الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السابع: هل يقضي من أفطر متعمدا في رمضان
؟ .
اختيار الشيخ: اختار أن من أفطر متعمدا يقضي، فقال رادا على من استدل بحديث:«من أفطر يوما من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقض عنه صوم الدهر كله وإن صامه» (1): "ومثل هذا الحديث لا يكفى مع انفراده للاحتجاج به، ويُحمَل -إن ثبت- على التشديد والتغليظ كما سبق (2).
تحرير المسألة: مر معنا فيما سبق (3) مسألة: هل يقضي المجامع في رمضان اليوم الذي جامع فيه؟ .
ولا شك أن من جامع في يوم رمضان متعمدا، أنه تعمد الفطر، ولكن الشيخ المباركفوري قد نص على أن قوله صلى الله عليه وسلم:«من أفطر يوما من رمضان» ، المراد منه: الإفطار بالأكل أو الشرب عامدا، فقال:"أطلق الإفطار، وهو لا يخلو: إما أن يكون بجماع، أو غيره، ناسيا أو عامدا. لكن المراد منه: الإفطار بالأكل أو الشرب عامدا، وأما ناسيا أو بالجماع فقد تقدم ذِكرهما"(4).
وقد اختلف أهل العلم في من أفطر في يوم رمضان متعمدا بأكل أو بشرب، هل يقضي ذلك اليوم؟ ، على قولين:
القول الأول: يجب عليه قضاء ذلك اليوم.
وبه قال: الحنفية (5) ، والمالكية (6) ، والشافعية (7) ، والحنابلة (8)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: أنه لا يقضيه ولا يمكنه قضاؤه.
وبه قال: الظاهرية (9)، وروي عن: علي ابن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما (10).
(1) سيأتي تخريجه صفحة (564).
(2)
مرعاة المفاتيح 6/ 530.
(3)
صفحة (558).
(4)
مرعاة المفاتيح 6/ 527.
(5)
بدائع الصنائع 2/ 94، تحفة الفقهاء 1/ 355، كنز الدقائق ص 221، النهر الفائق 2/ 21.
(6)
الكافي 1/ 342، الإشراف 1/ 434، القبس 1/ 501، مواهب الجليل 2/ 434.
(7)
الحاوي الكبير 3/ 434، المهذب 1/ 336، منهاج الطالبين ص 78، ومغني المحتاج 2/ 178.
(8)
الهداية ص 158، المغني 3/ 119، شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 278، المبدع 3/ 21.
(9)
المحلى 4/ 308، وعندهم: لا يمكنه القضاء في جميع ما يفطر به حتى في الفطر بارتكاب المعاصي كما هو مذهبهم، واستثنوا من ذلك: الاستقاءة عمدا؛ لصحة النص في إيجاب القضاء فيها.
(10)
مصنف عبد الرزاق رقم 7476، وابن أبي شيبة رقم 9784، الإشراف 3/ 128، المحلى 4/ 312.
أدلة القول الأول: القائلين بأنه يجب عليه قضاء ذلك اليوم.
الدليل الأول: قوله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1).
وجه الاستدلال: معنى الآية: فمن كان منكم مريضا أو على سفر، فأفطر بعذر المرض والسفر، فعدة من أيام أخر؛ فيكون في الآية دلالة على وجوب القضاء على من أفطر بغير عذر؛ لأنه لما وجب القضاء على المريض والمسافر، مع أنهما أفطرا بسبب العذر المبيح للإفطار، فلأن يجب على غير ذي العذر أولى (2).
الدليل الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ذرعه القيء، فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض» (3).
وجه الاستدلال: نص الحديث على وجوب القضاء على من أفطر بالاستقاءة عمدا، فيقاس عليه من أكل أو شرب متعمدا في وجوب القضاء؛ بجامع تعمد الفطر في كل (4).
