الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب التاسع: هل يشترط في الرقبة المعتقة في كفارة الجماع في رمضان أن تكون مؤمنة
؟ .
اختيار الشيخ: اختار قول الجمهور باشتراط كون الرقبة المعتقة في كفارة الإفطار في رمضان مؤمنة فقال: "وهو ينبني على أن السبب إذا اختلف واتحد الحكم، هل يقيد المطلق أم لا؟ وإذا قيد فهل هو بالقياس أم لا؟ . والمسألة مشهورة في أصول الفقه. والأقرب أنه إن قيد فبالقياس، ويؤيده التقييد في مواضع أخرى"(1).
تحرير محل الخلاف: أجمع العلماء أن الواجب في كفارة القتل إعتاق رقبة مؤمنة (2)، لقوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (3).
واختلفوا في إعتاق الرقاب في باقي الكفارات هل يشترط كونها مؤمنة أو تجزئ الكافرة ومن تلك الكفارات كفارة الجماع في شهر رمضان فاختلفوا فيها على قولين:
القول الأول: يشترط أن تكون الرقبة مؤمنة.
وبه قال: المالكية (4) ، والشافعية (5) ، والحنابلة في المذهب (6)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: لا يشترط كون الرقبة مؤمنة بل تجوز الكافرة.
وبه قال: الحنفية (7) ، والحنابلة في رواية (8) ، والظاهرية (9).
سبب الخلاف: والسبب في اختلافهم:
(1) مرعاة المفاتيح 6/ 499. وهذا ذكره عند لفظة طهل تجد رقبة تعتقها" الواردة في الحديث الآتي.
(2)
ينظر: الإقناع في مسائل الإجماع 2/ 281، والإقناع لابن المنذر 1/ 358، والإشراف له 7/ 388، والمجموع 19/ 189، والمغني 8/ 367.
(3)
سورة النساء: الآية: 92.
(4)
الذخيرة 2/ 526، القوانين الفقهية ص 83، إكمال المعلم 4/ 54، التاج والإكليل 3/ 363.
(5)
مختصر المزني 8/ 309، الحاوي الكبير 10/ 461، المهذب 3/ 69، العزيز 9/ 295. قال النووي:"ولا يجزئ في شيء من الكفارات إلا رقبة مؤمنة". المجموع 17/ 368.
(6)
المغني 8/ 22، المبدع 3/ 35، الروض المربع ص 234، الإنصاف 9/ 214.
(7)
النتف في الفتاوى 1/ 144، فتح القدير 4/ 258، مراقي الفلاح ص 250.
(8)
المغني 8/ 22، شرح الزركشي 5/ 492، الإنصاف 9/ 214.
(9)
المحلى 4/ 328.
هل تقيد الرقاب -التي جاءت مطلقة- بصفة الإيمان، أو تبقى على إطلاقها؟ (1).
أدلة القول الأول: القائلين بأنه يشترط أن تكون الرقبة مؤمنة.
الدليل الأول: عن معاوية بن الحَكَم (2) رضي الله عنه قال: كانت لي جارية فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: علي رقبة أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أنا؟ » فقالت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال صلى الله عليه وسلم: «اعتقها فإنها مؤمنة» (3).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم علل جواز إعتاقها عن الرقبة التي عليه بأنها مؤمنة، فدل على أنه لا يجزئ عن الرقبة التي عليه إلا مؤمنة (4).
قال الماوردي: "فكان الدليل في هذا الخبر من وجهين:
أحدهما: اعتبار الإيمان، ولو لم يكن شرطا لَما اعتبره. والثاني: تعليقُه بالإجزاء" (5).
الدليل الثاني: ولأنه إعتاقٌ على وجه القُربة، فوجب أن تكون مسلمة؛ أصله الإعتاق في كفارة القتل (6).
الدليل الثالث: ولأن المقصود من إعتاق المسلم: تفريغُه لعبادة ربه، وتخليصُه من عبودية المخلوق إلى عبودية الخالق. ولا ريب أن هذا أمر مقصود للشارع، محبوب له، فلا يجوز إلغاؤه. وكيف يستوي عند الله ورسوله تفريغ العبد لعبادته وحده، وتفريغه لعبادة الصليب، أو الشمس والقمر والنار! (7).
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه لا يشترط كون الرقبة مؤمنة بل تجوز الكافرة.
(1) ينظر: بداية المجتهد 3/ 129، وبدائع الصنائع 5/ 110.
