الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة: حكم تعيين النية
.
اختيار الشيخ: اختار لزوم كون النية معينة عن كل صوم واجب، سواء كان صيام رمضان أو غيره، فقال:"ولا بدمن كون النية جازمة معينة في كل صوم واجب، وهو أن يعتقد أنه يصوم غدا من رمضان أو من قضائه أو من كفارة أو نذر"(1).
تحرير محل الخلاف: اتفق العلماء أن صيام القضاء، والكفارات، والنذور المطلقة لا يجوز إلا بتعيين النية (2).
واختلفوا في وجوب تعيينها لشهر رمضان على قولين:
القول الأول: يجب تعيين النية في صيام رمضان.
وبه قال: المالكية (3) ، والشافعية (4) ، والحنابلة في المذهب (5)، والظاهرية (6)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: لا يجب تعيين النية لشهر رمضان، بل لو نوى الصوم مطلقا، أو نوى نفلا، وقع عن صيام رمضان.
وبه قال: الحنفية (7) ، والحنابلة في رواية (8).
سبب الخلاف: وسبب اختلافهم في هذه المسألة راجع إلى أمرين كما قاله ابن رشد:
السبب الأول: "هل الكافي في تعيين النية في هذه العبادة هو تعيين جنس العبادة أو تعيين شخصها؟ ؛ وذلك أن كِلا الأمرين موجود في الشرع"(9).
(1) مرعاة المفاتيح 6/ 466.
(2)
ينظر: المبسوط للسرخسي 3/ 135، والإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 425، وكفاية النبيه 6/ 278، وشرح المشكاة للطيبي 5/ 1586، والمغني 3/ 112.
(3)
الكافي 1/ 336، بداية المجتهد 2/ 55، الذخيرة 2/ 498، مواهب الجليل 2/ 418.
(4)
الحاوي 3/ 402، البيان 3/ 492، المجموع 6/ 302، منهاج الطالبين ص 75.
(5)
المغني 3/ 111، شرح الزركشي 2/ 565، المبدع 3/ 18، الإنصاف 3/ 293.
(6)
المجموع 6/ 302.
(7)
الأصل 2/ 333، بدائع الصنائع 2/ 83، مراقي الفلاح 1/ 238، رد المحتار 2/ 378.
(8)
الكافي 1/ 439، الفروع 4/ 454، شرح الزركشي 2/ 565، المبدع 3/ 18، الإنصاف 3/ 293.
(9)
بداية المجتهد 2/ 55.
السبب الثاني: "واختلافهم أيضا في إذا نوى في أيام رمضان صوما آخر، هل ينقلب أو لا ينقلِب؟ سببه أيضا: أن من اِلعبادة عندهم من ينقلب مِن قِبَل أَنَّ الوقت الذي تُوقَع فيه مختص بالعبادة التي تنقلب إليه، ومنها ما ليس ينقلب"(1).
أدلة القول الأول: القائلين: بأنه يجب تعيين النية في صيام شهر رمضان.
الدليل الأول: قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (2).
وجه الاستدلال من وجهين: الأول: معلوم أن هذه الهاء في قوله: {فَلْيَصُمْهُ} كناية عن الشهر وعائدة إليه، فيصير تقدير الكلام: فلينوِ الصيام له، ولو أراد جنس الصوم مطلقا، لقال: فليصم. فلما قيده بالهاء دل على وجوب تعيين النية له (3).
الثاني: ولأن أَمْرَه سبحانه وتعالى بصوم هذا الشهر متضمن للأمر بنيَّته، فإن من صام فيه تطوعا أو قضاءً أو صوما مطلقا؛ لم يصمه، وإنما صام فيه (4).
الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (5).
وجه الاستدلال: منطوق الحديث أن له ما ينويه، ومفهومه أنه ليس له ما لم ينوه، وهذا إذا نوى تطوعا لم يَنْو صوم رمضان، فوجب أن لا يقع الاحتساب له بشيء لم يَنْوه. وكان ظاهر الحديث يقتضي أن يكون له أجر ما نواه من صيام، لكن الإجماع أبطله (6).
