الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السادس: حكم من نذر الاعتكاف قبل إسلامه
.
اختيار الشيخ: اختار أن من نذر الاعتكاف قبل إسلامه فإن نذره ينعقد ويجب الوفاء به بعد إسلامه، فقال بعد حديث: أن عمر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ قال: «فأوف بنذرك» (1): "وفيه رد على من زعم أن المراد بالجاهلية ما قبل فتح مكة، وأنه إنما نذر في الإسلام، وأصرح من ذلك
…
«نذر عمر في الشرك أن يعتكف» (2) " (3).
اختلف العلماء في من نذر قبل إسلامه عبادة كالاعتكاف هل يجب عليه الوفاء بها بعد إسلامه على قولين:
القول الأول: لا يجب عليه الوفاء بما نذره حال كفره.
وبه قال: الحنفية (4)، والمالكية (5)، والشافعية في الصحيح (6)، والحنابلة في رواية (7).
القول الثاني: يجب عليه الوفاء بما نذره حال كفره.
وهو: وجه عند الشافعية (8)، ورواية عند الحنابلة هي منصوص الإمام أحمد (9)، وقول الظاهرية (10)، وهو اختيار الشيخ.
أدلة القول الأول: القائلين بأنه لا يجب عليه الوفاء بما نذره حال كفره.
الدليل الأول: قوله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (11).
(1) سبق تخريجه صفحة (629).
(2)
سيأتي تخريجه صفحة (650).
(3)
مرعاة المفاتيح 7/ 152.
(4)
بدائع الصنائع 5/ 82، الدر المختار ص 283، فتح القدير 5/ 87، البحر الرائق 4/ 317.
(5)
الذخيرة 4/ 70، المنتقى 3/ 230، المعلم 2/ 369، المسالك 5/ 376.
(6)
الأم 2/ 112، الوسيط 7/ 259، العزيز 12/ 355، روضة الطالبين 3/ 293.
(7)
الفروع 11/ 67، القواعد والفوائد الأصولية ص 85، الإنصاف 11/ 117، منتهى الإرادات 5/ 25.
(8)
الوسيط 7/ 259، العزيز 12/ 355، حلية العلماء 3/ 334، المجموع 6/ 480.
(9)
المغني 9/ 488، الإقناع 4/ 357، المحرر 2/ 199، الفروع 11/ 67، الإنصاف 11/ 117.
(10)
المحلى 6/ 274.
(11)
سورة الزمر: آية: 65.
وقوله سبحانه وتعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} (1).
وقوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (2).
وجه الاستدلال من الآيات: في هذه الآيات دليل على أن الأعمال الصالحة لا تنفع إلا مع الإيمان بالله؛ لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة (3).
والنَذر من الأعمال الصالحة التي يُبتَغى بها وجه الله والدار الآخرة، والكافر ليس من الذين يبتغون بعملهم ذلك، فكان وجودُه منه كعدمه.
الدليل الثاني: عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» (4).
الدليل الثالث: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نَذرَ إلا فيما ابتُغِي به وجه الله عز وجل» (5).
وفي رواية: «إنما النذر ما ابتُغِيَ به وجه الله عز وجل» (6).
وجه الاستدلال من الحديثين: من المعلوم أن النذور إنما تجب إذا كانت مما يُتقَرَّب به إلى الله سبحانه وتعالى ، ولا تجب إذا كانت معاصي لله عز وجل. والكافر إذا قال: لله علي اعتكاف، ثم أوفى بنذره بعد إسلامه، لم يكن به متقربا إلى الله؛ لأنه في الوقت الذي أوجبه فيه على نفسه إنما قَصَد به أن يَنذُر لربه الذي يَعبده من دون الله. ولا شكّ أن ذلك معصية. فدخل ذلك في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنما النذر ما ابتُغِي به وجه الله عز وجل» (7).
(1) سورة الفرقان: آية: 23.
(2)
سورة الإسراء: آية: 19.
(3)
ينظر: أضواء البيان 3/ 81.
(4)
رواه البخاري 8/ 142 رقم 6696، في الأيمان والنذور، باب النذر في الطاعة.
(5)
رواه أحمد 11/ 344 رقم 6732، واللفظ له، وأبو داود 3/ 228 رقم 3273، كتاب الأيمان والنذور، باب اليمين في قطيعة الرحم، وقال الألباني في صحيح أبي داود 6/ 395:"حسن".
