الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثامن: حكم من أكل أو شرب ناسيا وهو صائم
.
اختيار الشيخ: اختار أن من أكل أو شرب ناسيا لا يفطر ولا قضاء عليه، فقال:"والحديث دليل على أن من أكل أو شرب ناسيا لصومه فإنه لا يفطره ولا يوجب القضاء"(1).
اختلف الفقهاء في من أكل أو شرب ناسيا لصومه هل يفسد صيامه وعليه القضاء أو هو باقي على صيامه ولا قضاء عليه؟ ، على قولين:
القول الأول: هو باقي على صيامه ولا قضاء عليه.
وبه قال: الحنفية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4)، والظاهرية (5)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: صيامه فاسد وعليه القضاء.
وبه قال: المالكية (6).
سبب الخلاف: والسبب في اختلافهم -والله أعلم- سببان:
السبب الأول: فهمهم لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي سيأتي ذِكره -إن شاء الله- في الأدلة.
السبب الثاني: هل يقاس الصيام على الصلاة؟ (7).
أدلة القول الأول: القائلين هو باقي على صيامه ولا قضاء عليه.
الدليل الأول: قوله تعالى {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (8).
وجه الاستدلال: أن المكلف إذا لم يؤاخذ بهذا الفطر حال كونه ناسيا كان صومه باقيا على صحته (9).
(1) مرعاة المفاتيح 6/ 493. يعني حديث أبي هريرة الآتي في الأدلة ص 319.
(2)
الحجة على أهل المدينة 1/ 392، تبيين الحقائق 1/ 322، مجمع الأنهر 1/ 144، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 1/ 632.
(3)
الأم 2/ 106 - 7/ 70، الحاوي 3/ 432، المهذب 1/ 335، البيان 3/ 509، المجموع 6/ 324.
(4)
مسائل أحمد رواية عبد الله ص 192، المغني 3/ 131، العدة ص 168، حاشية الروض 3/ 400.
(5)
المحلى 4/ 335.
(6)
المدونة 1/ 277 - 1/ 595، الكافي 1/ 341، القوانين الفقهية ص 83، شرح الخرشي على خليل 2/ 256.
(7)
ينظر: مناهج التحصيل 2/ 144، بداية المجتهد 2/ 65.
(8)
سورة البقرة: آية: 286.
(9)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 462.
الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (1).
وجه الاستدلال: أن النسيان ليس من كسب القلب، فلا يؤاخذ عليه الصائم (2).
الدليل الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نسي وهو صائم فأكل أو شَرِب، فليتم صومه، فإنما الله أطعمه وسقاه» (3).
وفي رواية: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: إني أكلت وشربت ناسيا وأنا صائم؟ فقال: «الله أطعمك وسقاك» (4).
وجه الاستدلال من أربعة وجوه:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من أكل أو شرب ناسيا بإتمام صومه؛ تخصيصا له بهذا الحكم بقوله: «من أكل أو شرب ناسيا» ، فعلم أن هذا إتمام لصوم صحيح، إذ لو كان المراد به وجوب الإمساك؛ لم يكن بين العامد والناسي فرق (5).
الثاني: أنه قال: «فليتم صومه» ، وصومه هو الصوم الصحيح المجزئ، وقد أمر بإتمامه، فعُلِم أن الصوم الذي بعد الأكل تمام للصوم الذي قبله، ولو أراد وجوب الإمساك فقط؛ لقال: فليتم صياما، أو: فليصم بقية يومه ونحو ذلك (6).
الثالث: أنه لم يأمره بالقضاء، وقد جاء مستفتيا له عما يجب عليه، شاكا في الأكل مع النسيان: هل يفسد أو لا يفسد؟ . ومعلوم أن القضاء لو كان واجبا، لذَكَره له؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة (7).
(1) سورة البقرة: آية: 225.
(2)
ينظر: فتح الباري 4/ 157، نيل الأوطار 4/ 245.
(3)
رواه البخاري 3/ 31 رقم 1933، كتاب الصوم، باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا، ومسلم 2/ 809 رقم 1155، كتاب الصيام، باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر.
