الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية: حكم النية لكل يوم من رمضان
.
اختيار الشيخ: اختار وجوب تبييت النية لكل يوم من رمضان، فقال:"ولا بد من التبييت لكل يوم؛ لظاهر حديثها أيضا، ولأن صوم كل يوم عبادة مستقلة مسقطة لفرض يومها، ويتخلل بين يومين ما ينافي الصوم ويناقضه"(1).
تحرير محل الخلاف: أجمع العلماء على أن من نوى الصيام كل ليلة من ليالي شهر رمضان، فصام أن صومه تام (2).
واختلفوا هل يشترط للصائم أن ينوي الصيام قبل كل يوم جديد، أم تكفي نية واحدة من أول الشهر وتجزئ عن جميع أيام رمضان؟ ، على قولين:
القول الأول: تجب نية مستقلة لكل يوم من أيام رمضان.
وبه قال: الحنفية (3) ، والشافعية (4) ، والحنابلة في المذهب (5)، والظاهرية (6)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: تجزئ نية واحدة من أول الشهر عن جميع أيام شهر رمضان.
وهو قول: المالكية (7)، ورواية عند: الحنابلة (8).
سبب الخلاف: والسبب في اختلافهم والله أعلم: هل صيام رمضان عبادة واحدة أو عبادات متعددة؟ (9).
أدلة القول الأول: القائلين بأنه تجب نية مستقلة لكل يوم من أيام رمضان.
(1) مرعاة المفاتيح 6/ 466. ويعني بحديثها حديث حفصة الآتي، وقد سبق تخريجه ص 151.
(2)
ينظر: الإجماع لابن المنذر ص 49، الإقناع له 1/ 191، الإقناع لابن القطان 1/ 227.
(3)
المبسوط 3/ 60، بدائع الصنائع 2/ 85، البناية 4/ 95، رد المحتار 2/ 380.
(4)
الحاوي 3/ 400، حلية العلماء 3/ 154، البيان 3/ 489، المجموع 6/ 302.
(5)
المغني 3/ 111، الفروع 4/ 452، المبدع 3/ 18، دقائق أولي النهى 1/ 478.
(6)
المحلى 4/ 285.
(7)
الكافي 1/ 335، المنتقى 2/ 41، الذخيرة 2/ 499، مواهب الجليل 2/ 419.
(8)
الكافي 1/ 439، الفروع 4/ 452، شرح الزركشي 2/ 566، المبدع 3/ 18.
(9)
ينظر: المسالك لابن العربي 4/ 169، شرح الخرشي 2/ 246.
الدليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل» (1).
وجه الاستدلال: لأنه اعتبر تبييت (جِنْس)(2) الصيام في جنس الليل، فكل يوم من الصيام يُبَيَّت في جنس من الليل، فوجب أن يُبَيَّت بما يُبَيَّت به اليوم الأول (3).
الدليل الثاني: ولأن المعنى الذي وجبت النية من أجله في اليوم الأول، موجود في اليوم الثاني، وما يليه إلى آخر الشهر؛ وهو: أنه صوم يوم واجب، فوجب أن يكون من شرطه تَقَدُّم النية من ليلته؛ كاليوم الأول (4).
الدليل الثالث: ولأنها عبادة تؤدى وتقضى، فوجب أن يكون عدد النية في أدائها كعدد النية في قضائها (5).
الدليل الرابع: ولأنه انتقال من فطر إلى صوم، فوجب أن يكون من شرطه نية تخصه (6).
الدليل الخامس: ولأن كل ما يجب في صيام القضاء كان واجبا من باب أولى في صيام الأداء (7).
الدليل السادس: ولأن كل يوم من رمضان عبادة مستقلة لا يفسد بعضها بفساد بعض، ويتخللها الأكل والشرب والجماع في لياليها، -وهو ينافي الصيام-، فوجب أن يكون لكل يوم نية مستقلة كالقضاء (8).
