الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: هل ينقطع اعتكاف من عاد مريضا أو صلى على جنازة
؟ .
اختيار الشيخ: اختار أن الخروج من المسجد لعيادة المريض أو للصلاة على الجنازة يقطع الاعتكاف، فقال:"والراجح عندنا: إنه لا يجوز الخروج لعيادة المريض وصلاة الجنازة"(1).
تحرير محل الخلاف: أجمع العلماء أنه يجوز للمعتكف الخروج من المسجد لما لا بد منه، كحاجة الإنسان (البول والغائط)(2).
واختلفوا في خروج المعتكف لعيادة المريض أو لصلاة الجنازة على قولين:
القول الأول: ليس للمعتكف أن يخرج لعيادة المريض أو لشهود الجنازة فإن فعل انقطع اعتكافه.
وبه قال: الحنفية (3)، والمالكية (4)، والشافعية (5)، والحنابلة في المذهب (6)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: للمعتكف أن يخرج لعيادة المريض أو لشهود الجنازة.
وهو رواية عند: الحنابلة (7)، وبه قال الظاهرية (8).
أدلة القول الأول: القائلين بأنه ليس للمعتكف أن يخرج لعيادة المريض أو لشهود الجنازة فإن فعل انقطع اعتكافه.
الدليل الأول: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا اعتكف، يُدني إلي رأسه فأُرَجِّله (9)، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان (10).
(1) مرعاة المفاتيح 7/ 163.
(2)
ينظر: الإجماع لابن المنذر ص 50، والإشراف له 3/ 162، والإقناع في مسائل الإجماع 1/ 243، والمغني 3/ 192، والكافي لابن عبد البر 1/ 353 ، والمجموع 6/ 501.
(3)
بدائع الصنائع 2/ 114، فتح القدير 2/ 396، مجمع الأنهر 1/ 377، رد المحتار 2/ 447.
(4)
الرسالة ص 64، الكافي 1/ 353، المعونة 1/ 491، جامع الأمهات ص 181، التلقين 1/ 76.
(5)
الأم 2/ 115، المهذب 1/ 353، البيان 3/ 588، المجموع 6/ 509.
(6)
الهداية ص 167، الكافي 1/ 458، شرح الزركشي 3/ 9، الإنصاف 3/ 375.
(7)
الكافي 1/ 458، المغني 3/ 194، شرح الزركشي 3/ 9، الإنصاف 3/ 375.
(8)
المحلى 3/ 423.
(9)
التَّرَجُّل والتَّرْجِيل: تسريح الشعر وتنظيفه وتحسينه. ينظر: النهاية 2/ 203، لسان العرب 11/ 270.
(10)
رواه البخاري 3/ 48 رقم 2029، في الاعتكاف، باب لا يدخل البيت إلا لحاجة، ومسلم 1/ 244 رقم 297، كتاب الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله. واللفظ له.
وجه الاستدلال من الحديث: في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يخرج من معتكفه إلا لحاجة الإنسان؛ والخروج لعيادة المريض وشهود الجنائز ليس من ذلك.
قال ابن دقيق العيد: "كل ما ذكره الفقهاء - أنه لا يخرج إليه، أو اختلفوا في جواز الخروج إليه - فهذا الحديث يدل على عدم الخروج إليه؛ لعُمومه. فإذا ضُمَّ إلى ذلك قرينة الحاجة إلى الخروج لكثير منه، أو قيام الداعي الشرعي في بعضه، كعيادة المريض، وصلاة الجنازة، وشبهه، قويت الدلالة على المنع"(1).
الدليل الثاني: عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: إن كنت لَأدخل البيت للحاجة، والمريضُ فيه، فما أسأل عنه إلا وأنا مارّة، «وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُدخِل عليَّ رأسه وهو في المسجد فأُرَجِّله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة، إذا كان معتكفا» (2).
الدليل الثالث: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض وهو معتكف، فيمر كما هو ولا يُعَرِّج (3) يسأل عنه» (4).
وجه الاستدلال: في الحديثين جواز عيادة المريض على وجه المرور، من غير تعريج، فيفهم منه عدم عيادته على غير هذا الوجه (5).
قال القاضي عياض: "المعتكِف لا يدخل البيت إلا لضرورة حاجة الإنسان، وأنه لا يعود مريضا ولا يشتغل بغير ما هو فيه، وأن سؤاله عن المريض، والتسليم على الناس، ومُكالمتِهم، وشبه هذا -في مسيره إلى حاجته- لا يضره"(6).
(1) إحكام الأحكام 2/ 43.
(2)
رواه مسلم 1/ 244 رقم 297، كتاب الحيض باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله وطهارة سؤرها والاتكاء في حجرها وقراءة القرآن فيه.
(3)
لا يُعَرِّج: أي لا يُقِيم ولا يحْتَبِس. ينظر: النهاية 3/ 203، تاج العروس 6/ 94.
(4)
رواه أبو داود 2/ 333 رقم 2472، في الصوم، باب المعتكف يعود المريض، وعنه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 526 رقم 8595، في الصيام، باب المعتكف يخرج من المسجد لبول أو غائط ثم لا يسأل عن المريض إلا مارا. وقال الألباني في ضعيف أبي داود 2/ 292:"وهذا إسناد ضعيف".
(5)
ينظر: إحكام الأحكام 2/ 43.
(6)
إكمال المعلم 2/ 130.
الدليل الرابع: وعنها أيضا قالت: «السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع» (1).