(4)
رواه أبو داوود 2/ 315 رقم 2398، كتاب الصوم، باب من أكل ناسيا، وقال الألباني في صحيح أبي داود 7/ 161:"إسناده صحيح على شرط مسلم".
(5)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 457.
(6)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 457، وينظر: إحكام الأحكام 2/ 12، عمدة القاري 11/ 18.
(7)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 457 - 458، والحاوي الكبير 3/ 431.
الرابع: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أطعمك وسقاك» : معناه: لا صنع لك في هذا الفعل، وإنما هو فعل الله فقط؛ فلا حرج عليك فيه ولا إثم؛ فأتمم صومك (1).
الدليل الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«من أفطر في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة» (2).
وفي لفظ: «إذا أكل الصائم ناسيا أو شرب ناسيا، فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه» (3).
وجه الاستدلال: نص الحديث على إسقاط القضاء والكفارة على من أفطر ناسيا في شهر رمضان (4).
الدليل الخامس: عن أم إسحاق (5) رضي الله عنها أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأُتِي بقصعة من ثريد (6) ، فأكلت معه، ومعه ذو اليدين (7) ، فناولها رسول الله صلى الله عليه وسلم عَرْقا (8)، فقال:«يا أم إسحاق! أَصيبي من هذا» . فذكرتُ أني كنت صائمة، فتركتُ يدي لا أقدمها ولا أؤخرها،
(1) ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 458، الحاوي الكبير 3/ 431، وحاشية الروض المربع 3/ 401، إحكام الأحكام 2/ 12.
(2)
رواه ابن حبان 8/ 287 رقم 3521، كتاب الصوم، باب ذكر نفي القضاء والكفارة على الآكل الصائم في شهر رمضان ناسيا، والحاكم 1/ 595 رقم 1569، وقال:"هذا حديث صحيح على شرط مسلم"، والدارقطني في السنن 3/ 142 رقم 2243، كتاب الصيام، وعنه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 387 رقم 8074، باب من أكل أو شرب ناسيا فليتم صومه ولا قضاء عليه، وقال:"كلهم ثقات"، وقال الألباني في الإرواء 4/ 87:"إسناده حسن".
(3)
رواه الدارقطني في السنن 3/ 141 رقم 2242، كتاب الصيام، وقال:"إسناد صحيح وكلهم ثقات".
(4)
ينظر: فتح الباري 4/ 157، وعمدة القاري 11/ 18، وعون المعبود 7/ 23.
(5)
هي: أم إسحاق الغنوية، كانت من المهاجرات، روت عنها: أم حكيم بنت دينار، ويروي عنها أهل البصرة. ينظر: الإصابة 8/ 354، معرفة الصحابة 6/ 3470، الاستيعاب 4/ 1925.
(6)
الثَرِيد والثَرِيدة: طعام يتخذ من الخبز يُهشم ويبل بماء القدر ونحوه، ولا يكون غالبا إلا مع لحم. ينظر: تهذيب اللغة 14/ 63، القاموس المحيط 3/ 102.
(7)
ذو اليَدَيْن: رجل من بني سليم يقال له: الخِرْباق بن عمرو، شهد النبي صلى الله عليه وسلم وقد أوهم في صلاته فخاطبه ذو اليدين، عاش حتى روى عنه المتأخرون من التابعين. ينظر: تهذيب الأسماء واللغات 1/ 185، الإصابة 2/ 233، الوافي بالوفيات 13/ 186.
(8)
العَرْق: بسكون الراء هو العظم الَّذي يقشر عَنه مُعظم اللَّحم وَتبقى عَلَيه بَقِيَّة من لَحمه. ينظر: تهذيب اللغة 1/ 150، النهاية 3/ 220، تاج العروس 26/ 136.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما لك؟ » . قلت: كنت صائمة فنسيت. فقال ذو اليدين: الآن بعدما شبعت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتمي صومك؛ فإنما هو رزق ساقه الله إليك» (1).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بإتمام صومها؛ فيكون صياما صحيحا، وأنه لا فرق بين من أكل كثيرا أو أكل قليلا في صحة صيامه (2).
