابة 3/ 118، تهذيب الكمال 11/ 245.
(6)
التَبَذّل: ترك التزين والتهيؤ بالهيئة الحسنة الجميلة على جهة التواضع. ينظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 111، لسان العرب 11/ 50.
(7)
رواه البخاري 3/ 38 رقم 1968، كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع، ولم ير عليه قضاء إذا كان أوفق له.
وجه الاستدلال: الحديث صريح في جواز الإفطار للصائم المتنفل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد صوب قول سلمان ¢ في إفطار الصائم المتطوع ولم ينكره، ولم يبين لأبي الدرداء ¢ وجوب القضاء عليه؛ وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز (1).
الدليل الرابع: عن أمّ هَانِئ (2) رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب شرابا، فناولها لتشرب، فقالت: إني صائمة، ولكن كرهت أن أرد سُؤْرَكَ (3)، فقال، يعني:«إن كان قضاء من رمضان فاقضي يوما مكانه، وإن كان تطوعا فإن شئت فاقضي، وإن شئت فلا تقضي» (4).
وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصائم المتطوع أمين نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر» (5).
وجه الاستدلال: الحديث يدل على جواز الفطر لمن أصبح صائما (6).
الدليل الخامس: عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما، فأتاني هو وأصحابه، فلما وُضِع الطعام قال رجل من القوم: إني صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«دعاكم أخوكم وتكلف لكم» ، ثم قال له:«أفطر، وصم مكانه يوما إن شئت» (7).
(1) ينظر: المحلى 4/ 418، نيل الأوطار 4/ 306، وتحفة الأحوذي 3/ 359.
(2)
هي: أم هانئ بنت أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمية، أخت علي بن أبى طالب، اسمها فاختة، وقيل هند، أسلمت عام الفتح، وهرب زوجها هبيرة بن عمرو المخزومي إلى نجران، خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتزوجها، روت 46 حديثا، روى عنها: ابن عباس، ومجاهد، والشعبي، وآخرون، توفيت في خلافة معاوية. ينظر: الإصابة 8/ 485، الاستيعاب 4/ 1963، سير أعلام النبلاء 2/ 311.
(3)
السُّؤر، بالضم: البقية من كل شيء. ينظر: النهاية 2/ 327، تاج العروس 11/ 483.
(4)
رواه أحمد 44/ 478 رقم 26910، واللفظ له، وقال شعيب الأرناؤوط:"إسناده ضعيف"، وأبو داود 2/ 329 رقم 2456، في الصوم باب في الرخصة في ذلك، والترمذي 3/ 100 رقم 731، أبواب الصيام باب ما جاء في إفطار الصائم المتطوع، والنسائي في الكبرى 3/ 366 رقم 3291، وقال الألباني في الصحيحة 6/ 717:"وقد انتهيت فيه إلى تحسين الحديث أو تصحيحه لطرقه".
(5)
رواه أحمد 44/ 463 رقم 26893، والترمذي 3/ 100 رقم 732، أبواب الصيام، باب ما جاء في إفطار الصائم المتطوع، وقال:"حديث أم هانئ في إسناده مقال"، والنسائي في الكبرى 3/ 365 رقم 3288. وقال الألباني في صحيح أبي داود 7/ 218:"إن مجموع ذلك مما يتقوى به الحديث".
(6)
ينظر: المجموع 6/ 395، شرح العمدة كتاب الصيام 2/ 621، شرح الزركشي 2/ 618.
(7)
رواه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 462 رقم 8362، في الصيام باب التخيير في القضاء إن كان صومه تطوعا، والطبراني في المعجم الأوسط 3/ 306 رقم 3240، والدارقطني في السنن 3/ 140 رقم 2239، بسند حسنه ابن حجر في الفتح 4/ 170، ووافقه الألباني في الإرواء رقم 1952.
وجه الاستدلال: لو كان إتمام صيام النفل واجبا على من شرع فيه، لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصحابي بالفطر.
قال الشوكاني -بعد أن ذكر حديث أبي جُحَيْفة، وأم هانئ، وعائشة، وأبي سعيد رضي الله عنهم:"والأحاديث المذكورة في الباب تدل على أنه يجوز لمن صام تطوعا أن يفطر؛ لا سيما إذا كان في دعوة إلى طعام أحد من المسلمين. ويدل على أنه يستحب للمتطوع القضاء لذلك اليوم"(1).
