الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السابع: متى يدخل المعتكِف معتكَفه
؟ .
اختيار الشيخ: اختار قول الجمهور أن المعتكِف يدخل معتكفَه قبل غروب شمس يوم العشرين ليلة الحادي والعشرين من رمضان، فقال - مفسرا لقول عائشة رضي الله عنها:«دخل في معتكفه» -: "أي: انقطع فيه، وتخلى بنفسه بعد صلاة الصبح، لا أن ذلك وقت ابتداء اعتكافه، بل كان يعتكف من الغروب ليلة الحادي والعشرين، وإلا لما كان معتكفا العشر بتمامه، الذي ورد في عدة أخبار أنه كان يعتكف العشر بتمامه"(1).
اختلف أهل العلم في وقت دخول المعتكِف إلى معتكَفه إذا أراد اعتكاف العشر الأواخر من شهر رمضان على قولين:
القول الأول: يدخل إلى معتكَفه قبل غروب الشمس من يوم العشرين (ليلة إحدى وعشرين).
وهو قول: الحنفية (2)، والمالكية (3)، والشافعية (4) ، والحنابلة في المذهب (5)، والظاهرية (6)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: يدخل إلى معتكَفه بعد صلاة الصبح من يوم الحادي والعشرين.
وهو رواية عن: أحمد (7)، وقول الأوزاعي (8) ، واختاره ابن المنذر (9).
سبب الخلاف: والسبب في اختلافهم سببان -والله أعلم-:
الأول: هل المقصود اعتكاف اليوم مع ليلته، أو المقصود اعتكاف اليوم فقط؟ (10).
(1) مرعاة المفاتيح 7/ 158. وحديث عائشة سيأتي ص 654.
(2)
بدائع الصنائع 2/ 111، مراقي الفلاح ص 267، البحر الرائق 2/ 329، رد المحتار 2/ 452.
(3)
الرسالة ص: 64، الكافي 1/ 353، جامع الأمهات ص 181، التلقين 1/ 76، المعونة 1/ 493.
(4)
الأم 2/ 115، المهذب 1/ 351، العزيز 3/ 250، روضة الطالبين 2/ 401.
(5)
الهداية ص 167، الكافي 1/ 456، شرح الزركشي 3/ 20، الإنصاف 3/ 370.
(6)
المحلى 3/ 435.
(7)
المغني 3/ 208، الكافي 1/ 456، الإنصاف 3/ 369.
(8)
الإشراف لابن المنذر 3/ 161، معالم السنن 2/ 138، شرح مسلم للنووي 8/ 68، المغني 3/ 208.
(9)
الإشراف 3/ 161.
(10)
ينظر: بداية المجتهد 2/ 78، والاستذكار 3/ 401، والإعلام بفوائد عمدة الأحكام 5/ 435.
والثاني: اختلاف ظواهر النصوص: فحديث أبي سعيد رضي الله عنه أفاد أنه صلى الله عليه وسلم دخل معتكفه ليلة الحادي والعشرين، وحديث عائشة رضي الله عنها يُفهم منه أنه صلى الله عليه وسلم دخل معتكفه بعد صلاة الفجر.
أدلة القول الأول: القائلين بأنه يدخل إلى معتكَفه قبل غروب شمس يوم العشرين (ليلة الحادي والعشرين).
الدليل الأول: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر الأول من رمضان واعتكفنا معه، فأتاه جبريل، فقال: إن الذي تطلب أمامك، فاعتكف العشر الأوسط، فاعتكفنا معه، فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلب أمامك، فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا صبيحة عشرين من رمضان فقال:«من كان اعتكف مع النبي صلى الله عليه وسلم، فليرجع، فإني أريت ليلة القدر، وإني نسيتها، وإنها في العشر الأواخر، في وتر» (1).
وفي رواية: اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط، فلما كان صبيحة عشرين نقلنا متاعنا، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«من كان اعتكف معي فليرجع إلى معتكفه، فإني رأيت هذه الليلة، ورأيتني أسجد في ماء وطين» . فلما رجع إلى معتكفه، قال: وهاجت السماء فمطرنا، فو الذي بعثه بالحق لقد هاجت السماء من آخر ذلك اليوم، وكان المسجد عريشا، فلقد رأيت على أنفه وأرنبته أثر الماء والطين (2).
وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر» (3).
وفي رواية: «وإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر» (4).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين في هذا الحديث أن من اعتكف العشر الأواخر؛ فإنه يعتكف ليلة إحدى وعشرين (5)؛ لأن العشر اسم لليالي مع الأيام، ولا يكون معتكفا جميع العشر إلا باعتكاف أول ليلة منه وهي ليلة الحادي والعشرين.
(1) سبق تخريجه صفحة (624).
(2)
رواه البخاري 3/ 50 رقم 2040، كتاب الاعتكاف، باب من خرج من اعتكافه عند الصبح.
(3)
رواه البخاري 3/ 48 رقم 2027، كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف في العشر الأواخر.
(4)
رواه مسلم 2/ 825 رقم 1167، كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر، والحث على طلبها
…
(5)
ينظر شرح العمدة كتاب الصيام 2/ 779.
قال ابن قدامة -بعد أن ذكر الحديث الذي فيه: «فليعتكف العشر الأواخر» -: "لأن العشر بغير هاء عدد الليالي، فإنها عدد المؤنث، قال الله تعالى:{وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (1).
وأول الليالي العشر ليلة إحدى وعشرين" (2).
وقال ابن تيمية: "لأنه لا يكون معتكفا جميع العشر إلا باعتكاف أول ليلة منه؛ لا سيما وهي إحدى الليالي التي يلتمس فيها ليلة القدر"(3).
الدليل الثاني: "ولأن كل ليلة تتبع اليوم الذي بعدها؛ ألا ترى أن شهر رمضان يدخل بغروب الشمس في آخر يوم من شعبان"(4).
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه يدخل إلى معتكفه بعد صلاة الصبح من يوم العشرين.
استدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خباء فيصلي الصبح ثم يدخله» (5).
وفي رواية: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه (6).
وفي رواية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان، وإذا صلى الغداة دخل مكانه الذي اعتكف فيه» (7).
وفي رواية: «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح أتى معتكفه» (8).
وجه الاستدلال: في الحديث أن المعتكف يبتدئ اعتكافه من أول النهار، ويدخل في معتكفه بعد أن يصلي الفجر (9).
(1) سورة الفجر: آية: 2.
(2)
المغني 3/ 129.
(3)
شرح عمدة الفقه كتاب الصيام 2/ 777.
(4)
الحاوي الكبير 3/ 488.
(5)
سبق تخريجه صفحة (629).
(6)
أخرجه مسلم 2/ 831 رقم 1172، في الاعتكاف، باب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان.
(7)
رواه البخاري 3/ 51 رقم 2041، كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف في شوال.
(8)
رواه النسائي في الكبرى 3/ 381 رقم 3333، في الاعتكاف، باب: متى يأتي المعتكف معتكفه؟ .
(9)
ينظر: معالم السنن 2/ 138.
قال الصنعاني (1): "فيه دليل على أن أول وقت الاعتكاف بعد صلاة الفجر، وهو ظاهر في ذلك"(2).
الترجيح: الذي يترجح في هذه المسألة -والله أعلم- هو القول الأول: أن المعتكف يدخل إلى معتكفه قبل غروب الشمس؛ لأن بذلك تكتمل عدة العشر الليالي، وبغيره تكون عدتها ناقصة، وهو ما أفاده حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وإن دخل معتكفه صبح عشرين، فهو الأفضل والأولى؛ لأنه أَوْلى ما حُمِل عليه حديث عائشة رضي الله عنها، فكان بالاعتماد أحرى (3)، كما سيتبين -إن شاء الله- عند المناقشة في الصفحة الآتية.
وأما استدلال أصحاب القول الثاني بحديث عائشة رضي الله عنها على أن المعتكف يدخل معتكفه بعد صبح يوم الحادي والعشرين فيجاب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن الحديث محمول على أنه صلى الله عليه وسلم دخل المعتكف وانقطع فيه وتخلى بنفسه بعد صلاته الصبح، لا أن ذلك وقت ابتداء الاعتكاف، بل كان من قبل المغرب معتكفا لابثا في المسجد، فلما صلى الصبح انفرد (4).