الدليل السادس: عن عمرو بن دينار أن إنسانا جاء إلى أبي هريرة رضي الله عنه فقال: أصبحتُ صائما، فنسيت فطَعِمت، وشرِبت قال:«لا بأس، الله أطعمك وسقاك» ، قال: ثم دخلت على إنسان آخر، فنسيت فطعمت، وشربت قال:«لا بأس، الله أطعمك وسقاك» ، قال: ثم دخلت على إنسان آخر فنسيت، وطعمت، فقال أبو هريرة رضي الله عنه:«أنت إنسان لم تتعَوَّد الصيام» (3).
الدليل السابع: ولأنه قول جمع من الصحابة ولا مخالف لهم، كعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت (4)، وأبي هريرة، وابن عمر رضي الله عنهم (5).
الدليل الثامن: وقياسا على الصلاة، حيث تبطل بتعمد الأكل فيها لا بالنسيان؛ فكذا الصيام (6).
أدلة القول الثاني: القائلين صيامه فاسد وعليه القضاء.
الدليل الأول: قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (7).
(1) رواه الإمام أحمد 44/ 626 رقم 27069، وقال محققه شعيب الأرناؤوط:"إسناده ضعيف"، والطبراني في المعجم الكبير 25/ 169، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 157 رقم 4895:"وفيه أم حكيم; ولم أجد لها ترجمة"، وقال الألباني في الإرواء 4/ 88:"وهذا سند ضعيف".
(2)
ينظر: فتح الباري 4/ 157، ونيل الأوطار 4/ 245.
(3)
رواه عبد الرزاق في المصنف 4/ 174 رقم 7378، في الصوم، باب الرجل يأكل ويشرب ناسيا.
(4)
هو زَيْد بن ثَابِت بن الضَّحَّاك الخَزْرَجِيّ الأنصاري، من أكابر الصحابة، من كاتب الوحي، وممن جمعوا القرآن، ولد في المدينة، ونشأ بمكة، وهاجر وعمره (11) سنة، كان رأسًا في القضاء والفتيا والقراءة والفرائض، كتب المصحف لأبي بكر، ثم لعثمان، توفي سنة 45 هـ وقيل بعدها. ينظر: الاستيعاب 2/ 537، معرفة الصحابة 3/ 1151، سير أعلام النبلاء 2/ 426.
(5)
ينظر: الإشراف لابن المنذر 3/ 126، والاستذكار 3/ 350، وفتح الباري 4/ 157، ونيل الأوطار 4/ 245.
(6)
ينظر: فتح الباري 4/ 157، ونيل الأوطار 4/ 245.
(7)
سورة البقرة: آية: 187.
وجه الاستدلال من الآية: أن المطلوب من المكلف صيام يوم تام لا يقع فيه خَرْم، وهذا لم يأت به على التمام فهو باق عليه (1)؛ لأن الصوم قد فات ركنه، وهو من باب المأمورات، والقاعدة تقتضي: أن النسيان لا يؤثر في طلب المأمورات (2)(3).
الدليل الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما الله أطعمه وسقاه» (4).
وجه الاستدلال من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن الحديث محمول على رفع الإثم والحرج عنه، فأما القضاء فلابد منه؛ لأن صورة الصوم قد عدمت، وحقيقته بالأكل قد ذهبت، والشيء لا بقاء له مع ذهاب حقيقته؛ (كالحَدَث)(5) يُبطِل الطهارة سهوًا جاء أو عمدا. وهذا الأصل العظيم لا يَرُدُّه ظاهر محتمل للتأويل (6).
الوجه الثاني: لعل الحديث كان في صوم التطوع وذلك لخفة التطوع؛ وذلك لأن هذا الحديث لم يُعَيِّن أن الصوم كان في شهر رمضان (7).
الوجه الثالث: أن المراد بهذا الحديث الإمساك تَشَبُّها، كالحائض إذا طهرت وغيرها ممن وُجِد منه ما ينافي الصوم (8).
الدليل الثالث: ولأن كل فعل لا يصح الصوم مع شيء من جنسه عمدا على وجه، فلا يصح مع سهوه؛ أصله ترك النية (9).
(1) ينظر: الجامع لأحكام القرآن 2/ 323، والإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 431.
(2)
تنظر القاعدة في: القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة 1/ 646.
(3)
ينظر: إحكام الأحكام 2/ 11.
(4)
سبق تخريجه صفحة (320).