الدليل السادس: ولأن المتنفل متبرع بما ليس عليه، فلا يلزمه ما لم يتبرع به، ولكنه مخير في آخره كما كان مخيرا في أوله (2).
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه يحرم عليه فطر ذلك اليوم.
الدليل الأول: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (3).
وجه الاستدلال: أن من أفطر متعمدا بعد دخوله في الصوم، فقد أبطل عمله (4).
والنهي عن الإبطال يوجب الإتمام، فلزمه إتمام ذلك اليوم (5).
الدليل الثاني: عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أنا وحفصة صائمتين، فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فبدرتني إليه حفصة، وكانت ابنة أبيها، قالت: يا رسول الله إنا كنا صائمتين اليوم، فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه، فقال:«اقضيا يوما آخر» (6).
وجه الاستدلال: لو كان الفطر مباحا لم يلزمهما القضاء (7).
(1) نيل الأوطار 4/ 306.
(2)
ينظر: الاصطلام في الخلاف بين الإمامين الشافعي وأبي حنيفة 2/ 203 - 204.
(3)
سورة محمد: الآية: 33.
(4)
ينظر: المبسوط للسرخسي 3/ 69، التوضيح لابن الملقن 13/ 426.
(5)
ينظر: البناية للعيني 4/ 88، والذخيرة 2/ 528.
(6)
رواه أحمد 43/ 306 رقم 26266، واللفظ له، والنسائي في الكبرى 3/ 362 رقم 3278، والترمذي 3/ 103 رقم 735، في الصيام باب ما جاء في إيجاب القضاء عليه، ومالك في الموطأ ص 306 رقم 50، باب قضاء التطوع، وضعفه الألباني في الضعيفة 11/ 838 رقم 5480.
(7)
ينظر: الفواكه الدواني 1/ 307، المبسوط للسرخسي 3/ 69 - 70.
قال العيْني: "أَمَرَ بالقضاء، والأمر للوجوب؛ فدل على أن الشروع ملزم، وأن القضاء بالإفساد واجب (1).
الدليل الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه» (2).
وجه الاستدلال: في الحديث دليل على عدم جواز إفطار الصائم المتطوع؛ وذلك: لأن نهي النبي صلى الله عليه وسلم المرأة عن الصيام بغير إذن زوجها بسبب أنها غير مأذون لها في الفطر لو أرادها زوجها لحاجته، كما أنه منهي عن تفطيرها (3).
قال ابن بَطّال (4): "لأنه لو كان للرجل أن يفسد عليها صومها بجماع، ما احتاجت إلى إذنه، ولو كان مباحا كان إذنه لا معنى له"(5).
الدليل الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دُعِيَ أحدكم فليُجِب، فإن كان صائما فليُصَلّ (6)، وإن كان مفطِرا فليَطْعَم» (7).
وجه الاستدلال: الحديث دليل على أن الفطر للصائم المتطوع غير جائز؛ لأنه لو كان جائزا لبينه صلى الله عليه وسلم ، ولاستحبه في الدعوة (8).
الدليل الخامس: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يسأله عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«خمس صلوات في اليوم والليلة» ، فقال: هل علي غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وصيام شهر رمضان» ، قال: هل علي غيره؟ قال: «لا، إلا أن تطوع» ، قال:
(1) عمدة القاري 1/ 268.
(2)
رواه البخاري 7/ 30 رقم 5195، كتاب النكاح باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه، ومسلم 2/ 711 رقم 1026، في الزكاة باب ما أنفق العبد من مال مولاه.
(3)
ينظر: البيان والتحصيل 2/ 316.
(4)
هو: علي بن خَلَف بن عبد الملك بن بَطَّال، أبو الحسن القرطبي، من علماء الحديث، فقيه مالكي، وبنو بطال في الأندلس يمانيون. توفي سنة 449 هـ، من كتبه: شرح صحيح البخاري. ينظر: ترتيب المدارك 8/ 160، سير أعلام النبلاء 13/ 303، الديباج المذهب ص 204.
(5)
شرح البخاري 7/ 316، وينظر: التوضيح لابن الملقن 25/ 12، وإرشاد الساري 8/ 96.
(6)
معناه: فليدع لأهل الطعام بالمغفرة والبركة ونحو ذلك. ينظر: الديباج على صحيح مسلم 4/ 44.
