الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثامن: ما هو أفضل الصيام بعد رمضان صيام شعبان أو المحرم
؟ .
اختيار الشيخ: اختار أن أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم (1)، فقال:"وحديث الباب صريح إن شهر المحرم أفضل الشهور للصوم"(2).
اختلف أهل العلم في أي الشهور أفضل بعد رمضان، شعبان أو المحرم؟ على قولين:
القول الأول: أفضل الشهور صوما بعد رمضان شهر الله المحرم.
وبه قال: الحنفية (3) ، والمالكية (4) ، والشافعية (5) ، والحنابلة (6)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: أفضل الشهور صوما بعد رمضان شهر شعبان.
وهو اختيار: ابن رشد الجدّ (7) من المالكية (8) ، وابن رجب (9) من الحنابلة (10).
(1) قال السيوطي: "هذا الاسم إسلامي دون سائر الشهور، فإن أسماءها كلها على ما كانت عليه في الجاهلية، وكان اسم المحرم في الجاهلية صَفَر الأول، والذي بعده صَفَر الثاني، فلما جاء الإسلام سماه الله المحرم، فأضيف إلى الله بهذا الاعتبار، وهذه الفائدة لطيفة رأيتها في الجمهرة". الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج 3/ 252، وينظر: جمهرة اللغة 1/ 522.
(2)
مرعاة المفاتيح 7/ 43. أي حديث أبي هريرة القادم صفحة (458).
(3)
شرح مشكل الآثار 3/ 292، المعتصر من المختصر 1/ 148، نخب الأفكار 8/ 458، عمدة القاري 11/ 84.
(4)
المقدمات 1/ 242، المسالك 4/ 210، مواهب الجليل 2/ 407، الفواكه الدواني 2/ 273.
(5)
الحاوي الكبير 3/ 474، عمدة السالك ص 119، أسنى المطالب 1/ 433، مغني المحتاج 2/ 187.
(6)
المغني 3/ 180، العدة شرح العمدة ص 169، الإقناع 1/ 318، الروض المربع ص 239.
(7)
هو: محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، أبو الوليد الأندلسي، قاضي الجماعة بقرطبة، من أعيان المالكية، وهو جد ابن رشد الفيلسوف المشهور، توفي سنة 520 هـ، من مؤلفاته: المقدمات الممهدات لمدونة مالك، والبيان والتحصيل في الفقه، ومختصر شرح معاني الآثار للطحاوي. ينظر: الديباج 1/ 248، شجرة النور الزكية 1/ 190؛ معجم المؤلفين 8/ 228، الأعلام 5/ 316.
(8)
المقدمات الممهدات 1/ 243، المسالك في شرح موطأ مالك 4/ 211.
(9)
هو: عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن البغدادي، المعروف بابن رجب لقب جده عبد الرحمن، سمع من الفخر عثمان بن يوسف ومحمد الخباز، وأجازه ابن النقيب، من مصنفاته: القواعد الفقهية، وشرح جامع الترمذي، وشرح البخاري، وشرح الأربعين النووية، توفي سنة 795 هـ. ينظر الدرر الكامنة 3/ 108، المنهج الأحمد 5/ 168، الأعلام 3/ 295.
(10)
لطائف المعارف ص 129.
سبب الخلاف: والسبب في اختلافهم والله أعلم يرجع إلى اختلاف الآثار المروية في هذه المسألة، وفهم كل فريق لها.
أدلة القول الأول: القائلين بأن أفضل الشهور صوما بعد رمضان شهر الله المحرم.
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» (1).
وجه الاستدلال: في الحديث التصريح بأن شهر الله المحرم هو أفضل الشهور للصوم (2).
قال ابن هُبَيْرَة (3): "في هذا الحديث ما يدل على فضيلة شهر المحرم، من حيث إنه أول العام فيستقبله بالعبادة، فيرجى بذلك أن يكون مكفرا لباقي العام"(4).
الدليل الثاني: عن علي رضي الله عنه قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الشهر تأمرني أن أصوم بعد رمضان قال: «صم المحرم؛ فإنه شهر الله، وفيه يوم تاب فيه على قوم، ويتوب فيه على آخرين» (5).
وجه الاستدلال: أن الحديث ظاهر في أن المقصود صيام شهر المحرم كله، وتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم لهذا السائل بصيام المحرم دون غيره من الشهور دليل على أفضليته (6).
الدليل الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام يوما من المحرم، فله بكل يوم ثلاثون حسنة» (7).
(1) سبق تخريجه صفحة (442).
(2)
ينظر: شرح مسلم للنووي 8/ 55، وينظر: الديباج للسيوطي 3/ 252.
(3)
هو: يحيى بن محمد بن هُبَيْرَة الذُهلي الشيباني، أبو المظفر عون الدين البغدادي، فقيه حنبلي، من تلاميذه ابن الجوزي، توفي سنة 560 هـ، من آثاره: الإفصاح عن معاني الصحاح، العبادات على مذهب أحمد. ينظر: تاريخ بغداد 15/ 385، سير أعلام النبلاء 20/ 426.