(5)
الحَدَث في اللُّغَة: كَوْنُ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلُ. وفِي الْفِقه: مَا يَنْقُضُ الطهارة. ينظر: النظم المستعذب في تفسير غريب ألفاظ المهذب 1/ 9.
(6)
ينظر: القبس لابن العربي 1/ 520، والمعلم 2/ 63، تفسير القرطبي 2/ 323.
(7)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن 2/ 323، وشرح الزرقاني على الموطأ 2/ 27، وفتح الباري 4/ 157.
(8)
ينظر: شرح الرسالة للقاضي عبد الوهاب 1/ 280.
(9)
ينظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 436، المنتقى 2/ 65.
الترجيح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الأول: صحة صيام من أكل أو شرب ناسيا؛ وذلك لصحة أدلتهم، ولسلامتها من المعارضة، وحديث أبي هريرة نص في المسألة.
وأما أصحاب القول الثاني فيجاب عن أدلتهم بما يلي:
أولا: أما قولهم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: إن المقصود من الحديث سقوط الحرج والإثم لا القضاء، فيجاب عنه:
أن الحديث جاء صريحا مما لا شك فيه بإسقاط القضاء عن من أكل أو شرب ناسيا.
ثانيا: وأما قولهم: إن المقصود من الحديث: مَن أكل أو شرب في صوم النفل، فيجاب عنه: أنه قد صح تعيين شهر رمضان كما سبق في الأدلة.
ثالثا: وأما قولهم في تأويل الحديث: إن المراد بالحديث الإمساك تَشَبُّها كالحائض إذا طهرت وغيرها ممن وجد منه ما ينافي الصوم. فيجاب عنه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر من أكل أو شرب ناسيا بإتمام صومه، أما الممسك تَشبُّها فليس مُتِما لصومه؛ لأنه لا صوم له أصلا (1).
رابعا: وأما قولهم: لأن كل فعل لا يصح الصوم مع شيء من جنسه عمدا على وجه، فلا يصح مع سهوه، أصله ترك النية. فيجاب عنه:
أن النية ليس تركها فعلا؛ كالأكل ناسيا، حتى يقاس عليها. ولأنها (شَرْطٌ)(2)، والشروط لا تسقط بالسهو، بخلاف المبطلات (3). والله أعلم.
(1) ينظر: تبيين الحقائق 1/ 322.
(2)
الشَّرْط: واحد شروط، وهو في اللُّغَة الْعَلامَة. وفي الاصطلاح: عبارة عما يضاف الحكم إليه وجودًا عند وجوده لا وجوبًا. ينظر: تحرير ألفاظ التنبيه ص/336، التعريفات ص/126.
(3)
ينظر: المغني 3/ 131.
المطلب التاسع: حكم من اسْتَقاء (1) عمدا وهو صائم.
اختيار الشيخ: اختار أن من استقاء عمدا بطل صومه وعليه القضاء، فقال:"والحديث دليل على أنه لا يبطل صوم من غلبه القيء لقوله فلا قضاء عليه؛ إذ عدم القضاء فرع الصحة. وعلى أنه يبطل صوم من تعمد إخراجه ولم يغلبه؛ لأمره بالقضاء"(2).
اختلف أهل العلم في من استقاء عامدا في رمضان على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يبطل صومه وعليه القضاء.
وبه قال: الحنفية (3) ، والمالكية (4) ، والشافعية (5) ، والحنابلة (6) ، والظاهرية (7)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: لا يفطر وصيامه صحيح.
وروي ذلك عن: ابن مسعود، وابن عباس (8) رضي الله عنهما ، وطاووس (9).
القول الثالث: يبطل صومه وعليه القضاء والكفارة.
(1) استقاء: هو استفعل من القيء، وهو استخراج ما في الجوف تعمدا. ينظر: النهاية 4/ 218.
(2)
مرعاة المفاتيح 6/ 511. وسيأتي الحديث في الصفحة التالية 325.
