الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب العاشر: حكم انغماس الصائم في الماء
.
اختيار الشيخ: اختار جواز انغماس الصائم في الماء موافقة للجمهور، فقال رادا على من رأى كراهة ذلك:"قلت: الكراهة حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل من الكتاب أو السنة، ولم يقم دليل على كراهة الدخول في الماء أو التلفف بالثوب المبلول، بل ثبت خلافه فالقول بكراهته مردود على قائله"(1).
اختلف الفقهاء في حكم انغماس الصائم في الماء والتلفف بالثوب المبلول على قولين:
القول الأول: لا يكره انغماس الصائم في الماء ولا تلففه بالثوب المبلول.
وبه قال: المالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) ، وأبو يوسف القاضي (5) ، والظاهرية (6) ، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: يكره انغماس الصائم في الماء وتلففه بالثوب المبلول.
وبه قال: أبو حنيفة (7).
سبب الخلاف: والسبب في اختلافهم والله أعلم: هل الدخول في الماء والتلفف بالثوب المبلول يدلّ على المَلَل من الصيام وقلة الصبر، أو هو سبب للتقوي على الصيام؟ .
أدلة القول الأول: القائلين بأنه لا يكره انغماس الصائم في الماء ولا تلففه بالثوب المبلول.
(1) مرعاة المفاتيح 6/ 524
(2)
المدونة 1/ 271، النوادر والزيادات 2/ 43، التاج والإكليل 3/ 350.
(3)
الحاوي 3/ 461، البيان 3/ 531، المهذب 1/ 340، المجموع 6/ 348.
(4)
المغني 3/ 123، الإنصاف 3/ 309، شرح منتهى الإرادات 1/ 483، حاشية الروض المربع 3/ 405.
(5)
بدائع الصنائع 2/ 107، تحفة الفقهاء 1/ 368، البحر الرائق 2/ 301، مراقي الفلاح ص 256، رد المحتار 2/ 419، عمدة القاري 11/ 11. وعليه الفتوى عند الحنفية.
(6)
المحلى 4/ 336
(7)
تحفة الفقهاء 1/ 368، بدائع الصنائع 2/ 107، البحر الرائق 2/ 293، رد المحتار 2/ 396.
الدليل الأول: عن أبي بكر بن عبد الرحمن (1) عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعَرْج (2) يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر» (3).
وجه الاستدلال: في الحديث دليل على أنه يجوز للصائم أن يكسر الحر بصب الماء على بعض بدنه أو كله؛ لفعله صلى الله عليه وسلم (4).
وهو أصل في استعمال ما يتقوى به الصائم على صومه، مما لا يقع به الفطر من التبرد بالماء والمضمضة به، والتلفف بالثوب المبلول؛ لأن ذلك يعينه على الصوم ولا يقع به الفطر (5).
الدليل الثاني: قال أنس بن مالك رضي الله عنه: «إن لي أَبْزَنا أَتَقَحَّمُ (6) فيه وأنا صائم» (7).
وجه الاستدلال: أن أنس رضي الله عنه كان لا يرى حرجا في الانغماس في الماء إذا شعر بالحر وهو صائم للتبرد وقد صرح هو نفسه بذلك (8).
(1) هو: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام القرشي المخزومي، أبو عبد الرحمن المدني، أحد الفقهاء السبعة، وكان مكفوفا، روى عن: أبيه، وأبي هريرة، وعائشة، وعنه: بنوه، ومولاه سميّ، ومجاهد، والزهري، والشعبي، وطائفة، توفي سنة 94 هـ. ينظر: الطبقات الكبرى 5/ 207، سير أعلام النبلاء 4/ 416، تهذيب الكمال 33/ 112.
(2)
العَرْج: وهو بفتح العين وسكون الراء: قريةٌ جامعةٌ من عمل الفرع، على أيام من المدينة. ينظر: النهاية في غريب الحديث 3/ 204، ومعجم البلدان 4/ 98.
(3)
رواه مالك في الموطأ 3/ 420، باب ما جاء في الصيام في السفر، وأبو داود 2/ 307 رقم 2365، كتاب الصوم، باب الصائم يصب عليه الماء من العطش ويبالغ في الاستنشاق، وأحمد 25/ 241 رقم 15903، وقال محققه:"إسناده صحيح على شرط مسلم"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود 2/ 61.
(4)
ينظر: نيل الأوطار 4/ 249.
(5)
ينظر: المنتقى 2/ 49، المسالك لابن العربي 4/ 369.
(6)
الأَبْزَن: حجر منقور شبه الحوض، وقيل من صفر، وهي كلمة فارسية ولذلك لم يصرفه. أَتَقَحَّمُ: أي ألقي نفسي. ينظر: تاج العروس 34/ 252، تهذيب اللغة 13/ 155، لسان العرب 13/ 51.
(7)
أخرجه البخاري معلقا مجزوما به 3/ 30، باب اغتسال الصائم، وقال الحافظ في الفتح 4/ 154:"هذا الأثر وصله قاسم بن ثابت في (غريب الحديث) له من طريق عيسى بن طهمان".
