الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: في تعيين يوم الشك
.
اختيار الشيخ: قال في اختياره: "قلت والراجح عندي: إن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا كانت السماء مغيمة في ليلته ولم ير الهلال"(1).
تحرير محل الخلاف: من المسائل التي يبحثها الفقهاء مسألة: صيام يوم الشك، والتي يعبر عنها آخرون بصيام يوم الغيم، وهذا الاختلاف في التسمية راجع إلى اختلافهم في تعريف يوم الشك، والتي هي مسألتنا.
وقد اختلف أهل العلم في تعريف يوم الشك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إذا غيمت السماء ليلة ثلاثين من شعبان ولم ير الهلال فصبيحة الغيم هو يوم الشك.
وبه قال: الحنفية (2) ، والمالكية (3)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: يوم الشك يوم الثلاثين من شعبان سواء كانت السماء صحوا أو مغيمة، إذا تحدث برؤيته أو شهد بها من لا يثبت بقوله فإن لم يتحدث برؤيته أحد فليس يوم شك.
وبه قال: الشافعية (4)، ومال إليه: ابن عبد السلام (5) من المالكية (6).
القول الثالث: هو يوم الثلاثين من شعبان إذا كانت السماء صحوا.
وبه قال: الحنابلة (7).
(1) مرعاة المفاتيح 6/ 446.
(2)
مراقي الفلاح ص 239، البناية 4/ 17، البحر الرائق 2/ 284، رد المحتار 2/ 381.
(3)
التنبيه لابن بشير 2/ 712، جامع الأمهات ص 170، مختصر خليل ص 61، مواهب الجليل 2/ 392.
(4)
الوسيط 2/ 535، البيان 3/ 560، روضة الطالبين 2/ 367.
(5)
هو: أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن يوسف، الهَوّاري التونسي، من فقهاء المالكية. كان إماما حافظا عالما بالحديث، ولي قضاء الجماعة بتونس، سمع: عبد الله بن محمد الطائي القرطبي، وعنه: القاضي ابن حيدرة، وابن عرفة، وغيرهما، من مؤلفاته: شرح على مختصر ابن الحاجب، وديوان فتاوى، توفي سنة 749 هـ، ينظر: شجرة النور الزكية 1/ 301، الديباج المذهب 2/ 330، الأعلام 6/ 205.
(6)
مواهب الجليل 2/ 393، شرح الزرقاني على خليل 2/ 347، الفواكه الدواني 1/ 306، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/ 513.
(7)
مسائل أحمد رواية أبي داوود ص 127، الكافي 1/ 451، الفروع 5/ 97، الإنصاف 3/ 349.
سبب الخلاف: الذي يظهر -والله أعلم- أن سبب الخلاف يرجع إلى أمرين:
أولا: هل أمره صلى الله عليه وسلم بإتمام العدة ثلاثين لأن ذلك اليوم هو يوم من شعبان، أو لأنه يوم مشكوك فيه؟ .
ثانيا: هل يصدق إطلاق يوم الشك على يوم الصحو بعد أن ترآءا الناس الهلال ولم يروه.
أدلة القول الأول: القائلين بأنه إذا غيمت السماء ليلة ثلاثين من شعبان ولم ير الهلال فصبيحة الغيم هو يوم الشك.
الدليل الأول: عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا، وعقد الإبهام في الثالثة، والشهر هكذا، وهكذا، وهكذا» يعني تمام ثلاثين (1).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين وقد يكون ثلاثين، ولا يكون الشك إلا بوجود علة وهي الغيم (2).
الدليل الثاني: عن عمار بن ياسر (3) رضي الله عنه قال: «من صام اليوم الذي يُشكّ فيه، فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم» (4).
(1) أخرجه البخاري 7/ 53 رقم 5302، كتاب الطلاق، باب اللعان، ومسلم 2/ 761 رقم 1080، كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال
…
، واللفظ له.
(2)
ينظر: مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح ص 646.
(3)
هو: عمار بن ياسر بن عامر بن مالك العَنْسِي، أبو اليقظان، مولى بنى مخزوم، أحد السابقين إلى الإسلام والجهر به، هاجر إلى المدينة، وشهد بدرا وأحدا والخندق، وبيعة الرضوان، ولاّه عمر بن الخطّاب رضي الله عنه الكوفة، وشهد الجمل وصفين مع علي، وقتل بصفين سنة 37 هـ. ينظر: معرفة الصحابة 4/ 2070، وطبقات ابن سعد 3/ 246، سير أعلام النبلاء 1/ 406.
