الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: حكم صيام الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر
.
اختيار الشيخ: اختار منع صيام يوم الغيم على أنه من رمضان، إذا لم يُرى الهلال، فقال:"إن الحديث ظاهر في النهي عن ابتداء صوم رمضان قبل رؤية الهلال، أي: إذا لم يكمل عدد شعبان ثلاثين يوما، فيدخل فيه صورة الغيم وغيرها"(1).
وقال أيضا: "وفعل ابن عمر اجتهاد منه مخالف لأحاديث إكمال العدة ثلاثين يوما"(2).
تحرير محل الخلاف: قال ابن المنذر: "صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم يُرَ الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة"(3).
واختلفوا إذا حال دون الرؤية غيم أو قتر ولم يُرَ الهلال، هل يصام على أنه من رمضان؟ على قولين:
القول الأول: لا يصام يوم الغيم على أنه من رمضان.
وهو قول: الحنفية (4) ، والمالكية (5) ، والشافعية (6) ، والحنابلة في رواية (7) ، والظاهرية (8)، وهو اختيار الشيخ.
(1) مرعاة المفاتيح 6/ 425.
(2)
مرعاة المفاتيح 6/ 430. يعني حديث ابن عمر الآتي.
(3)
نقل هذا الإجماع عن ابن المنذر جمع من أهل العلم كابن حجر في الفتح 4/ 123، وابن الملقن في التوضيح 13/ 61، والعيني في عمدة القاري 10/ 272، والزرقاني في شرح الموطأ 2/ 227، وغيرهم. ولم أجد هذا القول في ما وقفت عليه من كتبه.
(4)
الهداية 1/ 117، الاختيار 1/ 130، درر الحكام 1/ 198، مجمع الأنهر 1/ 347، تبيين الحقائق وحاشية الشلبي 1/ 117. وعند الحنفية: يكره صيامه كراهة تحريم. ينظر: البحر الرائق 2/ 285.
(5)
تهذيب المدونة 1/ 357، 437، الرسالة ص 59، الذخيرة 2/ 501، جامع الأمهات ص 171. واختلف المالكية في: النهي هل هو للتحريم أو للكراهة؟ . ينظر: مواهب الجليل 2/ 394.
(6)
الحاوي 3/ 409، حلية العلماء 3/ 148، المجموع 6/ 403. وعندهم: يحرم صيامه. ينظر: المهذب 1/ 346، والتنبيه ص 68، والبيان 3/ 557.
(7)
المغني 3/ 108، والشرح الكبير 3/ 5، وشرح الزركشي 2/ 557 - 558، والإنصاف 3/ 269.
(8)
المحلى 4/ 444.
القول الثاني: يجب صيام يوم الغيم على أنه من رمضان.
وهو المذهب عند: الحنابلة (1).
سبب الخلاف: ويرجع سبب اختلافهم في هذه المسألة إلى ثلاثة أسباب والله أعلم:
السبب الأول: احتياطهم في الغيم خاصة للصيام.
والسبب الثاني: اختلافهم في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن غم عليكم فاقدروا له» (2) هل معناه أتموا عدته، أو ضيقوا له؟ (3).
والسبب الثالث: اختلافهم في مفهوم إتمام العدة هل هي عدة شعبان أو عدة رمضان.
أدلة القول الأول: القائلين بأنه لا يصام يوم الغيم على أنه من رمضان.
الدليل الأول: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشهر تسع وعشرون ليلة؛ فلا تصوموا حتى تروه؛ فإن غم عليكم؛ فأكملوا العدة ثلاثين» (4).
وجه الاستدلال: دل الحديث على أنه يجب على من لم يَرَ الهلال، ولا أخبره من رآه أن يكمل عدة شعبان ثلاثين يوما، ثم يصوم، ولا يجوز له أن يصوم يوم الثلاثين من شعبان (5).
الدليل الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ، أو قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُبِّي عليكم فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين» (6).
