الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة: حكم عقد نية النفل بعد الزوال
.
اختيار الشيخ: اختار عدم إجزاء نية النفل بعد الزوال فقال: "ومن ثمة لم تجز النية بعد الزوال ولا معه. والصحيح أن توجد النية في أكثر النهار الشرعي فيكون قبل الضَّحْوَة الكُبرى (1) "(2).
تحرير المسألة: مَرّ في المسألة السابقة أن العلماء قد اختلفوا في جواز عقد نية صيام النفل من النهار على قولين: فمنعه المالكية والمُزَني من الشافعية والظاهرية، وأجازه الجمهور.
ثم اختلف الجمهور في آخر وقت لنية التطوع، على قولين:
القول الأول: آخر وقت نية صوم التطوع ما قبل الزوال.
وبه قال: الحنفية (3) ، والشافعية في الأصح (4)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: تجوز النية قبل الزوال وبعده.
وبه قال: الحنابلة (5)، ورواية: حَرْمَلة (6) عند الشافعية (7).
سبب الخلاف: قال ابن رشد: "والسبب في اختلافهم: تعارض الآثار في ذلك"(8).
أدلة القول الأول: القائلين بتقييد نية الصوم بما قبل الزوال.
الدليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: «المتطوع بالخيار ما لم تزل الشمس» (9).
(1) الضَّحْوَة الكبرى: هو نصف النهار الشرعي يعني المنتصف الذي من الفجر إلى الغروب. التعريفات الفقهية ص 133.
(2)
مرعاة المفاتيح 6/ 462.
(3)
بدائع الصنائع 2/ 85، الاختيار 1/ 127، البناية شرح الهداية 4/ 14، مراقي الفلاح 1/ 238.
(4)
حلية العلماء 3/ 159، المجموع 6/ 292، الحاوي الكبير 3/ 405، روضة الطالبين 2/ 352.
(5)
الكافي 1/ 440، المغني 3/ 114، الفروع مع تصحيح الفروع 4/ 457، المبدع 3/ 20.
(6)
هو: حَرْمَلة بن يحيى بن عبد الله التُّجِيْبِي، أبو حفص المصري، الحافظ الفقيه من أصحاب الشافعي، روى عن: ابن وهب، والشافعي ولازمه، وغيرهما، وعنه: مسلم، وابن ماجه، وغيرهم، توفي سنة 243 هـ. ينظر: طبقات الشافعية 2/ 127، طبقات الشافعيين ص 128، تهذيب التهذيب 2/ 230.
(7)
البيان 3/ 496، الحاوي الكبير 3/ 406، منهاج الطالبين ص: 74، روضة الطالبين 2/ 352.
(8)
بداية المجتهد 2/ 56.
(9)
ذكره السرخسي في المبسوط 3/ 85، وليس هو في كتب السنة بهذا اللفظ والله أعلم، فلعل السرخسي رحمه الله رواه بالمعنى، ووجدت حديثا عند البيهقي في السنن الكبرى 4/ 460 رقم 8356، باب صيام التطوع والخروج منه قبل تمامه، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الصائم بالخيار ما بينه وبين نصف النهار» ، وقال:"تفرد به عون بن عمارة العنبري وهو ضعيف". ورقم 8358، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سمعت خليلي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: «الصائم في التطوع بالخيار إلى نصف النهار» ، وقال:"إبراهيم بن مزاحم وسريع بن نبهان مجهولان"، وقال الألباني في الإرواء 4/ 138:"فهو ضعيف لا يصح".
وجه الاستدلال: أن من أراد صيام النفل فآخر وقت لعقد نيته ما لم تزل الشمس (1).
الدليل الثاني: عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيني فيقول: «أعندك غداء؟ » ، فأقول: لا، فيقول:«إني صائم» . قالت: فأتاني يوما فقلت: يا رسول الله، إنه قد أهديت لنا هدية، قال:«وما هي؟ » . قالت: قلت: حيس، قال:«أما إني قد أصبحت صائما» . قالت: ثم أكل (2).
وجه الاستدلال: أن الحديث إنما جاء في صدر النهار (3).
لأن فعله صلى الله عليه وسلم إنما هو في الغداء، والغداء هو اسم لما يؤكل قبل الزوال (4).