قال ابن دقيق العيد: "ولكنه أُوِّل على أن الاعتكاف كان موجودا، وأن دخوله في هذا الوقت لمعتكَفه للانفراد عن الناس بعد الاجتماع بهم في الصلاة، لا أنه كان ابتداء دخول المعتكَف، فيكون المراد بالمعتكَف هنا: الموضع الذي خصَّه بهذا، وأعدَّه له. ويُشعِر بذلك ما في هذه الرواية: «دخل مكانه الذي اعتكَف فيه» بلفظ الماضي"(5).
(1) هو: محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد بن علي، الكحلاني، ثم الصنعاني، يعرف بالأمير الصنعاني. وُلد سنة 1099 هـ، هو أحد أئمة اليمن المتأخرين، من مصنفاته: سبل السلام شرح بلوغ المرام؛ التنوير شرح الجامع الصغير للسيوطي. توفي بصنعاء سنة 1182 هـ. ينظر: البدر الطالع 2/ 133 - 139، أبجد العلوم 868، الأعلام 6/ 38.
(2)
سبل السلام 1/ 594.
(3)
حاشية السندي على النسائي 2/ 44، وحاشيته على ابن ماجه 1/ 539.
(4)
ينظر: شرح مسلم للنووي 8/ 69، وشرح المشكاة للطيبي 5/ 1631، والتوضيح لابن الملقن 13/ 645، وطرح التثريب 4/ 168، وعمدة القاري 11/ 148.
(5)
إحكام الأحكام 2/ 41.
الوجه الثاني: أن من أعظم ما يطلب بالاعتكاف إدراك ليلة القدر، وهي قد تكون ليلة الحادي والعشرين كما جاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، فينبغي له أن يكون معتكفا فيها لا أن يعتكف بعدها (1).
الوجه الثالث -وهو المختار إن شاء الله-: أن حديث عائشة رضي الله عنها محمول على أنه صلى الله عليه وسلم دخل صبح يوم العشرين.
قال ابن تيمية: "ويشبه -والله أعلم- أن يكون دخوله معتكفه صبيحة العشرين قبل الليلة الحادية والعشرين؛ فإنه ليس في حديث عائشة أنه كان يدخل معتكفه صبيحة إحدى وعشرين، وإنما ذكرت أنه كان يدخل المعتكف بعد صلاة الفجر، مع قولها: «إنه أمر بخِبائه فضُرِب، ثم أراد الاعتكاف في العشر الأواخر»، والعشر صفة لليالي لا للأيام، فمحال أن يريد الاعتكاف في الليالي العشر وقد مضت ليلة منها، وإنما يكون ذلك إذا استقبلها بالاعتكاف. وقد ذكرت أنه اعتكف عشْرا قضاءً للعشر التي تَرَكها، وإنما يقضي عشْرا من كان يريد أن يعتكف عشْرا. ويؤيد ذلك أنه لم يكن يدخل معتكَفه إلا بعد صلاة الفجر، وقد مضى من النهار جزء، مع أنه لم يكن يخرج من منزله إلى المسجد حتى يُصلّي ركعتي الفجر في بيته، وهذا لا يكون مستوعبا للنهار أيضا"(2).
قال السِّنْدي (3): "وهذا الجواب هو الذي يفيده النظر في أحاديث الباب، فهو أولى، وبالاعتماد أحرى"(4). والله أعلم.
(1) ينظر: حاشية السندي على سنن النسائي 2/ 44، وحاشيته على ابن ماجه 1/ 538.
(2)
شرح العمدة كتاب الصيام 2/ 779 - 780.
(3)
هو: نور الدين محمد بن عبد الهادي التتوي، أبو الحسن السندي، فقيه حنفي، عالم بالحديث والتفسير والعربية، توطن بالمدينة إلى أن توفي سنة 1138 هـ، له من المؤلفات: حاشية على: الصحيحين، والسنن الأربعة، ومسند الإمام أحمد، وغير ذلك. ينظر: الأعلام 6/ 253، فهرس الفهارس 1/ 148، سلك الدرر 4/ 66.
(4)
حاشيته على النسائي 2/ 44، وحاشيته على ابن ماجه 1/ 539.