(4)
رواه أبو داود 2/ 300 رقم 2334، كتاب الصوم، باب كراهية صوم يوم الشك، والترمذي 3/ 61 رقم 686، أبواب الصوم، باب ما جاء في كراهية صوم يوم الشك، وقال:"حسن صحيح"، والنسائي 4/ 153 رقم 2188، كتاب الصيام، باب صيام يوم الشك، وابن ماجه 1/ 527 رقم 1645، كتاب الصيام، باب ما جاء في صيام يوم الشك، وذكره البخاري تعليقا، في كتاب الصوم 3/ 27، ينظر: تغليق التعليق 3/ 139. وصححه الألباني في الإرواء 4/ 125 رقم 961.
وجه الاستدلال: أن حديث عمار مفسر بالنهي عن صوم يوم الشك، وهذا يوم شك؛ لأنه يحتمل أن يكون من شعبان ويحتمل أن يكون من رمضان، ولا معنى للشك إلا التردد بين الجهتين (1). ولا يتصور ذلك إلا بوجود الغيم.
الدليل الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُبِّيَ عليكم (2) فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين» (3).
وجه الاستدلال: فأَمرُه صلى الله عليه وسلم بإكمال عدة شعبان لا لأنه من شعبان يقينا ولكن لعدم إمكان الرؤية وهذا هو الشك.
الدليل الرابع: ولأن عدم رؤيته في الصحو دليل على أنه يوم من شعبان جزما (4).
الدليل الخامس: ولأن رد شهادة من رآه في الصحو دليل على غلطه، وهذا ظاهر ومقابل الظاهر الموهوم لا المشكوك فيه، وأما إن كان في غيم فهو شك، وإن لم يشهد به أحد (5).
أدلة القول الثاني: القائلين بأن يوم الشك يوم الثلاثين من شعبان سواء كانت السماء صحوا أو مغيمة، إذا تحدث برؤيته أو شهد بها من لا يثبت بقوله فإن لم يتحدث برؤيته أحد فليس يوم شك.
استدلوا بحديث: ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه سحابة أو ظلمة، فأكملوا العدة عدة شعبان، ولا تستقبلوا الشهر استقبالا، ولا تصلوا رمضان بيوم من شعبان» (6).
(1) ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 89، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 5/ 292.
(2)
غَبِي عليكم: بالتخفيف أي خفي. أو «غُبِّي» بضم الغين وتشديد الباء المكسورة، لما لم يسم فاعله، من الغباء: شبه الغبرة في السماء. ينظر: النهاية 3/ 342، لسان العرب 15/ 114.
(3)
أخرجه البخاري 3/ 27 رقم 1909، كتاب الصيام، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الهلال فصوموا
…
» ، ومسلم 2/ 762 رقم 1081، كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال.
(4)
ينظر: الخلاصة الفقهية ص 190.
(5)
ينظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق 2/ 284.
(6)
رواه النسائي 4/ 153 رقم 2189، كتاب الصيام، باب صيام يوم الشك، واللفظ له، وأحمد 3/ 445 رقم 1985، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة 4/ 549 رقم 1917:"هذا إسناد جيد".
وجه الاستدلال: فقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يوم الغيم هو يوم من شعبان. وأنه ليس يوم شك (1).
أما لو شهد من ردت شهادته سواء كان ذلك في يوم صحو أو يوم شك فإن شهادته تورث الشك، هل هو يوم من شعبان أو يوم من رمضان.
قال ابن عبد السلام المالكي: "وهو الأظهر عندي؛ لأننا ليلة الغيم مأمورون بإكمال العدة ثلاثين يوما لخبر: «فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان» أو «فاقدروا له»؛ فإن هذا يدل على أن صبيحة ليلة الثلاثين من شعبان عملا (بالاستصحاب) (2) "(3).
أدلة القول الثالث: القائلين بأنه هو يوم الثلاثين من شعبان إذا كانت السماء صحوا.
استدلوا بحديث ابن عمر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروا الهلال. ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له» . قال نافع: (كان عبد الله بن عمر إذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوما، بعث من ينظر له الهلال، فإن رأى فذاك، وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر (4) أصبح مفطرا، وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما) (5).