الدليل الثالث: عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يُجْمِع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له» (7).
(1) المصدر السابق.
(2)
سورة البقرة: آية: 185.
(3)
ينظر: الحاوي الكبير 3/ 402.
(4)
ينظر: شرح عمدة الفقه كتاب الصيام 1/ 205.
(5)
سبق تخريجه صفحة (115).
(6)
ينظر: الحاوي الكبير 3/ 402، الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 425، شرح عمدة الفقه كتاب الصيام 1/ 205.
(7)
رواه أبو داود 2/ 329 رقم 2454، في الصوم، باب النية في الصيام، والترمذي 3/ 99 رقم 730، في الصوم، باب ما جاء لا صيام لمن لم يعزم من الليل، والنسائي 4/ 196 رقم 2333، في الصيام، باب النية في الصيام، وقال الألباني في صحيح أبي داود 7/ 213 رقم 2118:"إسناده صحيح".
وجه الاستدلال: أن الصائم إذا لم يعيِّن رمضان، ولا قضاءه، ولا النذر، ولا الكفارة، لم يُجمِع صوم ذلك من الليل (1).
الدليل الرابع: ولأنه صوم واجب، فلم يجز بنية النفل كالقضاء والنذر (2).
الدليل الخامس: ولأن البدل من شأنه أن يساوي حكم مبدله، أو يكون أخف منه وأضعف، فأما أن يكون آكد منه وأقوى فلا. ثم كان تعيين النية في القضاء واجبا، فبأن يكون واجبا في الأداء أولى (3).
الدليل السادس: وقياسا على طواف الإفاضة في وجوب تعيين النية، فلو طاف ينوي به الوداع، أو طاف بنية الطواف مطلقا، لم يجزئه عن طواف الإفاضة (4).
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه لا يجب تعيين النية لشهر رمضان، بل لو نوى الصوم مطلقا، أو نوى نفلا، وقع عن صيام رمضان.
الدليل الأول: قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (5).
وجه الاستدلال: فمن نوى مطلقا، أو بنية النفل، يكون قد شهد الشهر وصامه؛ فيخرج عن العهدة (6).
الدليل الثاني: لأن الوقت في رمضان واحد لا يتنوع، فلا حاجة إلى التمييز بتعيين النية، بخلاف صوم القضاء والنذر والكفارة؛ لأن الوقت خارج رمضان متنوع، فوقعت الحاجة إلى التعيين بالنية (7).
الدليل الثالث: وقياسا على طواف القدوم، إذا نوى من فعله أن يجعلها عمرة: فإن طوافه ينقلب إلى طواف واجب، بينما طواف القدوم مستحب (8).
(1) ينظر: كفاية النبيه 6/ 278.
(2)
ينظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 425.
(3)
ينظر: الحاوي 3/ 402، والإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 425، وكفاية النبيه 6/ 278.
(4)
ينظر: المغني 3/ 112، وجامع العلوم والحكم 1/ 87.
(5)
سورة البقرة: آية: 185.
(6)
ينظر: بدائع الصنائع 2/ 84.
(7)
ينظر بدائع الصنائع 2/ 84، وشرح عمدة الفقه كتاب الصيام 1/ 201.
(8)
ينظر: المغني 3/ 112، جامع العلوم والحكم 1/ 87.
الدليل الرابع: وقياسا على ما قلتموه في الحج فيمن أحرم بحجة تطوع وعليه حجة الإسلام، أنها تنتقل إلى فرضه، كذلك في صوم رمضان، إذا نواه عن نذر وكفارة، أو تطوع انتقلت بِنِيّته إلى فرضه (1).
الراجح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الأول: أنه يجب تعيين النية في صيام رمضان؛ وذلك لصحة ما استدلوا به ولدقة وجوه الاستنباط من الأدلة.