الدليل الثالث: لأن الأصل في نية الصيام أن محلها الليل؛ لحديث حفصة رضي الله عنها (5) ، ثم قام الدليل على جوازها قبل الزوال، لحديث عائشة رضي الله عنها (6) ، ويبقى ما بعده على حكم الأصل (7).
الدليل الرابع: "ولأن معظم النهار مضى من غير نية، بخلاف الناوي قبل الزوال، فإنه قد أدرك معظم العبادة"(8).
الدليل الخامس: وقياسا على المسبوق في الصلاة: لأن من أدرك الإمام قبل الرفع من الركوع أدرك الركعة؛ لإدراكه معظمها، ولو أدركه بعد الرفع لم يكن مدركا لها. ولو أدرك
(1) ينظر: المبسوط للسرخسي 3/ 85.
(2)
سبق تخريجه صفحة (166).
(3)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 91.
(4)
ينظر: الفروع مع تصحيح الفروع 4/ 457، والمبدع 3/ 20، ومرعاة المفاتيح 6/ 462.
(5)
سبق تخريجه صفحة (161).
(6)
سبق تخريجه صفحة (166).
(7)
ينظر: الحاوي الكبير 3/ 406.
(8)
المغني 3/ 114، وينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 191.
مع الإمام من الجمعة ركعة كان مدركا لها؛ لأنها تزيد بالتشهد، ولو أدرك أقل من ركعة لم يكن مدركا لها (1).
الدليل السادس: ولأن الإمساك أول النهار أمر معتاد، فإذا لم تُصادِفه النية لم يَقْدَح ذلك فيه، بخلاف الإمساك آخر النهار، فإنه بخلاف المعتاد؛ فإذا لم ينو من أول النهار كان ذلك قادحا فيه وذهب الإمساك المقصود في الصوم باطلا (2).
أدلة القول الثاني: القائلين يصح قبل الزوال وبعده.
الدليل الأول: عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل علي قال: «هل عندكم طعام؟ » ، فإذا قلنا: لا، قال:«إني صائم» (3).
وجه الاستدلال: أن حديث عائشة رضي الله عنها جاء مطلقا من غير فصل بين ما قبل الزوال وما بعده (4).
الدليل الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يصبح حتى يُظْهِر، ثم يقول:«والله لقد أصبحت وما أريد الصوم، وما أكلت من طعام ولا شراب منذ اليوم، ولأصومن يومي هذا» (5).
الدليل الثالث: عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي (6): «أن حذيفة بدا له الصوم بعد ما زالت الشمس، فصام» (7).
(1) ينظر: المغني 3/ 114، وشرح العمدة كتاب الصيام 1/ 191.
(2)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 192.
(3)
سبق تخريجه صفحة (166).
(4)
ينظر: بدائع الصنائع 2/ 85، شرح عمدة الفقه كتاب الصيام 1/ 192.
(5)
أخرجه البخاري تعليقا 4/ 167، كتاب الصوم، باب إذا نوى بالنهار صوما، ووصله: الطحاوي في معاني الآثار 2/ 56 رقم 3188، كتاب الصيام، باب الرجل ينوي الصيام بعد ما يطلع الفجر، وقال الألباني في مختصر صحيح البخاري 1/ 448:"ووصله الطحاوي بسند جيد".
(6)
هو: عبد الله بن حبيب بن ربيعة، أبو عبد الرحمن السُّلَمي، الكوفي المقرئ، من كبار التابعين، ولأبيه صحبة، روى عن: عمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم، وعنه: إبراهيم النخعي، وأبو إسحاق السبيعي، وسعيد بن جبير، وغيرهم، توفي بعد سنة 70 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 4/ 268، تهذيب الكمال 14/ 408، وتاريخ بغداد 11/ 88.
(7)
أخرجه البخاري تعليقا 4/ 167، كتاب الصوم، باب إذا نوى بالنهار صوما، ووصله: ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 290 رقم 9091، كتاب الصيام، باب من قال الصائم بالخيار في التطوع، وعبد الرزاق في المصنف 4/ 274 رقم 7780، كتاب الصيام، باب إفطار التطوع وصومه إذ لم يبيته، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 342 رقم 7920، كتاب الصيام، باب من دخل في صوم التطوع بعد الزوال، وصحح سنده النووي في المجموع 6/ 303.