وجه الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أن ابن عمر رضي الله عنه وهو راوي الحديث كان يصوم إذا حال دون رؤية الهلال سحاب أو قتر؛ مما يدل على أنه ليس يوم الشك المنهي عنه، وما كان لابن عمر رضي الله عنهما وهو
(1) ينظر: أسنى المطالب 1/ 419، والفقه الإسلامي للزحيلي 3/ 1632.
(2)
الاستصحاب لغة: طلب الصحبة، وهي الملازمة. ينظر القاموس المحيط 1/ 104. واصطلاحا: استدامة إثبات ما كان ثابتًا، أو نفي ما كان منفيًا. ينظر: معالم أصول الفقه عند أهل السنة ص 210.
(3)
ينظر: الفواكه الدواني 1/ 306.
(4)
قَتَر: أي غُبار. ينظر: النهاية في غريب الحديث 4/ 12، تاج العروس 13/ 361.
(5)
رواه أبو داود 2/ 297 رقم 2330، باب الشهر يكون تسعا وعشرين، واللفظ له، وأحمد 8/ 71 رقم 4488، وهو دون قول ابن عمر عند: مسلم 2/ 759 رقم 1080، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال
…
وصححه الألباني في صحيح أبي داود 7/ 87 رقم 2009.
الحريص على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم أن يخالف أمره. أما إذا كانت السماء صحوا فكان لا يصومه؛ فدل على أنه هو يوم الشك المنهي عن صيامه (1).
الوجه الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: «فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه» عقب قوله: «إنما الشهر تسع وعشرون» فقد أتى بحرف الفاء المشعرة بالسبب؛ فكأنه قال: الشهر الذي لا بد منه تسع وعشرون؛ فاقدروا له هذا العدد إذا غم عليكم (2).
فيكون اليوم الذي يلي التاسع والعشرين حال الغيم هو الأول من رمضان لا يوم الشك.
الراجح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الأول: إذا غيمت السماء ليلة ثلاثين من شعبان ولم يُرَ الهلال فصبيحة الغيم هو يوم الشك؛ وذلك لقوة ما استدلوا به، ولسلامة أدلتهم من المعارضة.
وأما الجواب عن أدلة القولين الآخرين فيكون بما يلي:
أولا: أما قولهم: إن يوم الغيم هو يوم من شعبان قطعا فغير مسلم، لأنه لو رؤي الهلال بعد مضي 28 يوما من رمضان لكان يوم الغيم ذلك هو الأول أم رمضان يقينا؛ لأن الشهر لا يكون أقل من تسعة وعشرين يوما، ولكن يحكم بأنه اليوم المكمل للثلاثين من شعبان لوجود الشك.
وأما اشتراطهم شهادة من لا تقبل شهادته في يوم الغيم حتى يكون يوم شك: فلا دليل عليه. ثم إن من لا تقبل شهادته لا يعتبر حديثه (3).
ثانيا: وأما استدلالهم بلفظة: «فاقدروا له» وبفعل ابن عمر رضي الله عنه على أن يوم الصحو ليس بيوم شك فيجاب عنه:
أن هذا الاستدلال قد يُسَلَّم، لو لم تأت إلا رواية فاقدروا له وأن معناها تقديره بتسعة وعشرين يوما، لكن الرواية جاءت صريحة في إتمام الثلاثين كما هو في حديث ابن عمر رضي الله عنهما
(1) ينظر: المغني 3/ 107 - 108، وشرح العمدة كتاب الصيام 1/ 124.
(2)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 94.
(3)
ينظر: منح الجليل 2/ 116
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«إن الله تبارك وتعالى جعل الأهلة مواقيت، فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له، أتموه ثلاثين» (1).
فهذه الرواية الصحيحة صريحة في إتمام الثلاثين، وإن كانت السماء مغيمة.
وأما صيام ابن عمر رضي الله عنهما فليس دليلا على أن ذلك اليوم ليس يوم شك؛ بدليل أن ابن عمر كان يصومه ولا يوجب صيامه، فدل على أنه كان يصومه احتياطا، وهو اجتهاد منه رضي الله عنه (2).
والله أعلم.
(1) رواه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 345 رقم 7931، كتاب الصيام باب الصوم لرؤية الهلال أو استكمال العدد ثلاثين، والحاكم في المستدرك 1/ 584 رقم 1539، كتاب الصوم، وقال:"هذا حديث صحيح الإسناد على شرطهما، ولم يخرجاه". وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 3093.
(2)
ينظر: زاد المعاد 2/ 44 - 45.