(3)
الأصل 2/ 192 - 193، الجوهرة النيرة 1/ 139، البناية 4/ 50، البحر الرائق 2/ 295. تحرير المذهب عند الحنفية: من استقاء عمدا ملأ الفم بطل صومه وعليه القضاء قولا واحدا، أما إن استقاء أقل من ملء الفم فلم يفصل في ظاهر الرواية، أما عند أبي يوسف ورواية الحسن عن أبي حنيفة، لا قضاء عليه وصيامه صحيح؛ فإن ما دون مليء الفم تبع لريقه فكان قياس ما لو تجشأ. ينظر: المبسوط للسرخسي 3/ 56، وتحفة الفقهاء 1/ 357، وبدائع الصنائع 2/ 93.
(4)
المدونة 1/ 271، الرسالة ص 60، الكافي 1/ 345، الذخيرة 2/ 507، التاج والإكليل 3/ 343. واختلف أصحاب مالك هل القضاء على الوجوب أو على الاستحباب. ينظر: المنتقى 2/ 64.
(5)
مختصر المزني 8/ 152، الحاوي 3/ 419، الوسيط 2/ 524، المجموع 6/ 319.
(6)
مختصر الخرقي ص 49، الكافي 1/ 441، الإنصاف 3/ 300، الروض المربع 1/ 231. قال ابن قدامة:"وقليل القيء وكثيرة سواء في ظاهر قول الخرقي وهو إحدى الروايات عن أحمد، والرواية الثانية: لا يفطر إلا بملء الفم، والثالثة: نصف الفم والأولى أولى لظاهر حديث أبي هريرة رضي الله عنه، (سيأتي في الأدلة) "ولأن سائر المفطرات لا فرق بين قليلها وكثيرها انتهى مختصرا". المغني 3/ 132.
(7)
المحلى 4/ 335.
(8)
المغني 3/ 132، المجموع 6/ 320، الحاوي الكبير 3/ 419، البيان للعمراني 3/ 507، فتح الباري 4/ 174.
(9)
مصنف عبد الرزاق رقم 7552، بداية المجتهد 2/ 54.
وروي ذلك عن: عطاء بن أبي رباح، وأبي ثور، والأوزاعي (1).
سبب الخلاف: قال ابن رشد: "وسبب اختلافهم: ما يتوهم من التعارض بين الأحاديث الواردة في هذه المسألة، واختلافهم أيضا في تصحيحها"(2).
أدلة القول الأول: القائلين بأنه يبطل صومه وعليه القضاء.
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ذَرَعَهُ (3) قيْء، وهو صائم، فليس عليه قضاء، وإن استقاء فليقض» (4).
وجه الاستدلال: دل الحديث على أنه لا يبطل صوم من غلبه القيء، ولا يجب عليه القضاء، ويبطل صوم من تعمد إخراجه ولم يغلبه ويجب عليه القضاء (5).
الدليل الثاني: عن أبي الدرداء رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر» . قال معدان بن أبي طلحة (6) الراوي له عن أبي الدرداء: فلقيت ثوبان رضي الله عنه في مسجد دمشق فقلت له: إن أبا الدرداء أخبرني، فذكره، فقال: صدق أنا صببت عليه وَضُوءَه (7)(8).
(1) ينظر: الإشراف لابن المنذر 3/ 129، معالم السنن 2/ 112، الاستذكار 3/ 348، بداية المجتهد 2/ 68، المجموع 6/ 320.
(2)
بداية المجتهد 2/ 54.
(3)
ذَرعه: أي سبقه وغلبه في الخروج. ينظر النهاية في غريب الحديث 2/ 395.
(4)
رواه أبو داود 2/ 310 رقم 2380، في الصوم، باب الصائم يستقيء عامدا، واللفظ له، والترمذي 3/ 89 رقم 720، في الصوم، باب ما جاء فيمن استقاء عمدا، وقال:"حسن غريب"، وابن ماجه 1/ 536 رقم 1676، في الصيام، باب ما جاء في الصائم يقيء، وصححه الألباني في الإرواء 4/ 51 رقم 923.
(5)
ينظر: نيل الأوطار 4/ 242.
(6)
هو: معدان بن أبي طلحة، ويقال ابن طلحة، اليَعْمري الكناني الشامي، وهو معدود في الطبقة الأولى من أهل الشام، سمع: عمر، وأبا الدرداء، وثوبان، روى عنه: سالم بن أبي الجعد، والوليد بن هشام. ينظر: تهذيب الكمال 28/ 256، تهذيب التهذيب 10/ 228، تاريخ الإسلام 2/ 884.