وأما الجواب عما استدل به أصحاب القول الثاني فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما استدلالهم بالآية: فقد مضى الجواب عنه في أدلة الجمهور وأن وجه الاستدلال الذي فهموه منها غير مراد.
ثانيا: وأما قولهم: إن زمان رمضان مستحق الصيام، فلم يفتقر إلى تعيين النية، فيجاب عنه:
أنه منتقض بمن بقي عليه من وقت الصلاة قدر ما يفعلها فيه، فقد استحق زمان فعلها ووجب عليه تعيين النية فيها (2).
ومما يضعف هذا القول أيضا: تفريقهم بين المسافر والمقيم، وذلك أنهم يقولون إن المسافر لو نوى رمضان عن نذر أو كفارة أجزأ عما نواه، بينما المقيم عندهم لو نوى رمضان عن نذر أو كفارة لم يقع إلا عن رمضان (3).
ثالثا: وأما قياسهم انقلاب النية من النفل إلى الفرض في رمضان على طواف القدوم إذا نوى من فعله أن يجعلها عمرة، فيجاب عنه:
أنه يُفَرَّق بين من يكون طوافه في إحرام انقلب، كالإحرام الذي يفسخه ويجعله عمرة، فينقلب الطواف فيه تبعا لانقلاب الإحرام، كما ينقلب الطواف في الإحرام الذي نوى به التطوع إذا كان عليه حَجَّة الإسلام، تبعا لانقلاب إحرامه من أصله، ووقوعه عن فرضه،
(1) ينظر: شرح عمدة الفقه كتاب الصيام 1/ 201، وينظر: الأشباه والنظائر للسيوطي 1/ 18.
(2)
ينظر: الحاوي الكبير 3/ 403، المسالك لابن العربي 4/ 169.
(3)
ينظر: الحاوي الكبير 3/ 403. وهذا الذي ذُكِر: عن أبي حنيفة، وخالفه صاحباه. ينظر: بدائع الصنائع 2/ 84.
بخلاف ما إذا طاف الإفاضة بنية الوداع، أو التطوع؛ فإن هذا لا يجزئه؛ لأنه لم ينو به الفرض، ولم ينقلب فرضا تبعا لانقلاب إحرامه (1).
رابعا: وأما القياس على من أحرم بحجة تطوع وعليه حجة الإسلام، فإنها تنتقل إلى فرضه، فيجاب عنه من وجهين:
الأول: أن الجميع متفقون أن هناك فرقا بين الصيام والحج، وذلك: أن عند الشافعية والحنابلة، أنه إذا أحرم بحجة التطوع انتقل إلى فرضه، وأجزأه (2). وعند أبي حنيفة ومالك، لا ينتقل عما نواه (3).
وعند أبي حنيفة إذا نوى صيام التطوع انتقل إلى فرضه وأجزأه، وعند الجمهور أنه لا ينتقل إلى فرضه، ولا يجزيه عما نواه، وإذا وقع الفرق بينهما إجماعا لم يجزه اعتبار أحدهما بالآخر (4).
الوجه الثاني: وعلى التسليم بأن الحج لا يفتقر إلى تعيين النية، فالفرق بينه وبين الصيام واضح وذلك: أنه في الحج لما لم يفتقر قضاؤه إلى التعيين، لم يفتقر أداؤه إلى التعيين. ولما افتقر قضاء الصوم إلى التعيين، افتقر أداؤه إلى التعيين (5).
والله أعلم.
(1) ينظر: جامع العلوم والحكم 1/ 87.
(2)
ينظر مذهب الشافعية في الحاوي الكبير 3/ 403، ومذهب الحنابلة في الفروع 5/ 289.
(3)
ينظر مذهب الحنفية في فتح القدير 2/ 437، ومذهب المالكية في الكافي 1/ 357.
(4)
ينظر: الحاوي الكبير 3/ 403.
(5)
ينظر: المصدر السابق 3/ 404.