(1) مسائل أحمد رواية أبي داوود ص 127، المغني 3/ 108، الروض المربع 1/ 225، دقائق أولي النهى 1/ 470، الإنصاف 3/ 269. وهو من مفردات المذهب. قال المرداوي:"ورد صاحب الفروع جميع ما احتج به الأصحاب للوجوب. وقال: لم أجد عن أحمد قولا صريحا بالوجوب، ولا أمر به، فلا يتوجه إضافته إليه".
(2)
سبق تخريجه صفحة (70).
(3)
ينظر: بداية المجتهد 2/ 47.
(4)
رواه البخاري 3/ 27 رقم 1907، كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا» ، واللفظ له، ومسلم 2/ 760 رقم 1080، كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال، وأنه إذا غم في أوله أو آخره أكملت عدة الشهر
…
(5)
ينظر: نيل الأوطار 4/ 227.
(6)
رواه البخاري 3/ 27 رقم 1909، في الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الهلال فصوموا
…
»، واللفظ له، ومسلم 2/ 762 رقم 1081، كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال.
وجه الاستدلال: في هذا الحديث تصريح بأن عدة الثلاثين المأمور بإتمامها في حديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق -حال الغيم- هي من شعبان (1)؛ فتكون رواية فأكملوا عدة شعبان مُبَيِّنَة (2) لرواية فأكملوا العدة (3).
الدليل الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه سحابة أو ظلمة، فأكملوا العدّة، عدّة شعبان، ولا تستقبلوا الشّهر استقبالا، ولا تصلوا رمضان بيوم من شعبان» (4).
وجه الاستدلال: في هذا الحديث بيان أن اليقين لا يُزيله الشّكّ، ولا يزيله إلّا يقين مثله؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم أمر النّاس ألّا يدّعوا ما هم عليه من يقين شعبان إلّا بيقين رؤية واستكمال العدّة، وأنّ الشّكّ لا يعمل في ذلك شيئا، ولهذا نهى عن صوم يوم الشّكّ؛ اطّراحا لأعمال الشّكّ، وإعلاما أنّ الأحكام لا تجب إلّا بيقين لا شكّ فيه (5).
الدليل الرابع: عن حُذَيفة بن اليَمَان (6) رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة، ثم صوموا حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة قبله» (7).
(1) ينظر: إرشاد الساري 3/ 357.
(2)
المُبَيِّن: في اللغة: المُوَضِّح. وفي الاصطلاح: يطلق البيان على الدليل الذي أوضح المقصود بالمجمل، وهو المبيِّن. ينظر: أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله ص 406، التوقيف على مهمات التعاريف ص 86، تاج العروس 34/ 305.
(3)
ينظر: فتح الباري 4/ 122، عمدة القاري 10/ 282.
(4)
سبق تخريجه صفحة (122).
(5)
ينظر: التمهيد 2/ 39.
(6)
هو: حُذَيْفَةُ بنُ اليَمَانِ العبسي، من كبار الصحابة، وصاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أسلم هو وأبوه. شهد أحدا والخندق وما بعدهما. استعمله عمر على المدائن، وتوفي بها سنة 36 هـ، روى عنه: جابر، وجندب، وغيرهما. ينظر: معرفة الصحابة 2/ 686، والإصابة 2/ 39؛ سير أعلام النبلاء 2/ 361.
(7)
رواه أبو داود 2/ 298 رقم 2326، في الصوم، باب إذا أغمي الشهر، والنسائي 4/ 135 رقم 2126، في الصيام، باب إكمال شعبان ثلاثين. وصححه الألباني في الإرواء 4/ 8.
الدليل الخامس: عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: عجبت ممن يتقدم الشهر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غمّ عليكم فأكملوا العدّة ثلاثين» (1).
وفي رواية: «فإن غم عليكم فأتموا شعبان ثلاثين، إلا أن تروا الهلال قبل ذلك، ثم صوموا رمضان ثلاثين إلا أن تروا الهلال قبل ذلك» (2).