(7)
الوَضوء: بالفتح هو الماء، والوُضوء بالضم هو الفعل. وهو من الوَضَاءة وهي الحُسْن والنَظافة. ينظر: الصحاح ص 80.
(8)
رواه أبو داود 2/ 310 رقم 2381، في الصوم، باب الصائم يستقيء عامدا، والترمذي 1/ 142 رقم 87، في الطهارة، باب الوضوء من القيء والرعاف، وقال:"هذا أصح شيء في هذا الباب"، والدارقطني في السنن 3/ 147 رقم 2258، في الصيام، باب القبلة للصائم، وقال الألباني في صحيح أبي داود 7/ 142:"إسناده صحيح".
وفي رواية: «استقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأفطر، فأُتِيَ بماء، فتوضأ» (1).
وجه الاستدلال: بينت الرواية الثانية بأن فطره صلى الله عليه وسلم كان بسبب استقاءته، لا بسبب ذرع القيء (2).
الدليل الثالث: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: «من استقاء وهو صائم فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء فليس عليه القضاء» (3).
الدليل الرابع: قال ابن المنذر: "وأجمع أهل العلم على إبطال صوم من استقاء عامدا"(4).
الدليل الخامس: ولأن المُتعمِّد للقيء والمُستعمِل له والمُكرِه لنفسه عليه، لا يَسْلَم في الغالب من رجوع شيء إلى حلقه، مما قد صار فيه، فيقع به فطره. فلما كان ذلك الغالب من حاله، حُمِل سائره على غالبه؛ كالحكم بالحَدَث في النوم (5).
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه لا يفطر وصيامه صحيح.
الدليل الأول: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ لا يُفطِرْن الصائم: الحجامة، والقيء، والاحتلام» (6).
الدليل الثاني: عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عائشة هل مِن كِسرَة؟ «، فأتيته بقرص فوضعه على فيه، وقال: «يا عائشة هل دخل بطني منه شيء؟ كذلك قُبلَة الصائم. إنما الإفطار مما دخل وليس مما خرج» (7).
(1) رواه أحمد 45/ 525 رقم 27537، والنسائي في السنن الكبرى 3/ 317 رقم 3116، في الصيام، باب في الصائم يتقيأ، وقال الألباني في الإرواء 1/ 147:"ورجاله ثقات".
(2)
ينظر: معرفة السنن والآثار للبيهقي 6/ 261، والاستذكار 3/ 325، ونيل الأوطار 4/ 242.
(3)
رواه مالك في الموطأ 1/ 304، باب ما جاء في قضاء رمضان والكفارات، وعنه الشافعي في الأم 2/ 100.
(4)
الإجماع ص: 49، والإشراف له 3/ 129، وينظر: شرح ابن بطال على البخاري 4/ 80، والتوضيح لابن الملقن 13/ 278.
(5)
ينظر: المنتقى للباجي 2/ 64، والإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 431.
(6)
رواه الترمذي 3/ 88 رقم 719، في الصيام، باب ما جاء في الصائم يذرعه القيء، وقال:"حديث غير محفوظ"، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 372 رقم 8034، في الصيام، باب من دخل في صوم التطوع بعد الزوال، وقال الألباني في ضعيف الترمذي 1/ 82:"ضعيف".
(7)
رواه أبو يعلى في مسنده رقم 4602، 4954، وقال محققه حسين سليم أسد:"إسناده ضعيف"، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 167:"وفيه من لم أعرفه"، وقال الألباني في السلسلة الضعيفة 2/ 378:"ضعيف".
الدليل الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «الفطر مما دخل وليس مما يخرج» (1).
الدليل الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: «إذا قاء؛ فلا يفطر، إنما يخرج ولا يولج» (2).
وجه الاستدلال: جاء في هذه الأحاديث أن الصوم لا يُنقَض إلا بشيء يدخل، ولا يُنقَض بشيء يخرج، والإستقاءة مما يخرج فلا تكون ناقضة للصيام (3).
الدليل الخامس: ولأنه لو وجب القضاء لوجبت الكفارة (4).
أدلة القول الثالث: القائلين بأنه يبطل صومه وعليه القضاء والكفارة.