أدلة القول الثاني القائلين: تجزئ نية واحدة من أول الشهر عن جميع أيام شهر رمضان.
الدليل الأول: قوله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (9).
(1) سبق تخريجه صفحة (151).
(2)
الجِنْس: أعم من النوع، ومنه المجانسة والتجنيس، وهو كل ضرب من الشيء، فالناس جنس، والإبل جنس، وهكذا. ينظر: مقاييس اللغة 1/ 486، تاج العروس 15/ 515.
(3)
ينظر: الحاوي الكبير 3/ 402.
(4)
ينظر: المصدر السابق.
(5)
ينظر: الحاوي الكبير 3/ 402، المغني 3/ 111.
(6)
ينظر: الحاوي الكبير 3/ 402.
(7)
ينظر: المصدر السابق.
(8)
ينظر: المغني 3/ 111، وفتح القدير للكمال 2/ 366، والبناية 4/ 95، والمهذب 1/ 331.
(9)
سورة البقرة: آية: 185.
وجه الاستدلال: أن قوله سبحانه وتعالى: {فَلْيَصُمْهُ} يقتضي صيام جميع الشهر -ليله ونهاره- بنية واحدة، فخُصِّصَت ليالي الشهر بإباحة الفطر، وبقيت أيامه على الأصل، فلم تنقطع النية (1).
الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (2).
وجه الاستدلال: أن من عَقَد النية في أول رمضان، فإنه عَقَدَها لصيام جميع الشهر، فكان له ما نواه (3).
الدليل الثالث: عن حفصة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له» (4).
وجه الاستدلال: مقتضى الحديث إجزاء رمضان بنية واحدة؛ لعموم الألف واللام، فخُصِّص ما عدا شهر رمضان بالإجماع، فيبقى الشهر داخلا في هذا العموم (5).
الدليل الرابع: ولأن الصائم نوى في زمن يصلح جنسه لنية الصوم، فجاز كما لو نوى كل يوم في ليلته (6).
الدليل الخامس: وقياس العبادة التي لا يتخللها عبادة من جنسها، على العبادة المتحدة التي لا يتخللها شيء: فإنه تكفي في العبادة التي لا يتخللها شيء نية واحدة بالإجماع، فكذا العبادة التي لا يتخللها عبادة من جنسها؛ لأن أيام رمضان يتخللها الصلاة والذكر دون الصوم، وهو المقصود بقولهم:(من جنسها)(7).
الدليل السادس: وقياس صيام رمضان على الزكاة؛ بجامع أن كلّا منهما ل يجب إلا مرة في العام، فكما أجزءت نية واحدة للزكاة، جاز أن تجزء نية واحدة للصيام (8).
(1) ينظر: الذخيرة 2/ 499.
(2)
سبق تخريجه صفحة (115).
(3)
ينظر: المنتقى للباجي 2/ 41، المسالك 4/ 170، الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 425، وشرح العمدة كتاب الصيام 1/ 198.
(4)
سبق تخريجه صفحة (151).
(5)
ينظر: الذخيرة 2/ 499.
(6)
ينظر: المغني 3/ 111.
(7)
ينظر: الذخيرة 2/ 499 - 500.
(8)
المنتقى للباجي 2/ 41، المسالك في شرح موطأ مالك 4/ 170.
الدليل السابع: "ولأن شهر رمضان عبادة كالصلاة الواحدة، وأيامه كالركعات فيها، ثم كانت نية واحدة تُجزيه لجميع الصلاة، فكذلك يقتضي أنه يُجزئه نية واحدة لجميع الشهر"(1).
الدليل الثامن: وقياسه على الحج، فالحج طوافه وسعيه والوقوف بعرفة، تجزئ فيه نية واحدة عن جميعه، فكذا صيام رمضان تجزء نية واحدة عن جميع أيامه (2).
