الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: ما الصوم الذي يصام عن الميت
؟ .
اختيار الشيخ: اختار أنه يقضى عن الميت جميع ما وجب عليه من صيام، فقال عن حديث ابن عباس -الذي فيه صيام النذر-، وحديث عائشة -الذي فيه مطلق الصيام-:"وفيه أنه ليس بين الحديثين تعارض حتى يجمع بينهما، فحديث ابن عباس صورة مستقلة سأل عنها من وقعت له. وأما حديث عائشة فهو تقرير قاعدة عامة"(1).
تحرير المسألة: جاء في المسألة السابقة أن العلماء اختلفوا: هل يقضى الصوم عن الميت أو لا يقضى؟ على قولين، والذين أجازوا قضاء الصوم عن الميت اختلفوا في نوع الصوم الذي يقضى عنه على قولين:
القول الأول: يقضى عن الميت جميع ما وجب عليه من صيام، سواء كان قضاء رمضان أو نذر، أو كفارات.
وبه قال: الشافعي في القديم (2) ، والظاهرية (3) ، وأبو ثور (4)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: يقضى عنه النذر فقط ويطعم عنه في ما سواه.
وبه قال: الحنابلة (5).
سبب الخلاف: والسبب في اختلافهم والله أعلم هو اختلافهم في المقصود من الصوم الذي يقضى عن الميت الوارد في الأحاديث التي ستأتي معنى في الأدلة إن شاء الله.
أدلة القول الأول: القائلين بأنه يقضى عن الميت جميع ما وجب عليه من صيام، سواء كان قضاء رمضان أو نذر أو كفارات.
الدليل الأول: عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من مات وعليه صيام صام عنه وليه» (6).
(1) مرعاة المفاتيح 7/ 31. وسيأتي حديث عائشة ص 593، وحديث ابن عباس ص 595.
(2)
المجموع 6/ 370، منهاج الطالبين ص 77، النجم الوهاج 3/ 335، مغني المحتاج 2/ 172.
(3)
المحلى 4/ 420.
(4)
التمهيد 9/ 28، الاستذكار 3/ 341، والمحلى 4/ 420، مختصر اختلاف العلماء 2/ 46.
(5)
مسائل أحمد رواية صالح 2/ 189، المغني 3/ 153، شرح الروض المربع 3/ 440.
(6)
سبق تخريجه صفحة (586).
وجه الاستدلال: في قوله: «وعليه صيام» نكرة في سياق الشرط، فيعُمّ كلّ صيام (1)، من صوم رمضان، أو صوم نذر، أو صوم كفارة، أو غير ذلك (2).
الدليل الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ فقال:«لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها» ؟ قال: نعم. قال: «فدين الله أحق أن يقضى» (3).
وجه الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الحكم غير مقيد، بعد سؤال السائل مطلقا عن واقعة يحتمل أن يكون وجوب الصوم فيها عن نذر، ويحتمل أن يكون عن غيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أجاب بلفظ غير مقيد عن سؤال وقع عن صورة محتملة أن يكون الحكم فيها مختلفا، فيتعين أن يكون الحكم شاملا للصور كلها، وهو ما يعبر عنه في أصول الفقه بقولهم: ترك الاستفصال عن قضايا الأحوال، مع قيام الاحتمال منزل منزلة العموم في المقال.
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم علّل قضاء الصوم بعلة عامة للنذر وغيره، وهو كونه عليها، وقاسه على الدين، وهذه العلة -كونها حقا واجبا- لا تختص بالنذر، والحكم يعم بعموم علته (4).
الدليل الثالث: عن بُرَيْدة رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم أفأصوم عنها؟ ، قال:«نعم» (5).
وجه الاستدلال: أن قول المرأة في الحديث: (وعليها صوم) مطلق يشمل جميع ما وجب عليها من صيام: كرمضان، والنذر، وغير ذلك (6).
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه يقضى عنه النذر فقط ويطعم عنه في ما سواه.
يستدل أصحاب هذا القول على مذهبهم من جهتين:
(1) تنظر القاعدة الأصولية في: التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للأسنوي ص: 324، والتحبير شرح التحرير للمرداوي 5/ 2435.
(2)
ينظر: نيل الأوطار 4/ 279، سبل السلام 1/ 580، التمهيد 9/ 28.
(3)
سبق تخريجه صفحة (589).
(4)
يُنظر الوجهان في إحكام الأحكام 2/ 25.
(5)
سبق تخريجه صفحة (589).
(6)
ينظر: حاشية السندي على ابن ماجه 1/ 535، والمحلى 4/ 421.
الجهة الأولى: أدلتهم على أن أولياء الميت لا يُشرَع لهم صيام القضاء والكفارات عن ميتهم، وإنما يُطعِمون عنه. وهي نفسها أدلة القائلين بأنه لا يشرع صيام الأولياء عن ميتهم مطلقا وإنما يُطعم عنه وقد تقدّمَت في المسألة السابقة.
الجهة الثانية: أدلتهم على جواز صيام النذر عن الميت وهي كالتالي:
الدليل الأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال:«أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته، أكان يؤدي ذلك عنها» قالت: نعم؛ قال: «فصومي عن أمك» (1).
وجه الاستدلال: أن الحديث جاء نصا صريحا في قضاء صوم النذر عن الميت، فيجب المصير إليه. ويحمل ما جاء مطلقا في الروايات الأخرى على ما جاء مفسرا في هذه الرواية.
الدليل الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «إذا مرض الرجل في رمضان، ثم مات ولم يصم أُطعِم عنه، ولم يكن عليه قضاء، وإن كان عليه نذر قضى عنه وليه» (2).