وجه الاستدلال: في الحديث دليل على أنه لا يجوز للمعتكف أن يخرج من معتكفه لعيادة المريض، ولا لما يماثلها من القُرَب؛ كتشييع الجنازة، ونحو ذلك (2).
أدلة القول الثاني: القائلين بأن للمعتكف أن يخرج لعيادة المريض أو لشهود الجنازة.
الدليل الأول: عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المعتكف يَتبع الجنازة، ويعود المريض» (3).
وجه الاستدلال: في الحديث جواز اتباع الجنازة، وعيادة المريض للمعتكف، وأن فِعل ذلك لا يقطع الاعتكاف (4).
فيكون حديث أنس رضي الله عنه هذا لبيان جواز اتباع الجنازة وعيادة المريض للمعتكف، ويكون حديث عائشة رضي الله عنها: «السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة
…
»، لبيان الأفضل والأولى (5).
الدليل الثاني: عن علي رضي الله عنه ، قال:«المعتكف يشهد الجمعة، ويتبع الجنازة، ويعود المريض» (6).
(1) سبق تخريجه صفحة (627).
(2)
ينظر: نيل الأوطار 4/ 316.
(3)
رواه ابن ماجه 1/ 565 رقم 1777، في الصيام باب في المعتكف يعود المريض، ويشهد الجنائز، وقال الألباني في السلسلة الضعيفة رقم 4679:"موضوع".
(4)
ينظر: التيسير بشرح الجامع الصغير 2/ 457، والتنوير شرح الجامع الصغير 10/ 486.
(5)
ينظر: شرح سنن ابن ماجه مجموع من 3 شروح ص 127.
(6)
رواه الدارقطني في السنن 3/ 185 رقم 2358، كتاب الصيام، باب الاعتكاف، وبنحوه عبد الرزاق في المصنف 4/ 356 رقم 8049، كتاب الاعتكاف، باب سنة الاعتكاف، وابن أبي شيبة في المصنف 2/ 334 رقم 9631، كتاب الصيام، باب ما قالوا في المعتكف ما له إذا اعتكف مما يفعله.
الدليل الثالث: عن صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ (1) رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكِفا، فأتيته أزوره ليلا، فحدّثتُه ثم قمت لأنقلب، فقام معي لِيَقْلِبَنِي (2)، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد» (3).
وفي رواية: «فذهب معها حتى أدخلها بيتها، وهو معتكف» (4).
وجه الاستدلال: في هذا الحديث دليل على جواز خروج المعتكِف من مسجد اعتكافه لتشييع الزائر؛ فيكون جواز الخروج من مسجد اعتكافه لعيادة المريض وتشيع الجنازة من باب أولى (5).
الترجيح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الأول: أنه ليس للمعتكف أن يخرج لعيادة المريض أو لشهود الجنازة، فإن فعل انقطع اعتكافه؛ وذلك لصحة ما استدلوا به، ولأن المعتكِف ليس له الخروج من المسجد إلا للحاجة، وعيادة المريض وشهود الجنازة ليس فعلهما من ما لا بد منه.
وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني، فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما استدلالهم بحديث أنس رضي الله عنه، فلا يصح؛ لأنه حديث شديد الضعف.
ثانيا: وأما استدلالهم بأثر علي رضي الله عنه، فقد قال فيه ابن المنذر:"وليس بثابت عنه"(6).
ثالثا: وأما استدلالهم بحديث صفية بنت حُيَي رضي الله عنها فيجاب عنه:
أنه لا دلالة فيه؛ لأن خروج النبي صلى الله عليه وسلم مع أم المؤمنين رضي الله عنها ليقلبها هو مما يُحتاج إلى الخروج له، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم لصفية بنت حيي رضي الله عنها:«لا تعجلي حتى أنصرف معك» (7).
(1) هي: صفية بنت حُيَيِّ بن أَخْطَب، أم المؤمنين، من ذرية رسول الله هارون عليه السلام، كانت في الجاهلية تدين باليهودية، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خيبر، وجعل عتقها صداقها. روى عنها: ابن أخيها، وعلي بن الحسين، ومسلم بن صفوان، وغيرهم. توفيت سنة 50 هـ. ينظر: الطبقات الكبرى 8/ 120، الاستيعاب 4/ 1871، وسير أعلام النبلاء 2/ 231.
(2)
لِيَقْلِبَنِي، أي: لأرجع إلى بيتي فقام معي يصحبني. ينظر: النهاية 4/ 96، مجمع بحار الأنوار 4/ 309.
(3)
رواه البخاري 4/ 124 رقم 3281، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، ومسلم 4/ 1712 رقم 2175، كتاب السلام، باب بيان أنه يستحب لمن رئي خاليا بامرأة
…
(4)
رواه عبد الرزاق في المصنف 4/ 360 رقم 8066، في الاعتكاف باب خروج النبي صلى الله عليه وسلم في اعتكافه.
(5)
ينظر: المحلى 3/ 425، نيل الأوطار 4/ 315.
(6)
الإشراف 3/ 162.
(7)
رواه البخاري 7/ 57 رقم 2038، في الاعتكاف، باب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه.
وقيامه صلى الله عليه وسلم معها ليقلبها دليل على أن مكانها كان بينه وبين المسجد مسافة يخاف فيها من سير المرأة وحدها ليلا، وذلك قبل أن يتخذ حجرتها قريبا من المسجد، ولهذا قال:«كان مسكنها في دار أسامة» . فهذا خروج للخوف على أهله، فيلحق به كل حاجة (1).
وليس عيادة المريض واتباع الجنائز من ذلك. والله أعلم.
(1) ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 2/ 804.