الراجح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الثاني: أنه تجزئ نية واحدة لجميع الشهر؛ وذلك لقوة ما استدل به أصحاب هذا القول من أدلة وأقيسة.
وأما ما استدل به أصحاب القول الأول، فيجاب عنه كالتالي:
أولا: أما استدلالهم بحديث «لا صيام
…
»:
فقد ذُكِر في أدلة القول الثاني المقصود من الحديث، فلا حاجة للإعادة هنا.
ثانيا: وأما قولهم: إن القضاء يحكي الأداء، فوجب أن يكون ما في الأداء هو نفسه ما في القضاء، فيكون مثله في عدد النيات، فيجاب عنه:
أن هذا غير لازم، ألا ترى أن القضاء يجوز تفريقه، بينما الأداء لا يجوز تفريقه، ولذلك إذا انقطع التتابع لسبب يبيحه، ثم عاد إلى الصوم فلا بد من تجديد النية (3).
ثالثا: وأما قولهم: إن كل يوم من رمضان عبادة مستقلة لا يفسد بعضها بفساد بعض، ويتخللها الأكل والشرب والجماع في لياليها، وهو ينافي الصيام، فوجب أن يكون لكل يوم نية مستقلة، وقولهم: إنه انتقال من فطر إلى صوم، فوجب أن يكون من شرطه نية تخصه. فيجاب عنه:
أن شهر رمضان بمنزلة العبادة الواحدة؛ لأن النية وقعت لهذا الصوم في زمان يصلح جنسه لنية الصوم، من غير أن يتخلل النية والصوم المنوي زمان يصلح جنسه لصوم سواه، فجاز ذلك؛ كما لو نوى لكل يوم من ليلته. ولأن الفطر في لياليه عبادة أيضا يستعان بها على صوم نهاره، ولهذا شملت البركة لياليه وأيامه، وسمي الفطر ليلة العيد فطرا من رمضان، فعُلِم أن الفطر الذي يتخلل أيامه ليس فطرا من رمضان، فكان عبادة واحدة تجزئ فيه نية واحدة كسائر العبادات. وكون الفساد يختص ببعضه إذا صادفه، لا يمنع كونه عبادة واحدة،
(1) ينظر شرح الخرشي على خليل 2/ 246.
(2)
ينظر: المصدر السابق.
(3)
ينظر: الجامع لابن يونس 3/ 1079.
كالحج، فإنه يشتمل على: إحرام، ووقوف، وطواف، وسعي، ثم لو فسد الطواف لكونه على غير طهارة، أو غير ذلك، لم يتعد الفساد إلى غيره، ومع هذا فهو عبادة واحدة، بحيث تكفيه نية واحدة (1).
قال الشيخ ابن عثيمين (2): "وهذا هو الأصح؛ لأن المسلمين جميعا لو سألتهم لقال كل واحد منهم أنا نويت الصوم أول الشهر إلى آخره، فإذا لم تتحقق النية حقيقة فهي محققة حكما؛ لأن الأصل عدم القطع، ولهذا قلنا: إذا انقطع التتابع لسبب يبيحه، ثم عاد إلى الصوم فلا بد من تجديد النية، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس"(3).
والله أعلم.
(1) ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 198 - 199.
(2)
هو: محمد بن صالح بن محمد، أبو عبد الله العثيمين، الإمام الزاهد الفقيه الأصولي المفسر الفرضي النحوي، ولد سنة 1347 هـ في عنيزة، وأخذ عن: عبد الرحمن السعدي، وابن باز، وغيرهما، وعنه خلق كثير، له مؤلفات كثيرة منها: القواعد المثلى، وشرح العقيدة الواسط ية، توفي سنة 1421 هـ. ينظر: ابن عثيمين الإمام الزاهد، الدر الثمين في ترجمة فقيه الأمة ابن عثيمين، الجامع لحياة العلامة ابن العثيمين.
(3)
الشرح الممتع 6/ 356.