الدليل الرابع: عن المُسْتورد بن الأحنف (1) قال: «جاء رجل (أي إلى ابن مسعود) فصلى معه الظهر فقال: إني ظللت اليوم لا صائم ولا مفطر، كنت أتقاضى غريما (2) لي، فماذا ترى؟ قال: إن شئت صمت، وإن شئت أفطرت» (3).
الدليل الخامس: عن معاذ بن جبل (4) رضي الله عنه: «أنه كان يأتي أهله بعد الزوال، فيقول: عندكم غداء؟ فيعتذرون إليه، فيقول: إني صائم بقية يومي، فيقال له: تصوم آخر النهار؟ فيقول: من لم يصم آخره لم يصم أوله» (5).
وجه الاستدلال: فهؤلاء جمع من الصحابة رضي الله عنهم، لم يقيدوا جواز النية بما قبل الزوال، بل أجازوها إلى ما بعد الزوال.
قال إسحاق بن راهويه: "الأكثرون على أنه يجوز، وإن لم ينو إلا بعد نصف النهار، منهم: ابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، ومعاذ بن جبل: رأوا -إن لم ينو ليلا- أن يَصومَ في
(1) هو: المُسْتَورِد بن الأحنف الكوفي، من كبار التابعين، كان ثقة، وله أحاديث، روى له الجماعة سوى البخاري، روى عن: حذيفة، وابن مسعود، وغيرهما، وروى عنه: سلمة بن كهيل، وعلقمة بن مرثد. ينظر: تاريخ الإسلام 2/ 1004، تهذيب الكمال 27/ 437، تهذيب التهذيب 10/ 106.
(2)
الغَرِيم: الذي عليه الدين، وقد يكون غريم أيضا الذي له الدين. ينظر: الصحاح 2/ 1472، لسان العرب 12/ 436 مادة: غرم.
(3)
أخرجه الشافعي في الأم 7/ 304، والطحاوي في معاني الآثار 2/ 56، كتاب الصوم، باب الرجل ينوي الصيام بعد ما يطلع الفجر، وعزاه ابن تيمية في شرح العمدة 1/ 192 لحرب.
(4)
هو: معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الرحمن، إمام الفقهاء، وأعلم الأمة بالحلال والحرام، شهد بيعة العقبة، والمشاهد كلها، وكان ممن جمع القرآن، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة تبوك قاضيا لأهل اليمن، وقدم المدينة في خلافة أبي بكر، توفي في غزو الشام عام طاعون عمواس 18 هـ. ينظر: معرفة الصحابة 5/ 2431، تاريخ دمشق 58/ 383، سير أعلام النبلاء 1/ 443.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 291 رقم 9108، كتاب الصيام، من كان يدعو بغدائه فلا يجد فيفرض الصوم.
نهاره، يعني: ينوي أَيَّ وقت شاء، ولو كان بعد الزوال أيضا. وهذا أَعدَل الأقوال عندنا وأشبه بسُنَّة محمد صلى الله عليه وسلم " (1).
الدليل السادس: ولأنه لمّا كان الليل محلا للنية في صوم الفريضة، واستوى حكم أوله وآخره، ثم كان النهار محلا للنية في صوم التطوع، وجب أن يستوي حكم أوله وآخره (2).
الدليل السابع: ولأنه نوى في جزء من النهار، فأشبه ما لو نوى في أوله (3).
الترجيح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الثاني: أنه تجوز النية في صيام التطوع قبل الزوال وبعده؛ وذلك لما يلي:
لأن حديث عائشة رضي الله عنها ظاهر في جواز عقد النية قبل الزوال وبعده دون تقييد. وأما تقييدهم إياها بالزوال فهو تكلف بعيد.
ولأنه الأظهر من فعل الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
ولأن النظر يؤيد هذا القول؛ لأن ما صحت النية في أوله صحت في آخره.
وأما الحديث الذي استدلوا به: «المتطوع بالخيار ما لم تزل الشمس» فإني لم أقف عليه بهذا اللفظ فيما تيسر لي من مصادر ومراجع، ولم أجده إلا عند السرخسي في المبسوط، ولم يسنده أو يحيل إلى من أخرجه.
وقد ذكرت في الحاشية -عند ذكر هذا الحديث- روايات أخرى بألفاظ مقاربة؛ لكنها لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم.
(1) ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام لابن تيمية 1/ 192.
(2)
ينظر: الحاوي الكبير 3/ 407، المغني 3/ 114، شرح الزركشي 2/ 568.
(3)
ينظر: المغني 3/ 114.