الدليل السادس: وعن عائشة (3) رضي الله عنها؛ قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَتَحَفَّظ (4) من هلال شعبان ما لا يتحفَّظ من غيره؛ يصوم لرؤية رمضان؛ فإن غم عليه؛ عَدَّ ثلاثين يوما ثم صام» (5).
وجه الاستدلال: أن هذه الأحاديث نصوص في أنه لا صوم ولا إفطار إلا بالرؤية للهلال أو إكمال العدة (6).
وبيّن حديث حذيفة رضي الله عنه أن العدة التي يجب إكمالها حال الغيم هي عدة شعبان وعدة رمضان على السواء (7).
(1) رواه أحمد 3/ 405 رقم 1931، والنسائي 4/ 135 رقم 2125، كتاب الصيام، باب إكمال شعبان ثلاثين إذا كان غيم، واللفظ له، والبيهقي في معرفة السنن والآثار 6/ 235 رقم 8576، كتاب الصيام، باب الصوم لرؤية الهلال، وقال الألباني في الإرواء 4/ 6:"وهذا سند صحيح".
(2)
رواه النسائي 4/ 136 رقم 2128، كتاب الصيام، باب إكمال شعبان ثلاثين إذا كان غيم، والدارقطني في السنن 3/ 106 رقم 2165، كتاب الصيام.
(3)
هي: عائشة الصديقة بنت أبي بكر الصديق، أم المؤمنين، كنيت بأم عبد الله، أفقه نساء المسلمين، وكان أكابر الصحابة يراجعونها في أمور الدين، توفيت سنة 58 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 2/ 135، الطبقات الكبرى 8/ 58، الإصابة 8/ 231.
(4)
يتحفّظ: أي يراعي الهلال ويَحرِس عليه. ينظر: مقاييس اللغة 2/ 38، 87، مختار الصحاح ص 76.
(5)
رواه أحمد 42/ 82 رقم 25161، واللفظ له، وأبو داوود 2/ 298 رقم 2325، كتاب الصوم، باب إذا أغمي الشهر، والدارقطني في السنن 3/ 98 رقم 2149، كتاب الصيام، وقال:"هذا إسناد حسن صحيح"، وصححه الألباني في الإرواء 3/ 7.
(6)
ينظر: سبل السلام 1/ 560.
(7)
ينظر: تنقيح التحقيق لابن عبد الهادي 3/ 199.
الدليل السابع: عن عمار بن ياسر رضي الله عنه؛ قال: «من صام اليوم الذي يشك فيه؛ فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم» (1).
وجه الاستدلال: أن حديث عمار رضي الله عنه مفسر بالنهي عن صوم يوم الشك، ويوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون الرؤية غيم هو يوم شك؛ لأنه يحتمل أن يكون من شعبان ويحتمل أن يكون من رمضان، ولا معنى للشك إلا التردد بين الجهتين (2).
الدليل الثامن: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «لو صمت السنة كلها لأفطرت ذلك اليوم الذي يشك فيه من رمضان» (3).
الدليل التاسع: وعن عبد الله بن مسعود (4) رضي الله عنه؛ قال: «لأن أفطر يوما من رمضان ثم أقضيه أحب إلي من أن أزيد فيه ما ليس منه» (5).
الدليل العاشر: وعن حذيفة رضي الله عنه: «أنه كان ينهى عن صوم اليوم الذي يشك فيه» (6).
(1) سبق تخريجه صفحة (121).
(2)
ينظر: شرح كتاب الصيام من العمدة لابن تيمية 1/ 88.
(3)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 352 رقم 7958، كتاب الصيام، باب النهي عن استقبال شهر رمضان بصوم يوم أو يومين، وابن أبي شيبة في المصنف 2/ 322 رقم 9491، كتاب الصيام، باب ما قالوا في اليوم الذي يشك فيه بصيام.