(7)
رواه مسلم 2/ 1054 رقم 1431، كتاب النكاح باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة.
(8)
ينظر: الاستذكار 3/ 358.
وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال: هل علي غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع» ، فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا، ولا أنقص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أفلح إن صدق» (1).
وجه الاستدلال: الحديث دل على أن الشروع في التطوع يوجب إتمامه؛ لأن الاستثناء فيه متصل، ويكون المعنى: ليس عليك غير ما ذُكِر، إلا أن تَشرَع في التطوع وتَبتَدئه فيجب عليك إتمامه (2).
الدليل السادس: ولأنه باشرَ فِعلَ قربةٍ مقصودة، فيجب عليه إتمامها؛ قياسا على الحج إذا شرع فيه متطوعا، فإنه يجب عليه الإتمام اتفاقا (3).
الترجيح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الأول: أنه يجوز الفطر لمن كان قد شرع في صيام النفل؛ وذلك لصحة ما استدلوا به؛ وحديث سلمان مع أبي الدرداء رضي الله عنهما صريح في جواز إفطار الصائم المتنفل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد صَوَّب قول سلمان ¢ في إفطار الصائم المتطوع، ولم يُنكِره، ولأن الشريعة كلها إما فرض، وإما تطوع، وليس هناك قسم ثالث. فالفرض هو الذي يعصي من تَرَكَه، والتطوع هو الذي لا يعصي من تَرَكه، ولو عصى لكان فرضا. والمُفَرِّط في التطوع تارك ما لا يجب عليه؛ فلا حَرَج عليه في ذلك (4).
وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما استدلالهم بالآية فيجاب عنه من وجهين:
الأول: أن الآية عامةٌ، والأدلة التي ثبت بها جواز الفطر للصائم المتطوع خاصةٌ، كحديث سلمان مع أبي الدرداء رضي الله عنهما ونحوه؛ والخاصُ يُقدَّم على العام (5).
الثاني: أن المراد في الآية بالإبطال هو إبطالُها في الآخرة بالرياء والسمعة، أو بارتكاب الكبائر، وليس الإبطال المُراد عند الفقهاء عند ذِكرهم المسائل الفقهية (6).
(1) رواه البخاري 1/ 18 رقم 46، كتاب الإيمان باب الزكاة من الإسلام، ومسلم 1/ 40 رقم 11، كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام.
(2)
ينظر: شرح الزرقاني على الموطأ 1/ 605، الذخيرة 2/ 529، فتح الباري 1/ 107.
(3)
ينظر: المبسوط للسرخسي 3/ 69، والذخيرة 2/ 528.
(4)
ينظر: المحلى 4/ 417.
(5)
ينظر: فتح الباري 4/ 213.
(6)
ينظر: الاستذكار 3/ 358، فتح الباري 4/ 213، عمدة القاري 11/ 77.
ثانيا: وأما استدلالهم بحديث إفطار عائشة وحفصة رضي الله عنهما في صيام النفل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهما بالقضاء، فيجاب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أن الثقات قد اتفقوا على إرسال هذا الحديث، وشَذَّ من وصله، وتَوارَد الحُفّاظ على الحكم بضعفه (1)، فلا حجة فيه.
الوجه الثاني: وعلى فرض صحته: يُحمَل أَمرُه صلى الله عليه وسلم لهما بالقضاء على الندب؛ وذلك لأمرين:
الأول: لأن بدل الشيء في أكثر أحكام الأصول يَحلّ مَحَلّ أصله، وهو في الأصل -الذي هو في مسألتنا صيام النفل-، مُخيَّر، فيكون كذلك في البدل الذي هو قضاء ذلك اليوم (2).
الثاني: أن في بعض روايات هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «لا عليكما، صوما مكانه يوما» (3). فقوله صلى الله عليه وسلم: «لا عليكما» ، أي: لا بأس عليكما؛ ولو كان الفطر حراما والقضاء واجبا، لكان عليهما بأس (4).
ثالثا: وأما استدلالهم بحديث «لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه» ، فيجاب عنه:
أنه قد جاء في سبب ورود الحديث: «أن امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن زوجي صَفْوان بن المُعَطَّل (5)، يضربني إذا صليت، ويُفطِّرني إذا صمت، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس
…
وفيه: وأما قولها: يُفَطِّرني، فإنها تنطلق فتصوم، وأنا رجل شاب، فلا أصبِر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ:«لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها»
…
» (6).
