الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الخامس: حكم صيام عشر ذي الحِجَّة
.
اختيار الشيخ: اختار أنه يستحب صيام العشر: فقال جوابا على حديث عائشة: "والجواب عنه إن المراد من قولها لم يصم العشر أنه لم يصمها لعارض مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنها لم تره صائما فيها. ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر، وإذا تعارض النفي والإثبات فالإثبات أولى بالقبول (1) "(2).
تحرير محل الخلاف: المقصود من هذه المسألة حكم صيام الأيام الثمانية الأولى من ذي الحِجَّة.
وقد اختلفوا في صيام هذه الأيام على قولين:
القول الأول: يستحب صيام الأيام الثمانية الأولى من ذي الحجة.
وبه قال جمهور أهل العلم من: الحنفية (3) ، والمالكية (4) ، والشافعية (5) ، والحنابلة (6) ، والظاهرية (7)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: لا يشرع صيام الأيام الثمانية الأولى من ذي الحجة.
ونسب ذلك إلى: عائشة رضي الله عنها (8).
(1) هذه القاعدة يبحثها الأصوليون في مباحث المرجحات. ينظر: إرشاد الفحول 2/ 271.
(2)
مرعاة المفاتيح 7/ 52. سيأتي تخريج حديث عائشة ص 440.
(3)
المبسوط 3/ 92، شرح مشكل الآثار 7/ 419، المعتصر من المختصر 1/ 147، الفتاوى الهندية 1/ 201.
(4)
النوادر والزيادات 2/ 80، المقدمات 1/ 242، مواهب الجليل 2/ 402، الدر الثمين 1/ 453.
(5)
روضة الطالبين 2/ 388، النجم الوهاج 3/ 365، كفاية الأخيار 1/ 207، الغرر البهية 2/ 235.
(6)
الهداية ص 164، الكافي 1/ 450، المحرر 1/ 231، الفروع 5/ 87، المبدع 3/ 50.
(7)
المحلى 4/ 440.
(8)
يفهم ذلك من كلام ابن القيم في كتابه: زاد المعاد 2/ 62، حيث قال:"وأما صيام عشر ذي الحجة فقد اختلف فيه، فقالت عائشة -وذكر حديثها النافي والذي سيأتي معنا ص 440 - ، وقالت حفصة -وذكر حديثها المثبت والذي سيأتي معنا أيضا ص 440 عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ". كما أنه جاء في كلام ابن رجب رحمه الله في لطائف المعارف ص 262، ما يفهم منه أن القول باستحباب صيامها ليس محل اتفاق، حيث قال في صيامها:"وهو قول أكثر العلماء، أو كثير منهم". فقوله: "أكثر أو كثير"، يفهم منه أن هناك من يخالف في ذلك. وعلى كل حال فإن هذا القول لم ينسب إلى أحد بعينه، إلا ما فهم من كلام ابن القيم، والصحيح أن مراده الخلاف في نقل صيامه صلى الله عليه وسلم لا في مشروعية الصيام، لأنه قال بعد ذلك 2/ 63:"والمثبت مقدم على النافي إن صح"، فدل على أن مراده الاختلاف في النقل لا في المشروعية. وقد ظهر في هذا الزمان من ألف كتابا سماه:(من أخطائنا في العشر)، وعد من ضمن الأخطاء صيام العامة لعشر ذي الحجة، وبالغ في ذلك حتى اعتبر صيامها من البدع، وقد انتشر هذا الكلام ولقي رواجا كبيرا بين طلبة العلم، خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي.
سبب الخلاف: لعل سبب الخلاف -والله أعلم- يكمن في فهم وتوجيه حديث عائشة رضي الله عنها الذي سيأتي -إن شاء الله- في أدلة القول الثاني.
أدلة القول الأول: القائلين بأنه يستحب صيامها.
الدليل الأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام» يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال:«ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء» (1).
الدليل الثاني: وعنه أيضا رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عمل أزكى عند الله عز وجل ، ولا أعظم أجرا من خير تعمله في عشر الأضحى» . قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل ، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء» (2).