(4)
هو: عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي، أبو عبد الرحمن، من أكابر الصحابة فضلا وعقلا، ومن السابقين إلى الإسلام، شهد المشاهد كلها مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان أقرب الناس إليه هديا ودلا وسمتا، بعثه عمر إلى الكوفة ليعلمهم أمور دينهم، توفي سنة 32 هـ. ينظر: الطبقات الكبرى 3/ 150؛ الإصابة 4/ 198؛ سير أعلام النبلاء 1/ 461.
(5)
رواه البيهقي في الكبرى 4/ 352 رقم 7959، في الصيام باب النهي عن استقبال شهر رمضان بصوم يوم أو يومين، واللفظ له، وابن أبي شيبة في المصنف 2/ 322 رقم 9490، كتاب الصيام باب ما قالوا في اليوم الذي يشك فيه بصيام، والطبراني في المعجم الكبير 9/ 312 رقم 9564.
(6)
رواه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 352 رقم 7960، كتاب الصيام، باب النهي عن استقبال شهر رمضان بصوم يوم أو يومين، وابن أبي شيبة في المصنف 2/ 323 رقم 9497، كتاب الصيام، باب ما قالوا في اليوم الذي يشك فيه بصيام.
الدليل الحادي عشر: ولأن الصوم عبادة فلا يجوز الدخول فيها إلا على يقين كسائر العبادات، وبيانه: أن الشرع لما أوجب العبادات المؤقتة نصب لها أسبابا وأعلاما، فدخول وقت الصلاة سبب لوجوبها، فلو شك فيه لم يجز له فعلها وكذلك الصيام (1).
أدلة القول الثاني: القائلين يجب صيام يوم الغيم على أنه من رمضان.
الدليل الأول: عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الشهر تسع وعشرون؛ فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه؛ فإن غم عليكم؛ فاقدروا له» .
قال نافع: "فكان عبد الله بن عمر إذا مضى من شعبان تسع وعشرون؛ يبعث من ينظر، فإن رأى؛ فذاك، وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر؛ أصبح مفطرا، وإن حال دون منظره سحاب أو قتر؛ أصبح صائما"(2).
وجه الاستدلال من وجهين:
الأول: أن ابن عمر قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «فاقدروا له» ، وفسر ذلك بأن كان يصوم يوم الثلاثين مع إغماء السماء، والصحابي إذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظا مجملا، وفسره بمعنى؛ وجب الرجوع إلى تفسيره؛ لأنه أعلم باللغة، ولأنه يدري بقرائن الأحوال من النبي صلى الله عليه وسلم ما يعلم به قصده، ولأنه شهد التنزيل وحضر التأويل وشاهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيكون أعلم بما ينقله ويرويه (3).
الثاني: من جهة اللغة؛ فقوله: «فَاقْدُرُوا لَه» ؛ بمعنى: ضَيِّقُوا له؛ ومنه قوله: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} (4)؛ أي: نضَيِّق، وقوله:{يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} (5) أي: يضيق. فالتضييق لا يكون إلا بأن يحسب له أقل زمان يطلع فيه، وهو طلوعه ليلة الثلاثين (6).
(1) ينظر: تحقيق الرجحان ص 94، والمغني 3/ 108، والاختيار لتعليل المختار 1/ 128.
(2)
سبق تخريجه صفحة (123).
(3)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 91.
(4)
سورة الأنبياء: الآية: 87.
(5)
سورة الشورى: آية: 12.
(6)
ينظر: شرح كتاب الصيام من العمدة 1/ 92، المصباح المنير 2/ 492.
الدليل الثالث: عن عِمْرَان بنُ حُصَيْن (1) رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له -أو لآخر-: «أصمت من سَرَر (2) شعبان؟ » ، قال: لا، قال:«فإذا أفطرت، فصم يومين» (3).
وجه الاستدلال: أنه لا وجه لهذا الحديث إلا أن يكون أمر بصوم السرار مع الغيم، فلما لم يصم ذلك الرجل السرار؛ أمره بالقضاء؛ لأنه قد صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:«لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوما، فليصمه» (4).