(6)
رواه أحمد 11/ 324 رقم 6714، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 115 رقم 20049، كتاب الأيمان، باب من جعل شيئا من ماله صدقة، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة 6/ 857 رقم 2859:"وهذا سند حسن".
(7)
ينظر: شرح معاني الآثار 3/ 134.
الدليل الرابع: ولأن حديث عمر رضي الله عنه والذي فيه قوله: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ قال:«أوف بنذرك» (1)، لا يدل على وجوب وفاء نذر الكافر إذا أسلم؛ وذلك من وجهين:
الأول: في قول عمر رضي الله عنه: «نذرت في الجاهلية» أن مراده أيام الجاهلية بعد الإسلام؛ لأنه لم يقُل: وأنا كافر، أو وأنا على دين الجاهلية (2).
قال القسطلاني: "المراد أنه نذر بعد إسلامه في زمن لا يَقْدِر أن يفي بنذره فيه؛ لمَنع الجاهلية للمسلمين من دخول مكة، ومِن الوصول إلى الحرم"(3).
الثاني: أن قوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: «أوف بنذرك» محمول على الاستحباب لا على الوجوب؛ بدلالة أن الإسلام يهدم ما قبله (4).
الدليل الخامس: ولأنه لَمّا كان النذر مما يتقرب به إلى الله، وكون المنذور به قربة شرط صحةِ النَذر، لم يُقبَل من الكافر؛ لأن الكافر ليس من أهل القرب، ولا يوصف فِعلُه بكونه قربة (5).
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه يجب عليه الوفاء بما نذره حال كفره.
الدليل الأول: عن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ قال:«أوف بنذرك» (6).
وجه الاستدلال: دَلّ الحديث على أن نذر الكافر صحيح، فإذا أسلم لزمه الوفاء به (7)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر عمر رضي الله عنه بالوفاء بنذره إلا لتعلق ذِمّته به (8).
(1) سبق تخريجه صفحة (629).
(2)
ينظر: الذخيرة 4/ 70، والعزيز شرح الوجيز 12/ 356، المعلم 2/ 369.
(3)
إرشاد الساري 3/ 441.
(4)
ينظر: شرح البخاري لابن بطال 4/ 168، التوضيح لابن الملقن 30/ 222.
(5)
ينظر: إحكام الأحكام 2/ 43، العزيز في شرح الوجيز 12/ 356، إرشاد الساري 3/ 441، بدائع الصنائع 5/ 82.
(6)
سبق تخريجه صفحة (629).
(7)
ينظر: سبل السلام 2/ 564، نيل الأوطار 8/ 286، عمدة القاري 23/ 209.
(8)
ينظر: معالم السنن 4/ 61.
الدليل الثاني: في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن ثُمَامة بن أَثَال (1) رضي الله عنه، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ، والله ما كان من دين أبغض إليّ من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إليّ، وإن خَيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ . «فَبَشَّرَه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأَمَره أن يعتمر» (2).
وجه الاستدلال: في الحديث أن القُرَب التي التزمها الإنسان حال كفره يصح له فعلها إذا أسلم، فهذا ثمامة ¢ كان حال كفره مريدا للعمرة، وبعد أن أسلم أمره النبي بإتمام نيته، ولم يخبره بأن ما كان التزمه حال كفره باطل (3).
الدليل الثالث: عن حَكيم بن حِزام (4) رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، أرأيتَ أشياء كنت أَتَحَنَّث (5) بها في الجاهلية من صدقة، أو عتاقة، وصِلَة رحم، فهل فيها من أجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أسلمتَ على ما سَلَف من خير» (6).
(1) هو: ثُمامة بن أَثال بن سلمان بن وائل بن سلمان بن ربيعة. صحابي جليل، أحد أشراف قبيلة بني حنيفة، وسيد أهل اليمامة. أسلم بعد العام السابع من الهجرة. توفي بعد حروب الردة في البحرين. حيث قتل وهو في طريق العودة إلى اليمامة. ينظر: الاستيعاب 1/ 213، أسد الغابة 1/ 294، وسير أعلام النبلاء 2/ 14.
(2)
رواه البخاري 5/ 170 رقم 4372، في المغازي باب وفد بني حنيفة، وحديث ثمامة بن أثال، ومسلم 3/ 1386 رقم 1764، في الجهاد والسير باب ربط الأسير وحبسه، وجواز المن عليه.
(3)
ينظر المحلى 6/ 275.