(4)
الإفصاح عن معاني الصحاح 8/ 215.
(5)
رواه الترمذي 3/ 108 رقم 741، أبواب الصيام باب ما جاء في صوم المحرم، وقال:"هذا حديث حسن غريب"، وأحمد 2/ 448 رقم 1335، قال شعيب:"إسناده ضعيف"، والدارمي 2/ 1101 رقم 1797، في الصوم باب في صيام المحرم، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب 1/ 154 رقم 614.
(6)
ينظر: حاشية السندي على سنن ابن ماجه 1/ 530، ومرعاة المفاتيح 7/ 43.
(7)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 11/ 72 رقم 11082، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 190:"وفيه الهيثم بن حبيب ضعفه الذهبي"، وقال الألباني في الضعيفة 1/ 596 رقم 412:"موضوع".
وجه الاستدلال: أن هذا الفضل العظيم في تضعيف الحسنات دليل على أفضلية الصوم في شهر الله المحرم (1).
الدليل الرابع: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما أخر ذلك حتى يجتمع عليه صوم السنة، فيصوم شعبان» (2).
وجه الاستدلال: أن صيام النبي صلى الله عليه وسلم لشهر شعبان لم يكن لأنه أفضل الشهور بعد رمضان؛ وإنما كان يقضي فيه ما اجتمع عليه من أيام لم يصمهن (3). وأما صيام شهر الله المحرم فلأفضليته على غيره.
أدلة القول الثاني: القائلين بأن أفضل الشهور صوما بعد رمضان شهر شعبان.
الدليل الأول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه شعبان، ثم يصله برمضان» (4).
الدليل الثاني: عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين، إلا أنه كان يصل شعبان برمضان» (5).
الدليل الثالث: عن أبي سلمة قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: «كان يصوم حتى نقول قد صام، ويفطر حتى نقول قد أفطر، ولم أره صائما من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان، كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلا» (6).
وجه الاستدلال: أن هذه النصوص تدل على أن أفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شعبان؛ وذلك لمحافظته صلى الله عليه وسلم على صومه أو صوم أكثره، ولتصريح أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بأنه أَحبّ الشهور صياما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) ينظر: التيسير بشرح الجامع الصغير 2/ 425، التنوير شرح الجامع الصغير 10/ 278.
(2)
رواه الطبراني في المعجم الأوسط 2/ 320 رقم 2098؛ وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 192: "فيه: محمد بن أبي ليلى، وفيه كلام"، وقال الحافظ في الفتح 4/ 214:"وفيه حديث ضعيف أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق ابن أبي ليلى، وهو ضعيف".
(3)
ينظر: شرح البخاري لابن بطال 4/ 115.
(4)
سبق تخريجه صفحة (140).
(5)
سبق تخريجه صفحة (141).
(6)
سبق تخريجه صفحة (141).
قال ابن رشد الجد: "ففي هذا دليل على فضل صيام شعبان، وأنه أفضل من صيام سواه"(1).
الدليل الرابع: عن أنس رضي الله عنه قال: «سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ فقال: «شعبان لتعظيم رمضان» ، قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: «صدقة في رمضان» (2).
وجه الاستدلال: أن الحديث نص على أن شهر شعبان هو أفضل الشهور صياما بعد شهر رمضان؛ وذلك لأنه لمّا كان شعبان مُقدِّمة بين يدي رمضان، كان صومه فيه تعظيمًا له؛ فيُحتَرَم لاحترامه، ويأتي شهر رمضان وقد آنَست النفس بالعبادة، وأَلِفتْها (3).
الدليل الخامس: وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت: ولم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان، قال:«ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم» (4).
وجه الاستدلال: يستدل بهذا الحديث على أفضلية شهر شعبان من وجوه:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أُسامة رضي الله عنه عندما قال له: «ولم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان» .
الثاني: تعليله صلى الله عليه وسلم بأنه وقت فاضل يغفل عنه الناس وينشغلون بغيره.
الثالث: ذِكْر ما فيه من فضل رفع الأعمال إلى رب العزة والجلال.
وهذا كله يدل على أنه أفضل الشهور للصيام بعد رمضان.
الدليل السادس: عن عائشة رضي الله عنها قالت: ذُكِر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناس يصومون رجبا؟ فقال: «فأين هم عن شعبان» (5).
(1) المقدمات الممهدات 1/ 243، وينظر: المسالك في شرح موطأ مالك 4/ 211.
(2)
رواه الترمذي 3/ 42 رقم 663 وقال: "هذا حديث غريب، وصدقة بن موسى ليس عندهم بذاك القوي"، والطحاوي في شرح معني الآثار 2/ 83 رقم 3330، باب الصوم بعد النصف من شعبان إلى رمضان، والبيهقي في الكبرى 4/ 503 رقم 8517، في الصيام باب الجود والإفضال في شهر رمضان، وقال الألباني في الإرواء 3/ 396 رقم 888:"ضعيف".