الدليل الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أنه أمر الذي واقع أهله في رمضان أن يقضي يوما مكانه» (5).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر في هذا الحديث من أفطر بجِماعٍ أن يقضي اليوم الذي أفسده، فدل على وجوبه على من أفطر بأكل أو شرب أو غيرهما؛ بجامع جَبْر ما فاته من صيام في كل.
الدليل الرابع: عن سعيد بن المسيب، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أفطرت يوما من رمضان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«تصدق، واستغفر الله، وصم يوما مكانه» (6).
(1) سورة البقرة: آية: 184.
(2)
ينظر: بدائع الصنائع 2/ 94، والمهذب للشيرازي 1/ 336.
(3)
سبق تخريجه صفحة (325).
(4)
ينظر: شرح البخاري لابن بطال 4/ 80.
(5)
سبق تخريجه صفحة (376).
(6)
رواه ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 347 رقم 9774، في الصيام، باب: ما قالوا في الرجل يفطر من رمضان يوما ما عليه، وبرقم 12568، في الأيمان والنذور والكفارات، باب: من يفطر يوما من رمضان، وقال الألباني في الإرواء 4/ 92:"هذا مرسل جيد الاسناد".
وجه الاستدلال: فهذا الحديث نص على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من أفطر متعمدا في رمضان بالقضاء، فيدخل تحته من أفطر بأكل أو شرب أو غير ذلك، والدليل على أنه متعمد قوله:«واستغفر الله» ؛ إذ غير المتعمد غير مؤاخذ.
الدليل الخامس: حديث ابن عباس رضي الله عنه، والذي ذكر فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«اقضوا الله الذي له، فإن الله أحق بالوفاء» (1).
وجه الاستدلال: أن الحديث جاء عاما في وجوب قضاء حقوق الله، والصيام من أعظم تلك الحقوق لتعلقه بركن من أركان الإسلام.
الدليل السادس: ولأن القضاء إنما وجب جبرا لما فات من صيام، والفوات يحصل بمطلق الإفساد، سواء كان بجماع أو بأكل أو بشرب، فتقع الحاجة إلى الجبر بالقضاء؛ ليقوم مقام الفائت فينجبر الفوات (2).
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه لا يقضيه ولا يمكنه قضاؤه.
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أفطر يوما من رمضان من غير رُخصَة، ولا مرض؛ لم يقضه صوم الدهر كله، وإن صامه» (3).
وجه الاستدلال: دل الحديث على أن من انتهك حرمة رمضان بالفطر، لم يَقدِر على قضاء ذلك اليوم الذي أفسده. وعليه فلا يشرع له القضاء؛ لأن إيجاب صيام غيره بدلا عنه إيجاب شرع لم يأذن الله تعالى به، فهو باطل (4).
(1) رواه البخاري 9/ 102 رقم 7315، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين، قد بين الله حكمهما، ليفهم السائل.
(2)
ينظر: بدائع الصنائع 2/ 97.
(3)
رواه أبو داود 2/ 314 رقم 2396، في الصوم، باب التغليظ في من أفطر عمدا، والترمذي 3/ 92 رقم 723، في الصيام، باب ما جاء في الإفطار متعمدا، وقال:"حديث أبي هريرة لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، واللفظ له، والنسائي في الكبرى 3/ 357 رقم 3265، في الصيام، باب: إثم من أفطر قبل تحلة الفطر، وابن ماجه 1/ 535 رقم 1672، في الصيام، باب ما جاء في كفارة من أفطر يوما من رمضان، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب 1/ 308 رقم 605.
(4)
ينظر: المحلى 4/ 308.
الدليل الثاني: عن أبي بكر الصديق أنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما فيما أوصاه به: «مَن صام شهر رمضان في غيره لم يُقبَل منه، ولو صام الدهر أجمع» (1).
وجه الاستدلال: أفاد الأثر: أن من انتهك حرمة رمضان بإفطار يوم منه، كان كمن أخر صيامه إلى غير رمضان، فلا يُقبَل منه.