(4)
هو: حَكيم بن حِزام بن خويلد بن أسد القرشي، ابن أخي خديجة بنت خويلد. صحابي، أسلم عام الفتح، وكان من أشراف قريش ووجوهها في الجاهلية والإسلام، توفي سنة 54 هـ، وهو ابن مائة وعشرين سنة. ينظر: الاستيعاب 1/ 362، الإصابة 2/ 97.
(5)
التحنَّث: التَّعبد، ومعناه: يفعل فعلا يخرج به من الإثم والحرج. ينظر: النهاية 1/ 449، تاج العروس 5/ 225.
(6)
رواه البخاري 2/ 114 رقم 1436، كتاب الزكاة، باب من تصدق في الشرك ثم أسلم، ومسلم 1/ 113 رقم 123، كتاب الإيمان، باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده.
وجه الاستدلال: في الحديث أن الكافر إذا أسلم كَتَب الله له في الإسلام كل حسنة عملها في الشِرك (1). ولا شك أن النذر من أحسن الأعمال.
الدليل الرابع: عن طاوس، في رجل نذر في الجاهلية، ثم أسلم؟ قال:«يوفي نذره» (2).
الترجيح: الذي يترجح في هذه المسألة -والله أعلم- هو القول الثاني: أن من نذر حال كفره ثم أسلم أن نذره ينعقد ويجب عليه الوفاء بما نذره؛ وذلك لصحة ما استدلوا به، ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه بالوفاء بنذره؛ ولضعف ما استدل به أصحاب القول الأول، وبيان ذلك كما يلي:
أولا: أما استدلالهم بالآيات فيجاب عنه أنه لا حجة لهم فها؛ لأن ما ذُكِر في الآيات إنما نزل فيمن مات كافرا بنص الآيات، وقد قال الله سبحانه وتعالى:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} (3)(4)، ونحن كلامنا عن من نذر في الجاهلية ثم أسلم.
ثانيا: وأما تأويلهم لحديث عمر رضي الله عنه على ما ذكروه، فيجاب عنه من وجهين:
الأول: أما قولهم في قوله: «نذرت في الجاهلية» : أن مراده أيام الجاهلية بعد الإسلام؛ لأنه لم يقُل وأنا كافر، فيجاب عنه: أن الرواية قد جاءت صريحة في كون نذر عمر رضي الله عنه كان قبل إسلامه، وهو ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما:«أن عمر نذر أن يعتكف في الشِرْك ويَصوم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه، فقال: أوف بنذرك» (5).
قال القسطلاني: "فهذا صريح في أن نذره كان قبل إسلامه في الجاهلية"(6).
الثاني: وأما قولهم -في قوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: «أوف بنذرك» -: محمول على الاستحباب لا على الوجوب، فيجاب عنه: أن أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم تحمل على الوجوب حتى يأتي ما يصرف هذا الوجوب إلى الندب، ولا صارف له (7).
(1) ينظر: فتح الباري 1/ 100، شرح البخاري لابن بطال 1/ 99.
(2)
رواه ابن أبي شيبة في المصنف 3/ 94 رقم 12428، في رجل نذر وهو مشرك، ثم أسلم ما قالوا فيه.
(3)
سورة البقرة: آية: 217.
(4)
ينظر: المحلى 6/ 275.
(5)
رواه الدارقطني في السنن 3/ 188 رقم 2365، كتاب الصيام، باب الاعتكاف، وقال:"هذا إسناد حسن".
(6)
إرشاد الساري 3/ 441.
(7)
ينظر: شرح البخاري لابن بطال 6/ 158، والتوضيح لابن الملقن 30/ 381.
ثم إن القول بالاستحباب مشكل على من يرى عدم انعقاد نذر الكافر (1).
وأما تعليلهم بأن النذر قربة، والكافر ليس من أهل القرب، فحديث حكيم بن حزام رضي الله عنه يَرُدّ ذلك.
قال ابن هبيرة: "والذي أراه أن النذر بالإسلام يتأكد؛ لأنه نذر لله عز وجل في الجاهلية وهو لا يعرفه؛ فلأن يفي له إذا عرفه وأمر به، أولى وآكد"(2).
والله أعلم.
(1) ينظر: نيل الأوطار 8/ 287، وعون المعبود 9/ 111، وتحفة الأحوذي 5/ 119.
(2)
الإفصاح عن معاني الصحاح 1/ 108.