وفي هذا الحديث أمر صلى الله عليه وسلم بصوم السرر وقضائه، وهو يوم أو يومين، فيحمل النهي عن التقدم على حال الصحو، ويحمل صيام السرر على حال الغيم، توفيقا بين الحديثين (5).
الدليل الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لأن أصوم اليوم الّذي يشكّ فيه من شعبان أحبّ إليّ من أن أفطر يوما من رمضان» (6).
الدليل الخامس: عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: (يا أيّها النّاس، إنّا قد رأينا الهلال يوم كذا وكذا، وأنا متقدّم بالصّيام، فمن أحب أن يفعله فليفعله)(7).
(1) هو: عِمْرَانُ بنُ حُصَيْنِ بن عُبَيد بن خلف الخزاعي الكعبي، أبو نجيد، من فضلاء الصحابة، أسلم عام خيبر، وغزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوات، بعثه عمر بن الخطاب إلى البصرة ليفقه أهلها، وكان قد اعتزل الفتنة فلم يدخل فيها، توفي بالبصرة سنة 52 هـ. ينظر: معرفة الصحابة 4/ 2108، الإصابة 4/ 584، سير أعلام النبلاء 2/ 508.
(2)
سَرَر الشهر: آخره، وفيه ثلاث لغات، وسمي آخر الشهر سرا لاستسرار القمر فيه. وقيل أوسطه، وقيل أوله. ينظر: مشارق الأنوار 2/ 212، وتاج العروس 12/ 7، والنهاية /912.
(3)
أخرجه البخاري 3/ 41 رقم 1983، كتاب الصيام، باب الصوم من آخر الشهر، ومسلم 2/ 820 رقم 1161، كتاب الصيام، باب صوم سرر شعبان، واللفظ له.
(4)
أخرجه البخاري 3/ 28 رقم 1914، كتاب الصوم، باب لا يتقدمن رمضان بصوم يوم ولا يومين، ومسلم 2/ 762 رقم 1082، كتاب الصيام، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين.
(5)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 112.
(6)
رواه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 356 رقم 7972، كتاب الصيام، باب من رخص من الصحابة في صوم يوم الشك، وفي معرفة السنن والآثار 6/ 234 رقم 8572، باب الصوم لرؤية الهلال.
(7)
رواه أبو داوود 2/ 299 رقم 2329، كتاب الصوم، باب في التقدم، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 355 رقم 7970، كتاب الصيام، باب الخبر الذي ورد في صوم سرر شعبان، وقال الألباني في ضعيف أبي داود 2/ 258:"إسناده ضعيف".
الدليل السادس: عن يزيد بن خمير، عن الرسول الذي أتى عائشة رضي الله عنها في اليوم الذي يشك فيه من رمضان؛ قال: قالت عائشة: «لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان» (1).
الدليل السابع: عن أسماء (2) رضي الله عنها: «أنها كانت تصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان» (3).
وجه الاستدلال: فهذه الآثار من الصحابة رضي الله عنهم قالوها وفعلوها في أوقات متفرقة، وأكثر هؤلاء مثل أبي هريرة وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم هم الذين رووا أحاديث إكمال العدة وأحاديث النهي عن التقدم، وقد روي عنهم وعن غيرهم النهي عن صوم يوم الشك والأمر بإكمال العدة (4).
الراجح: الذي يترجح والله أعلم هو القول الأول: أنه لا يصام يوم الغيم على أنه من رمضان؛ وذلك لصحة أدلتهم، وصراحتها في منع صيام يوم الغيم، ولأنه يوم الشك الذي نهي عن صيامه، ولورود الأمر بإتمام شعبان ثلاثين.