(3)
ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير 2/ 571.
(4)
سبق تخريجه صفحة (141).
(5)
رواه الشجري في أماليه كما في ترتيب الأمالي 1/ 347 رقم 1221، باب في فضل الصوم وفضل صيام شهر رمضان وما يتصل بذلك، وقال صاحب الإيماء إلى زوائد الأمالي والأجزاء 7/ 77:"إسناده ضعيف".
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار على من كان يصوم رجب بصيام شعبان لا غيره من الشهور فدل على أفضليته.
الدليل السابع: أن أسامة رضي الله عنه كان يصوم الأشهر الحرم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«صم شوالا» . فتَرَكَ الأشهر الحرم. فكان يصوم شوالا حتى مات (1).
وجه الاستدلال: قال ابن رجب: "فهذا نص في تفضيل صيام شوال على صيام الأشهر الحُرُم؛ وإنما كان كذلك: لأنه يلي رمضان من بعده، كما أن شعبان يليه من قبله. وشعبان أفضل؛ لصيام النبي صلى الله عليه وسلم له دون شوال. فإذا كان صيام شوال أفضل من الأشهر الحُرُم؛ فلأن يكون صوم شعبان أفضل بطريق الأولى"(2).
الترجيح: بعد عرض الأدلة ووجوه الاستدلال منها يتبين -والله أعلم- أن أصحاب القول الأول أسعد بالدليل من جهة القول، وأن أصحاب القول الثاني أسعد بالدليل من جهة الفعل؛ وبيان ذلك:
أن ما استدل به أصحاب القول الأول وهو حديث: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم» حديث صحيح، وصريح في كون المحرم أفضل الشهور صياما بعد رمضان، من قوله صلى الله عليه وسلم.
وقد عارضه حديث أنس رضي الله عنه في تفضيل شعبان، لكنه حديث ضعيف لا يقاوم حديث أبي هريرة في تفضيل المحرم، فيقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه (3).
وقد يمكن الجمع بين الحديثين على فرض صحة حديث أنس رضي الله عنه ، فيقال:
إن أفضل الصيام بعد رمضان عند الإطلاق صيام المحرم، وعند تعظيم رمضان صيام شعبان، ولعل المراد بتعظيم رمضان: تعظيم صيامه بأن تَتَعوَّد النفس عليه؛ لئلا يثقل صيام رمضان على النفس فتكرهه طبعا، ولئلا تُخِلّ بآدابه فَجأَةُ الصيام (4).
(1) رواه ابن ماجة 1/ 555 رقم 1744، في الصيام، باب صيام أشهر الحرم، والضياء في المختارة 4/ 145 رقم 1359، وقال في الزوائد 2/ 78:"إسناده صحيح إلَّا أنه منقطع بين محمَّد بن إبراهيم بن الحارث التيمي وبين أسامة بن زيد". وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجة رقم 381.
(2)
لطائف المعارف ص 129.
(3)
ينظر: تحفة الأحوذي 3/ 265، وقوت المغتذي على جامع الترمذي 1/ 251.
(4)
ينظر: تحفة الأحوذي 3/ 265.
فسبب الفضل مختلف كما ترى، فالمحرم فُضِّل لكونه فاضلا في ذاته، وأما شعبان فقد فُضِّل لتعظيم غيره، فيكون المحرم أفضل من شعبان (1).
وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني فهو من جهة الفعل؛ فإن إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الصيام في شعبان يُشعِر بأفضليته على شهر المحرم؛ فما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليترك شهر المحرم مع ما ذُكِر فيه من الفضل، ويُكثِر الصيام في شعبان إلا لما فيه من فضل على غيره من الشهور.
اللهم إلا أن يجاب عن إقلاله صلى الله عليه وسلم من الصيام في شهر المحرم بما ذكره بعض أهل العلم فيقال:
إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكثر من الصيام في شهر الله المحرم لأسباب:
الأول: أنه لم يَعلم بفضل المحرم إلا في آخر حياته قبل التَمكُّن من صومه (2).
الثاني: أنه كان يعرض له من الأعذار ما يُشغِله عن الصوم من سفر، أو غزو، أو مرض، فيقضي ذلك كله في شعبان (3).
وعلى كل حال فإن فضل شهر الله المحرم وفضل شهر شعبان، ثابت عنه صلى الله عليه وسلم قولا وفِعلا، فيكون الإكثار من الصوم فيهما مطلب لكل مسلم حريص على الأجر، والله أعلم.
(1) ينظر: دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين 6/ 637.
(2)
ينظر: شرح مسلم للنووي 8/ 55، وشرح الزرقاني على الموطأ 2/ 290.
(3)
ينظر: شرح مسلم للنووي 8/ 55، وعون المعبود 7/ 59، وتحفة الأحوذي 3/ 368.