وجه الاستدلال من الحديثين: أن الحديثين دلا على فضيلة العمل في عشر ذي الحجة على العموم، والصوم مندرج تحتها (3)، لذا ينبغي أن يكون الصيام فيها مستحبا، كسائر العمل الصالح.
(1) رواه البخاري 2/ 20 رقم 926، أبواب العيدين باب فضل العمل في أيام التشريق، وأبو داود 2/ 325 رقم 2438، في الصوم باب في صوم العشر، واللفظ له.
(2)
أخرجه الدارمي 2/ 1113 رقم 1815، في الصوم باب في فضل العمل في العشر، والطحاوي في شرح مشكل الآثار 7/ 416 رقم 2970، والبيهقي في الشعب 5/ 309 رقم 3476، وقال الألباني في الإرواء 3/ 398:"إسناده حسن".
(3)
ينظر: نيل الأوطار 4/ 283، وينظر: لطائف المعارف ص 262، المحلى 4/ 440.
قال ابن حجر: "واستُدِلّ به -يعني حديث ابن عباس- على فضل صيام عشر ذي الحجة؛ لاندراج الصوم في العمل"(1).
الدليل الثالث: عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحِجَّة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر» (2).
وجه الاستدلال: أن الحديث صريح في إثبات صيام النبي صلى الله عليه وسلم لتسع ذي الحجة، وهذا دليل على استحبابها، وينبغي الاقتداء به صلى الله عليه وسلم بالمحافظة على صيامها (3).
الدليل الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما مِن أيام أَحبّ إلى الله أن يُتعَبَّد له فيها من عشر ذي الحجة، يَعدِل صيام كل يوم منها بصيام سنة، وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر» (4).
وجه الاستدلال: أن الحديث نص على أن صيام كل يوم من أيام عشر ذي الحجة يَعْدِل صيام سنة، فهو بيان لفضيلة الصيام في تلك الأيام، وإلا فالفضل عام لأنواع العبادات، فهو حثّ على صيامها (5).
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه لا يشرع صيامها.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما العشر قط» (6).
وفي رواية: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم العشر قط» (7).
(1) فتح الباري 2/ 460، وينظر: تحفة الأحوذي 3/ 385، وكوثر المعاني الدراري 10/ 268.
(2)
رواه أبو داود 2/ 325 رقم 2437، في الصوم باب في صوم العشر، والنسائي 4/ 205 رقم 2372، في الصيام، صوم النبي، وأحمد في المسند 37/ 24 رقم 22334. وقال شعيب الأرناؤوط:"ضعيف لاضطرابه"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود 7/ 196 رقم 2106.
(3)
ينظر: نيل الأوطار 4/ 284، التيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي 2/ 278.
(4)
رواه الترمذي 3/ 122 رقم 758، أبواب الصوم باب ما جاء في العمل في أيام العشر، وقال:"هذا حديث غريب"، واللفظ له، وابن ماجه 1/ 551 رقم 1728، في الصيام باب صيام العشر، وقال الألباني في الضعيفة:"ضعيف بهذا التمام".
(5)
ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير 9/ 456، وشرح المشكاة للطيبي 5/ 1607.
(6)
أخرجه مسلم 2/ 833 رقم 1176، في كتاب الاعتكاف، باب صوم عشر ذي الحجة.
(7)
أخرجه مسلم 2/ 833 رقم 1176، في كتاب الاعتكاف، باب صوم عشر ذي الحجة.
وجه الاستدلال: أن ظاهر الحديث يفيد نفي صيام النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأيام، فيكون الصوم فيها غير مشروع.
الترجيح: الذي يترجح في هذه المسألة -والله أعلم- هو القول الأول: أنه يستحب صيام الأيام الثمانية الأولى من ذي الحجة؛ لصحة ما استدلوا به، ولحث النبي صلى الله عليه وسلم على العمل الصالح في هذه الأيام، ومن ذلك الصيام، ولثبوت صيامه صلى الله عليه وسلم فيها.