أما أدلة القول الثاني فيجاب عنها بما يلي:
أولا: أما قولهم إن صيام ابن عمر رضي الله عنهما يوم الغيم هو تفسير لقوله صلى الله عليه وسلم: «فاقدروا له» بمعنى التضييق، فيجاب عنه من وجهين:
(1) رواه أحمد 41/ 421 رقم 24945، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 355 رقم 7971، كتاب الصيام، باب من رخص من الصحابة في صوم يوم الشك، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 148:"رجاله رجال الصحيح"، وقال الألباني في الإرواء 4/ 11:"سنده صحيح".
(2)
هي: أسماء بنت أبي بكر الصديق، من الفضليات من نساء الصحابة، ووالدة عبد الله بن الزبير. لها في الصحيحين 56 حديثا، توفيت سنة 73 هـ. ينظر: الطبقات الكبرى 8/ 249، معرفة الصحابة 6/ 3253، تاريخ الإسلام 2/ 785.
(3)
رواه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 356 رقم 7972، كتاب الصيام، باب من رخص من الصحابة في صوم يوم الشك، وفي معرفة السنن والآثار برقم 8572.
(4)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 100.
الأول: أن ابن عمر رضي الله عنهما روى هذا الحديث بلفظ: «فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين» (1) ، (فيحمل المُطْلق على المُقيَّد)(2)(3).
فيكون معنى: «اقدروا له» عند ابن عمر رضي الله عنهما أتموه ثلاثين، كما جاءت هذه الرواية الصريحة عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تبارك وتعالى جعل الأهلة مواقيت، فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له، أتموه ثلاثين» (4).
فهذه الرواية الصحيحة صريحة في إتمام الثلاثين، وإن كانت السماء مغيمة.
والروايات يفسر بعضها بعضا، والحديث إذا جمعت طرقه تبين المراد منه (5).
الثاني: وأما صيام ابن عمر رضي الله عنه فليس دليلا على أن ذلك اليوم ليس يوم شك؛ بدليل أن ابن عمر رضي الله عنه كان يصومه ولا يوجب صيامه. فدل على أنه كان يصومه احتياطا، وهو اجتهاد منه.
قال ابن القيم (6): "ويدل على ذلك أنه رضي الله عنه لو فهم من قوله صلى الله عليه وسلم: «اقدروا له تسعا وعشرين ثم صوموا» -كما يقوله الموجبون لصومه-، لكان يأمر بذلك أهله وغيرهم، ولم يكن يقتصر على صومه في خاصة نفسه ولا يأمر به، ولبين أن ذلك هو الواجب على الناس"(7).
(1) رواه مسلم 2/ 759 رقم 1080، كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال، وأنه إذا غم في أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوما.
(2)
المُقيّد: في اللغة: من القَيد وهو الرَبْط. واصطلاحا: هو ما دل لا على شائع في جِنسه، فتدخل فيه المعارف والعمومات كلها. ينظر: تاج العروس 9/ 86، إرشاد الفحول 2/ 6. وتنظر القاعدة في: المحصول للرازي 3/ 141، روضة الناظر 2/ 103، إرشاد الفحول 2/ 6.
(3)
ينظر: المجموع 6/ 409.
(4)
سبق تخريجه صفحة (124).
(5)
ينظر: طرح التثريب 4/ 107 - 108.
(6)
هو: محمد بن أبي بكر بن سعد الزرعي، شمس الدين الدمشقي، من كبار الفقهاء، تتلمذ على: ابن تيمية، ولازمه كثيرا وتأثر به، من تلاميذه: ابن كثير، وابن رجب، والذهبي، من تصانيفه الكثيرة: تهذيب سنن أَبِي دَاوُد؛ وإعلام الموقعين؛ ومدارج السالكين، توفي سنة 751 هـ. ينظر: المقصد الأرشد 2/ 384، ذيل طبقات الحنابلة 5/ 170، الدرر الكامنة 5/ 137.
(7)
زاد المعاد 2/ 44 - 45.