(8)
ينظر: فتح الباري 4/ 154.
الدليل الثالث: «بَلَّ ابن عمر رضي الله عنهما ثوبا فألقاه عليه وهو صائم» (1).
وجه الاستدلال: أن الثوب المبلول إذا أُلقي على البدن بَلَّه، فأشبه ما إذا صب عليه الماء، أو إذا انغمس فيه (2).
الدليل الرابع: ولأنه ليس فيه إلا دفع أذى الحر، فلا يُكرَه؛ كما لو استظلَّ (3).
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه يكره انغماس الصائم في الماء وتلففه بالثوب المبلول.
الدليل الأول: عن عليّ رضي الله عنه، قال:«لا تدخل الحمّام وأنت صائم» (4).
وجه الاستدلال: أن علي رضي الله عنه كره للصائم الاغتسال حال كونه صائما.
الدليل الثاني: توجيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم والذي فيه: «أنه كان يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر» ؛ أنه لبيان الجواز فقط، وكراهة التنزيه لا تنافي الجواز (5).
الدليل الثالث: ولأن فيه إظهار المَلَل من العبادة والامتناع عن تحمل مشقتها (6).
الدليل الرابع: ولأن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرتموه محمول على حال مخصوصة وهي حال خوف الإفطار من شدة الحر، وكذا فعل ابن عمر رضي الله عنه محمول أيضا على مثل هذه الحالة (7).
الترجيح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الأول، جواز اغتسال الصائم ودخوله الماء وتلففه بالثوب المبلول؛ وذلك لصحة ما استدل به أصحاب هذا القول، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله كما في حديث العَرْج، وصحابته الكرام أيضا.
وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني فيجاب عنه بما يلي:
(1) أخرجه البخاري معلقا في الصوم 3/ 30، باب اغتسال الصائم، ووصله في التاريخ الكبير 5/ 147، وابن أبي شيبة في المصنف 2/ 300 رقم 9212، كتاب الصيام، باب ما ذكر في الصائم يتلذذ بالماء.
(2)
ينظر: إرشاد الساري 3/ 370، وعمدة القاري 11/ 11، وفتح الباري 4/ 153.
(3)
ينظر: بدائع الصنائع 2/ 108.
(4)
رواه ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 318 رقم 9448، كتاب الصيام، باب في الرجل يدخل الحمام وهو صائم، وقال الحافظ في الفتح 4/ 153:"في إسناده ضعف".
(5)
ينظر: مرقاة المفاتيح 4/ 1396، وأصول السرخسي 1/ 64.
(6)
ينظر: بدائع الصنائع 2/ 108.
(7)
المصدر السابق.
أولا: أما استدلالهم بأثر علي فيجاب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أنه أثر في إسناده ضعف فلا تقوم به الحجة (1).
الوجه الثاني: وعلى التسليم بصحته: فأين الدليل على أن عليا ¢ قصد ما ذكروه من كراهة دخول الحمام من أجل المَلَل، بل لعله قصد النهي عن دخوله لحفظ الصوم عن ما يخدشه برؤية العورات، كما جاء عن أبي العالية أنه سئل: أَدخُلُ الحمّام وأنا صائم؟ قال: «أتحبّ أن تنظر إلى عورة غيرك وأنت صائم؟ » ، قال: قلت: لا (2).
ثانيا: وأما قولهم: إن فِعل النبي صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز فقط، وكراهة التنزيه لا تنافي الجواز، فأجاب عنه الشيخ عبيد الله المباركفوري بقوله:"قلت: الكراهة حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل من الكتاب أو السنة، ولم يقم دليل على كراهة الدخول في الماء أو التلفف بالثوب المبلول، بل ثبت خلافه فالقول بكراهته مردود على قائله"(3).
ثالثا: وأما قولهم: إن فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل ابن عمر رضي الله عنهما، محمول على حال مخصوصة، فيجاب عنه:
أن حملكم هذا لجواز الفعل على حال خوف الإفطار بحاجة إلى قرينة تدل على ذلك، ولا قرينة (4).
رابعا: وأما قولهم: إن فيه إظهار المَلَل من العبادة والامتناع عن تحمل مشقتها، فيجاب عنه: أنه فعل يعين الصائم على التقوي على صومه، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.
ثم إن تركَ الحنفية العملَ بهذا القول المنقول عن أبي حنيفة يجعل القول بجواز الدخول في الماء، والتلفف بالثوب المبلول للصائم، -بلا كراهة- قولا قريبا من المتفق عليه بين الفقهاء.
قال العيني: "كراهة الاغتسال للصائم، رواية عن أبي حنيفة غير معتمد عليها، والمذهب المختار أنه لا يُكرَه"(5). والله أعلم.
(1) ينظر: فتح الباري 4/ 153، نيل الأوطار 4/ 249، وعون المعبود 6/ 352.
(2)
رواه ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 318 رقم 9447، في الصيام، في الرجل يدخل الحمام وهو صائم.
(3)
مرعاة المفاتيح 6/ 524.
(4)
ينظر: المصدر السابق.
(5)
عمدة القاري 11/ 11.