(2)
هو: معاوية بن الحكم السلمي المدني، روى عنه: ابنه كثير، وعطاء بن يسار، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، له حديث في الكهانة والطيرة والخط وتشميت العاطس وعتق الجارية. ينظر: الإصابة 6/ 118، الاستيعاب 3/ 1414، تهذيب التهذيب 10/ 205.
(3)
رواه مسلم 1/ 381 رقم 537، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته.
(4)
ينظر: المغني 8/ 22، وشرح الزركشي 5/ 492.
(5)
الحاوي الكبير 10/ 463 - 464، وينظر: زاد المعاد 5/ 308.
(6)
ينظر: بداية المجتهد 3/ 129، المغني 8/ 22.
(7)
ينظر: زاد المعاد 5/ 308.
الدليل الأول: قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (1).
الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم للمجامع في رمضان: «هل تجد رقبة تعتقها» (2).
وجه الاستدلال من الآية والحديث: أن الله تعالى أطلق الرقبة في هذه الكفارة، فوجب أن يجزئ ما تناوله الإطلاق (3).
وجاءت مطلقة أيضا في الحديث، فلو كان شيء من الرقاب التي تُعتق لا يُجزئ في ذلك لبَيَّنه عليه السلام (4).
قال ابن رشد: "وأما حجة أبي حنيفة فهو ظاهر العموم، ولا معارضة عنده بين المطلق والمقيد، فوجب عنده أن يُحمَل كلٌّ على لفظه"(5).
فتُحمَل في كفارة القتل على المؤمنة؛ لأنها جاءت مقيدة بصفة الإيمان، وتبقى في بقية الكفارات على إطلاقها، فتشمل المؤمنة والكافرة.
الترجيح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الأول: أنه يشترط كون الرقبة المُعتقة في كفارة الجماع في رمضان مؤمنة؛ والذي يظهر والعلم عند الله أن هذا التقييد بكونها مؤمنة ليس من باب القياس، وإنما هو من باب حمل المطلق على المقيد؛ وذلك أنه سبحانه وتعالى قيد الرقبة بالإيمان في كفارة القتل وأطلقها في باقي الكفارات، فيجب صرف المطلق إلى المقيد (6).
أما استدلال أصحاب القول الثاني: بآية الظهار، وحديث المجامع في رمضان، وأن الرقبة جاءت مطلقة فيهما فتبقى على إطلاقها، فيجاب عنه:
أن لسان العرب يقتضي حمل المطلق على المقيد إذا كان من جنسه، فيُحمَل عُرْف الشرع على مقتضى لسانهم (7).
(1) سورة المجادلة: آية: 3.
(2)
سبق تخريجه صفحة (363).
(3)
ينظر: بدائع الصنائع 5/ 110، المغني 8/ 22، شرح الزركشي 5/ 492.
(4)
ينظر: المحلى 4/ 328، بدائع الصنائع 5/ 110.
(5)
بداية المجتهد 3/ 129.
(6)
ينظر بداية المجتهد 3/ 129.
(7)
ينظر: زاد المعاد 5/ 307.
قال الإمام الشافعي: "شَرَطَ الله عز وجل في رقبة القتل مؤمنةً، كما شَرَطَ العَدْلَ في الشهادة، وأطلق الشهودَ في مواضع. فاستدللنا على أن ما أَطْلَق على معنى ما شَرَطَ. وإنما رَدّ الله تعالى أموال المسلمين على المسلمين لا على المشركين. وفَرَضَ الله تعالى الصدقات، فلم تَجُز إلا للمؤمنين، فكذلك ما فَرَضَ الله مِن الرقاب، فلا يجوز إلا مِن المؤمنين"(1).
فاستدل الإمام الشافعي بأن لسان العرب وعُرْفَ خطابهم يقتضي حَمْلَ المطلق على المقيد إذا كان مِن جنسه، فيُحمَلُ عُرْفُ الشرع على مقتضى لسانهم. وقد قَيَّد الله تعالى كَفّارة القتل بالإيمان، والمطلق هنا كفارة الجِماع، فوجب أن يُحمَل مطلقُها على ما قُيِّد من كَفّارة القتل، كما أنَّ الله سبحانه وتعالى قَيَّد الشهادة بالعدالة في قوله سبحانه وتعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (2)، وأطلقها في قوله عز وجل:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (3)، فحُمِل المطلق على المقيد في اشتراط العدالة، كذلك الكَفَّارة (4).
والله أعلم.
(1) مختصر المزني 8/ 309.
(2)
سورة الطلاق: آية: 2.
(3)
سورة البقرة: آية: 282.
(4)
ينظر: الحاوي الكبير 10/ 462.