ثانيا: وأما قولهم: إن معنى قوله: «فاقدروا له» بمعنى التضييق، فيجاب عنه: أن معنى الحديث: قدروا له تمام العدد ثلاثين يوما، أي انظروا في أول الشهر، واحسبوا تمام ثلاثين يوما.
قال الخطابي (1): "فاقدروا له معناه التقدير له بإكمال العدد ثلاثين. يقال: قَدَرْتُ الشيء أَقْدره قَدْرا، بمعنى: قَدَّرْتُه تَقديرا، ومنه قوله تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} (2) "(3).
ثالثا: وأما قولهم: إن صوم السرار يكون مع الغيم، والنهي عن التقدم يكون في الصحو، فيجاب عنه من وجهين:
الأول: إن العلماء اختلفوا في معنى السرار: فقيل السرار أول الشهر، وقيل أوسطه، وقيل آخره (4).
الثاني: وعلى التسليم بأن السرار هو آخر الشهر، فيكون الجمع بين الحديثين ممكن وذلك: بأن يحمل النهي عن التقدم على من ليست له عادة بذلك، ويحمل الأمر بصيام السرار على من له عادة (5).
رابعا: وأما استدلالهم بآثار الصحابة الذين كانوا يصومون يوم الشك فيجاب عنه بما يلي:
أما الرواية عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ فرواية ضعيفة لا تحفظ إلا من هذا الوجه (6).
وكذلك أثر معاوية رضي الله عنه؛ فإنه ضعيف لا يصح (7).
وأما الاحتجاج بصيام بعض الصحابة رضي الله عنهم ممن ثبت صيامهم؛ فلا دلالة فيه على وجوب صيام يوم الشك؛ وذلك لأنهم قالوا: "لأن نصوم يوما من شعبان أحب إلينا من أن نُفطِر
(1) هو: أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي، كان إماما في الفقه والحديث واللغة، من أشهر شيوخه: أبي بكر القفال، وأبي علي بن أبي هريرة، وغيرهما، وعنه: الحاكم، والشيخ أبو حامد الإسفراييني، من مؤلفاته: معالم السنن، وكتاب غريب الحديث، توفي سنة 388 هـ، ينظر: طبقات الشافعية الكبرى 3 - 282، طبقات الشافعيين ص 307، طبقات الفقهاء الشافعية 1/ 467.
(2)
سورة المرسلات: آية: 23.
(3)
معالم السنن 2/ 94.
(4)
ينظر: السنن الكبرى للبيهقي 4/ 355، وشرح مسلم للنووي 8/ 53 - 54.
(5)
ينظر: نيل الأوطار 4/ 308، حاشية ابن القيم على سنن أبي داوود 6/ 323 - 324.
(6)
ينظر: المجموع 6/ 432.
(7)
ينظر: العلل المتناهية لابن الجوزي 2/ 38، وطرح التثريب 4/ 111.
يوما من رمضان"، ولو كان هذا اليوم من رمضان حتما عندهم لقالوا: "هذا اليوم من رمضان فلا يجوز لنا فطره" (1).
قال البَيْهَقي (2): "ومتابعة السُنَّة الثابتة، وما عليه أكثر الصحابة وعوام أهل المدينة، أَولى بنا، وهو: مَنع صوم يوم الشك"(3).
والله تعالى أعلم.
(1) ينظر: زاد المعاد 2/ 46.
(2)
هو: أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله، أبو بكر البيهقي النيسابوري، الحافظ الفقيه الشافعي، وهو أول من جمع نصوص الإمام الشافعي، جمعها في عشر مجلدات، وكان من أكثر الناس نصرا لمذهب الشافعي، توفي سنة 458 هـ، من تصانيفه الكثيرة: السنن الكبير، والسنن الصغير، وكتاب الخلاف، ومناقب الشافعي. ينظر: طبقات الشافعية 4/ 8، تاريخ الإسلام 10/ 95، والأعلام 1/ 116.
(3)
السنن الكبرى 4/ 356، وينظر: المجموع 6/ 405.