الدليل الثالث: عن علي رضي الله عنه، قال:«من أفطر يوما من رمضان متعمدا، لم يقضه أبدا طول الدهر» (2).
الدليل الرابع: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «من أفطر يوما من رمضان متعمدا من غير عِلَّة ثم قضى طول الدهر لم يُقبَل منه» (3).
الراجح: الذي يترجح -إن شاء الله- هو القول الأول: أنه يجب قضاء ذلك اليوم؛ وذلك لصحة ما استدلوا به؛ ولدلالته على المطلوب؛ ولأن الذمة لا تبرأ إلا بيَقين الأداء، وهو قضاء ذلك اليوم (4).
وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني فيجاب عنه:
أن في أدلتهم ما هو ضعيف ولا يحتج به كحديث أبي هريرة وأثر أبي بكر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم ، وعلى فرض صحة كل ما استدلوا به، فقد أجاب أهل العلم عن معنى:«لم يقض عنه صوم الدهر» بما يلي:
قال ابن تيمية: "إنما كان كذلك: لأن الله سبحانه أوجب عليه صوم ذلك اليوم المُعيَّن، وذلك اليوم لا يكون مثله إلا في شهر رمضان. لكن صوم ذلك المِثل واجبٌ بنفسه أداءً، فلا
(1) ذكره ابن حزم في المحلى 4/ 311، وقال الحافظ في فتح الباري 4/ 162:"فيه انقطاع".
(2)
رواه ابن أبي شيبة 2/ 348 رقم 9785، في الصيام باب: من قال لا يقضيه وإن صام الدهر، ورقم 12571، كتاب الأيمان والنذور والكفارات باب: من يفطر يوما من رمضان.
(3)
رواه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 385 رقم 8067، في الصيام، باب التغليظ على من أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا من غير عذر، وقال:"عبد الملك هذا أظنه ابن حسين النخعي، ليس بالقوي"، والطبراني في المعجم الكبير 9/ 314 رقم 9574، ومصنف عبد الرزاق 4/ 198 رقم 7476، في الصيام، باب حرمة رمضان، وابن أبي شيبة 2/ 347 رقم 9784، في الصيام، باب: من قال لا يقضيه وإن صام الدهر.
(4)
ينظر: شرح البخاري لابن بطال 4/ 72.
يمكن أن يُصامَ قضاءً عن غيره، فلو صام الدهر كله؛ لم يقض عنه حق ذلك المُعيَّن. لكن وجب عليه صوم يوم؛ لأنه أحد الواجبَين، والتعيين هو الواجب الآخر، فَفَوات أحدهما لا يوجِب سقوط الآخر. وهذا معنى كلام أحمد، وسواء أفطر بجماع أو أكل أو غيره" (1).
وقال ابن المُنَيِّر: "يعني أن القضاء لا يقوم مقام الأداء، ولو صام عِوَض اليوم دَهْرا، ويقال بموجبه؛ فإن الإثم لا يسقط بالقضاء، ولا سبيل إلى اشتراك القضاء والأداء في كمال الفضيلة. فقوله: «لم يقضه صيام الدهر» أي: في وصفِه الخاص به وهو الكمال، وإن كان يقضي عنه في وصفِه العام المنحط عن كمال الأداء. هذا هو اللائق بمعنى الحديث، ولا يُحمَل على نفي القضاء بالكلّيَّة، ولا تُعهَد عبادة واجبة مؤقتة لا تَقبل القضاء إلا الجُمعة؛ لأنها لا تجتمع بشروطها إلا في يومها، وقد فات، أو في مثله، وقد اشتغلت الذِمّة بالحاضرة، فلا تَسَع الماضية"(2).
والله أعلم.
(1) شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 272.
(2)
نقله عنه الحافظ في الفتح 4/ 161، والقسطلاني في إرشاد الساري 3/ 375. ولم أجده في المتواري لناصر الدين. ولعله لأخيه زين الدين في حاشيته على ابن بطال، وهو غير مطبوع.