وأما استدلال أصحاب القول الثاني بحديث عائشة رضي الله عنها فقد أجاب أهل العلم عنه بأجوبة منها:
قال النووي: "هو متأول على أنها لم تره، ولا يلزم منه تركه في نفس الأمر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكون عندها في يوم من تسعة أيام، والباقي عند باقي أمهات المؤمنين رضي الله عنهن ، أو لعله صلى الله عليه وسلم كان يصوم بعضه في بعض الأوقات وكله في بعضها، ويتركه في بعضها لعارض سفر أو مرض أو غيرهما، وبهذا يُجمَع بين الأحاديث"(1).
وقال الشوكاني: "المراد: أنه لم يَصُمْها لعارض مرض، أو سفر، أو غيرهما. أو أن عدم رؤيتها له صائما لا يستلزم العدم. على أنه قد ثبت من قوله ما يدل على مشروعية صومها، كما في حديث الباب، فلا يَقْدَح في ذلك عدم الفعل"(2).
وقال الطِّيبي (3): "قولها: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما في العشر قط» لا ينفي كونها سُنَّة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ربما صامها ولم تعرف عائشة، وإذا تعارض النفي والإثبات، فالإثبات أولى بالقبول"(4).
وعلى التسليم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك صيام هذه العشر، فإنه لا يفيد أبدا عدم المشروعية؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم إن قال شيئا ولم يفعله فقد ثبت فضلُ ذلك الشيء بقوله (5).
(1) المجموع 6/ 387 - 388.
(2)
نيل الأوطار 4/ 284، وينظر: شرح مسلم للنووي 8/ 71 - 72.
(3)
هو: الحسين بن محمد بن عبد الله، شرف الدين، الطِّيبي، من علماء الحديث والتفسير والبيان، وكان شديد الرد على المبتدعة والفلاسفة، توفي سنة 743 هـ، من تصانيفه: التبيان في المعاني والبيان، والخلاصة في أصول الحديث، وشرح مشكاة المصابيح، والكاشف عن حقائق السنن النبوية. ينظر: البدر الطالع 1/ 229، والدرر الكامنة 2/ 185، والأعلام 2/ 256.
(4)
شرح المشكاة 5/ 1607.
(5)
ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير 10/ 253.
أو يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد تَرَكَه لعارض، ومما يُبَيِّن ذلك ما جاء في فضل صيام المحرم قوله صلى الله عليه وسلم:«أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم» (1)، ومع هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مكثرا الصيام فيه (2).
فهل يقال بعدم مشروعية صيام شهر الله المحرم؟ .
ومن تلك العوارض التي يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك بسببها صيام العشر -إن صح هذا الفهم لحديث عائشة رضي الله عنها:
أولا: خشية أن يفرض على أمته، فيتركه وهو يحب أن يعمله (3).
ثانيا: وقد يكون العارض سفرا، أو مرضا، أو نحوهما، فيتركه لذلك (4).
ثالثا: وقد يكون العارض هو الضعف عن أن يعمل فيها ما هو أعظم منزلة من الصوم، وأفضل منه من الصلاة، ومن ذكر الله عز وجل ، وقراءة القرآن كما قد روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في ذلك مما كان يختاره لنفسه (5)، حيث قال ¢:«إني أخاف أن يمنعني من قراءة القرآن، فإن قراءة القرآن أحب إلي من الصوم» (6). والله أعلم.
(1) رواه مسلم 2/ 821 رقم 1163، في الصيام، باب فضل صوم المحرم.
(2)
ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم 8/ 37.
(3)
ينظر: فتح الباري 2/ 460.
(4)
ينظر: نيل الأوطار 5/ 247.
(5)
ينظر: شرح مشكل الآثار 7/ 419.
(6)
رواه ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 274 رقم 8909، في الصيام، باب من كان يقل الصوم، وعبد الرزاق في المصنف 4/ 310 رقم 7903، في الصيام، باب فضل الصيام، والطبراني في المعجم الكبير 9/ 175 رقم 8868.