وجه الاستدلال: أن تفصيل ابن عباس رضي الله عنهما بأن الإطعام عن الميت يكون في قضاء رمضان، والصيام عنه يكون في النذر، دليل على أن المقصود من الحديث المرفوع صيام النذر عن الميت دون غيره من الواجبات؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما هو راوي الحديث وهو أعلم بتأويله (3).
الدليل الثالث: ولأن حديث عائشة رضي الله عنها مطلق وحديث ابن عباس رضي الله عنهما مقيد فيحمل عليه، ويكون المراد بالصيام صيام النذر (4).
الدليل الرابع: ولأن النيابة تدخل في العبادة بحسب خفتها، والنذر أخف حكما؛ لكونه لم يجب بأصل الشرع، وإنما أوجبه الناذر على نفسه، ولهذا جازت النيابة في النذر دون غيره (5).
(1) أخرجه البخاري 4/ 227 رقم 1953، في الصوم باب من مات وعليه صوم، ومسلم 2/ 804 رقم 1148، في الصيام باب قضاء الصيام عن الميت، واللفظ له.
(2)
أخرجه أبو داود 2/ 315 رقم 2401، في الصوم باب فيمن مات وعليه صيام، وابن أبي شيبة في المصنف 3/ 113 رقم 12598، في الأيمان والنذور باب: من مات وعليه نذر، وقال الألباني في صحيح أبي داود 7/ 163 رقم 2078:"إسناده صحيح على شرط الشيخين".
(3)
ينظر: الفروع 5/ 66، التمهيد 9/ 28، وشرح العمدة كتاب الصيام 1/ 365.
(4)
ينظر: شرح الزركشي 2/ 608، نيل الأوطار 4/ 280.
(5)
ينظر: المغني 3/ 153.
الترجيح: الذي يترجح في هذه المسألة -والله أعلم- هو القول الأول: القاضي بصحة الصيام عن الميت فيما وجب في ذمته، من صوم واجب؛ سواء أكان قضاء من رمضان، أو كفارة، أو نذر؛ وذلك لما يلي:
الأول: قوة أدلته، حيث جاءت أدلته نصية صريحة في الدلالة على صحة النيابة عن الميت في الصوم مطلقا، وبألفاظ لا تحتمل غير ذلك؛ نحو قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها:«من مات وعليه صوم صام عنه وليه» ، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قوله للرجل الذي سأل عن صوم شهر كان على أمه، وقد ماتت؛ فقال صلى الله عليه وسلم:«فدين الله أحق أن يقضى» .
الثاني: ضعف ما استدل به أصحاب القول الثاني وبيانه كما يلي:
أولا: أما قولهم في حديث ابن عباس: إنه جاء نصا صريحا في قضاء صوم النذر عن الميت، فيجب المصير إليه، ويحمل ما جاء مجملا في الروايات الأخرى على ما جاء مفسرا في هذه الرواية، فيجاب عنه:
أنهما واقعتان لرجل وامرأة، فهما حديثان مختلفان، لا روايتان لحديث واحد حتى يحمل المجمل على المفسر، فتبقى كل منهما على مدلولها، ولا تقيد الأولى بالثانية، بل تبقى على عمومها (1).
ثانيا: وأما قولهم: إن حديث عائشة رضي الله عنها مطلق وحديث ابن عباس رضي الله عنهما مقيد، فيحمل عليه، ويكون المراد بالصيام صيام النذر، فيجاب عنه:
أنه ليس بين الحديثين تعارض حتى يجمع بينهما، فحديث ابن عباس رضي الله عنهما صورة مستقلة، سأل عنها من وقعت له وهي صيام النذر عن الميت، وهذا من التنصيص على بعض أفراد العام فلا يصلح لتخصيصه ولا لتقييده كما تقرر في الأصول (2).
وأما حديث عائشة رضي الله عنها فهو تقرير لقاعدة عامة، وهي قضاء جميع ما وجب عليه من الصيام (3).
ثالثا: وأما استدلالهم بأثر ابن عباس رضي الله عنهما، فيجاب عنه:
(1) ينظر: إحكام الأحكام 2/ 26، وتيسير العلام ص:334.
(2)
ينظر: رفع النقاب 4/ 244، إرشاد الفحول 1/ 336.
(3)
ينظر: فتح الباري 4/ 193، إحكام الأحكام 2/ 26، نيل الأوطار 4/ 280.
أن النقل عن ابن عباس رضي الله عنهما مضطرب جدا، فقد جاء عنه قوله:«لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد» (1). وجاء أن امرأة جعلت على نفسها مشيا إلى مسجد قباء فماتت ولم تقضه، «فأفتى عبد الله بن عباس ابنتها أن تمشي عنها» (2).
وجاء في هذا الأثر الذي معنا قوله: «إذا مرض الرجل في رمضان، ثم مات، ولم يصم، أطعم عنه، ولم يكن عليه قضاء، وإن كان عليه نذر قضى عنه وليه» .
قال العَيْني -بعد ذكر هذه الآثار عن ابن عباس رضي الله عنهما: "قلت: النقل عنه في هذا مضطرب فلا يقوم به حجة لأحد"(3).
والله أعلم.
(1) سبق تخريجه صفحة (587).
(2)
رواه الإمام مالك في الموطأ 3/ 672 رقم 1711، كتاب النذور، باب: ما يجب من النذور في المشي، وعلقه البخاري 8/ 142، كتاب الأيمان والنذور، باب من مات وعليه نذر.
(3)
عمدة القاري 23/ 210، وينظر: نيل الأوطار 8/ 292.