فلم يأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقضاء تلك الأيام التي أفطرتها، ولم يأمر زوجها بأن لا يُفَطِّرها.
(1) ينظر: فتح الباري 4/ 212، ونيل الأوطار 4/ 306، وتحفة الأحوذي 3/ 359.
(2)
ينظر: معالم السنن 2/ 136، وتحفة الأبرار 1/ 510، وشرح المشكاة للطيبي 5/ 1619.
(3)
رواه أبو داود 2/ 330 رقم 2457، في الصوم، باب من رأى عليه القضاء، وقال الألباني في السلسلة الضعيفة 11/ 332 رقم 5202:"ضعيف".
(4)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 2/ 628، وشرح الزركشي 2/ 620.
(5)
هو: صَفْوَانُ بنُ المُعَطَّلِ بن رَحَضَةَ السّلمي الذَّكْوانيّ، أبو عمرو صحابي، شهد الخندق والمشاهد كلها، وحضر فتح دمشق، واستشهد بأرمينية، وقيل في سُمَيْساط. وهو الّذي قال أهل الإفك فيه وفي عائشة ما قالوا. ينظر: الاستيعاب 2/ 725، الإصابة 3/ 356، سير أعلام النبلاء 2/ 547.
(6)
رواه أبو داود 2/ 330 رقم 2459، في الصوم، باب المرأة تصوم بغير إذن زوجها، وابن حبان في صحيحه 4/ 354 رقم 1488، ذكر الأمر بالصلاة للنائم إذا استيقظ عند استيقاظه، وقال الألباني في إرواء الغليل 7/ 65:"صحيح على شرط الشيخين".
وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم المرأة ألا تصوم إلا بإذن زوجها؛ لأن الزوج يَهاب انتهاك الصوم بالإفساد وإن كان مستحبا، فيكون صومها مانعا له من الاستمتاع (1)؛ وحق الزوج في الاستمتاع واجب عليها.
رابعا: وأما استدلالهم بحديث: «إذا دُعِيَ أحدكم فليُجِب
…
» الحديث، فيجاب عنه من وجهين:
الأول: ليس في الحديث أن الصيام صيام نفل أو صيام فرض؛ لأنه لو كان فرضا لم يجز له الأكل؛ لأن الفرض لا يجوز الخروج منه (2)، وإنما دل الحديث على لزوم إجابة الدعوة وإن كان المدعو إليها صائما.
الثاني: وعلى التسليم بأن المقصود صيام النفل، فليس في الحديث إلزام الصائم بالبقاء على صومه، وإنما جعل له ذلك إن أراده، وإما إن أراد أن يفطر فلا حرج عليه، وحديث أبي سعيد ¢ السابق يدل عليه.
بل جاء ذلك صريحا في بعض روايات الحديث: عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دُعِي إلى طعام وهو صائم فليجب، فإن شاء طعم، وإن شاء ترك» (3).
خامسا: وأما استدلالهم بحديث الأعرابي الذي جاء يسأل عن شرائع الإسلام، فيجاب عنه:
أن القول بأن الاستثناء في الحديث متصل غير صحيح؛ وذلك لأن المستثنى من غير جنس المستثنى منه؛ لأن التطوع لا يقال فيه عليك، فكأنه قال: لا يجب عليك شيء إلا إن أردت أن تطوع فذلك لك. وقد عُلِم أن التطوع ليس بواجب، فلا يجب شيء آخر أصلا (4).
سادسا: وأما قياسهم الصيام على الحج فيجاب عنه:
أن الحج امتاز عن غيره بلزوم المضي في فاسده، فكيف في صحيحه. وكذلك امتاز بلزوم الكفارة في نفله كفَرضه (5). والله أعلم.
(1) ينظر: طرح التثريب 4/ 141.
(2)
ينظر: شرح مسلم للنووي 9/ 236.
(3)
رواه مسلم 2/ 1054 رقم 1430، في النكاح، باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة، وابن ماجه 1/ 557 رقم 1751، في الصيام، باب من دعي إلى طعام وهو صائم، واللفظ له.
(4)
ينظر: شرح المشكاة للطيبي 2/ 459، فتح الباري 1/ 107، وعمدة القاري 1/ 268.
(5)
ينظر: فتح الباري 1/ 107، الحاوي الكبير 3/ 470.