استدلوا بقياس تعمد الفطر بالقيء على تعمد الفطر بالجماع: فكما أن تعمد الجماع في رمضان يوجب الكفارة، فكذا الفطر بالاستقاءة يوجب ذلك (5)، بجامع أن كلّا منهما مُتعمِدٌ للفطر في يوم رمضان (6).
الترجيح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الأول: أن من استقاء عمدا أفطر ووجب عليه القضاء؛ وذلك لصحة ما استدلوا به، ولأن حديث أبي هريرة نص في محل النزاع، ولضعف أدلة الآخرين، وبيانه كما يلي:
أولا: أما استدلال أصحاب القول الثاني بحديث: «ثلاث لا يفطرن الصائم» ، فيجاب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أن الحديث المرفوع ضعيف لا تقوم به الحجة (7).
الوجه الثاني: وعلى التسليم بصحته فيكون المقصود من القيء هنا من ذرعه القيء؛ بدليل اقترانه في نص الحديث مع الاحتلام؛ فكما أن من لم يتعمد إخراج المني -وهو المحتلم- لا
(1) سبق تخريجه صفحة (302).
(2)
رواه البخاري معلقا بصيغة الجزم في كتاب الصوم 3/ 33، باب الحجامة والقيء للصائم.
(3)
ينظر: عمدة القاري 11/ 35.
(4)
ينظر: فتح الباري 4/ 174.
(5)
ينظر: بداية المجتهد 2/ 69، والتوضيح لابن الملقن 13/ 280.
(6)
ينظر: المنتقى للباجي 2/ 64.
(7)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 402، المغني 3/ 132.
يفطر، فكذا من لم يتعمد إخراج القيء -وهو من ذرعه القيء، لا يفطر. وكما أن استخراج المني بالاستمناء مُفطِّر، فكذا استخراج القيء بالاستقاءة مُفَطِّر (1).
ولأن هذا الحديث أتى مطلقا وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أتى مقيدا بالعمد فيحمل المطلق على المقيد (2).
ثانيا: وأما استدلالهم بقوله: «الفطر مما دخل وليس مما خرج» ، فيجاب عنه:
أن استدلالهم هذا معارَض بخروج المني على الصفة التي تُفطِّر، وهي الجِماع والاستمناء، وخروج دم الحيض والنِفاس. فإن قالوا: ما ذُكِر مخصوص بالدليل، قيل لهم: والاستقاءة مخصوصة أيضا بالدليل (3).
ثالثا: وأما قولهم: إنه لو وجب القضاء لوجبت الكفارة، فيجاب عنه:
أن إيجاب القضاء على من استقاء دون الكفارة، دليل على أن الكفارة خاصة بمن جامع في يوم رمضان، لا إسقاط القضاء على من استقاء (4).
رابعا: وأما ما استدل به أصحاب القول الثالث: من قياس الاستقاءة على الوَطْء (5) في لزوم الكفارة، وأن من وجب عليه القضاء وجبت عليه الكفارة، فيجاب عنه من وجهين:
الأول: أن النص قد جاء بإيجاب القضاء على المستقيء دون الكفارة، ولو كانت الكفارة واجبة لنص عليها كما نص عليها في من جامع في رمضان.
والثاني: أن الكفارة إنما تجب إذا كان الفطر نفسه باختيار الصائم، فأما إذا فعل فعلا يؤدي إلى وقوع الفطر منه بغير اختيار فإنه لا تجب به الكفارة (6).
والله أعلم.
(1) ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 402، والحاوي الكبير 3/ 419.
(2)
ينظر: الدراري المضية للشوكاني 2/ 174، ومعرفة السنن والآثار للبيهقي 6/ 261.
(3)
ينظر: المغني 3/ 132، والحاوي الكبير 3/ 419، عمدة القاري 11/ 35.
(4)
ينظر: فتح الباري 4/ 174، وينظر: صحيح ابن خزيمة 2/ 943.
(5)
الوَطْء في الأصل: الدوس بالقدم، ووَطِئَ المرأَةَ يَطَؤُها: نَكَحَها. ينظر: لسان العرب 1/ 197.
(6)
ينظر: المنتقى للباجي 2/ 64.