الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الأولى: حكم من أكل أو شرب وهو شاك في الفجر
.
اختيار الشيخ: اختار أن المتسحر يأكل ويشرب إذا كان شاكا في طلوع الفجر حتى يتيقن، فقال عند حديث:«إذا سمع النداء أحدكم فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه» (1) ، وكان قد ذكر ست معاني لهذا الحديث، ثم ختم قائلا:"والراجح عندي هو المعنى الثالث ثم الرابع ثم الثاني"(2).
والمعنى الثاني الذي ذكره ورجحه: "هو محمول على من سمع الأذان وهو يشك في طلوع الفجر وبقاء الليل ويتردد فيهما، فيجوز له الأكل والشرب؛ لأن الأصل بقاء الليل حتى يتبين له طلوع الفجر الصادق باليقين أو بالظن الغالب"(3).
تحرير محل الخلاف: اتفق الفقهاء أن من أكل أو شرب أو جامع قبل طلوع الفجر فصيامه صحيح (4).
واختلفوا في من أكل أو شرب وهو شاك في طلوع الفجر على قولين.
القول الأول: من شك في طلوع الفجر ثم أكل أو شرب لم يجب عليه القضاء.
وبه قال: الحنفية (5)، والشافعية (6)، والحنابلة (7)، والظاهرية (8)، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: من شك في طلوع الفجر لزمه الإمساك عن الأكل والشرب وجميع المفطرات، فإن لم يمسك وجب عليه القضاء.
وبه قال: المالكية (9).
سبب الخلاف: والسبب في اختلافهم سببان والله أعلم:
(1) سيأتي تخريجه إن شاء الله ص (335).
(2)
مرعاة المفاتيح 6/ 470.
(3)
المصدر السابق 6/ 469.
(4)
الإقناع لابن القطان 1/ 231، ومراتب الإجماع ص 39، والكافي لابن عبد البر 1/ 351، والإنصاف للمرداوي 3/ 330.
(5)
بدائع الصنائع 2/ 105، المحيط البرهاني 2/ 373، البناية 4/ 105، تبيين الحقائق 1/ 342.
(6)
الحاوي 3/ 416، حلية العلماء 3/ 161، البيان 3/ 500، المجموع 6/ 306.
(7)
مسائل أحمد رواية أبي داود ص 134، المغني 3/ 147، الفروع 5/ 30، الإنصاف 3/ 330.
(8)
المحلى 4/ 366.
(9)
المدونة 1/ 266، الكافي 1/ 351، القوانين الفقهية ص 81، منح الجليل 2/ 134.
السبب الأول: اختلافهم في معنى قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (1)، هل هو باقي على عمومه أو هو مخصوص؟ (2).
والسبب الثاني: هل يستصحب حال إباحة الأكل والشرب أو يستصحب حال وجوب الصيام؟ (3).
أدلة القول الأول: القائلين بأن من شك في طلوع الفجر ثم أكل أو شرب لم يجب عليه القضاء.
الدليل الأول: قول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (4).
وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى قد مد الأكل والشرب إلى غاية التبين، ومن أكل أو شرب وهو شاك؛ فقد أكل قبل أن يتبين له الخيط الأبيض، فكان المعنى: جواز اتصال الأكل والشرب بطلوع الفجر (5).
الدليل الثاني: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن بلالا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم» ، ثم قال: وكان رجلا أعمى، لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت. (6).
وجه الاستدلال: أن في الحديث جواز الفطر إلى طلوع الفجر، وبالتالي جواز الأكل مع الشك في طلوعه؛ لأن الأصل بقاء الليل (7).
الدليل الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده، فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه» (8).
(1) سورة البقرة: آية: 187.
(2)
ينظر: مناهج التحصيل 2/ 106.
(3)
ينظر: التنبيه على مبادئ التوجيه 2/ 703.
(4)
سورة البقرة: آية: 187.
(5)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 496 - 532، الاستذكار 3/ 345، المغني 3/ 148.
(6)
أخرجه البخاري 1/ 127 رقم 617، في الصوم، باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره، واللفظ له، ومسلم 2/ 768 رقم 1092، في الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل
…
(7)
ينظر: المسالك شرح الموطأ 2/ 339، وشرح الزرقاني للموطأ 1/ 289.
(8)
رواه أبو داود 2/ 304 رقم 2350، في الصوم، باب في الرجل يسمع النداء والإناء على يده، وأحمد 16/ 368 رقم 10629، وقال الألباني في صحيح أبي داود 7/ 115:"إسناده حسن صحيح".
وجه الاستدلال: أن الحديث محمول على من سمع الأذان وهو يشك في طلوع الفجر وبقاء الليل ويتردد فيهما فيجوز له الأكل والشرب؛ لأن الأصل بقاء الليل حتى يتبين له طلوع الفجر الصادق باليقين أو بالظن الغالب (1).
الدليل الرابع: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الفجر فجران: فأما الأول فإنه لا يُحَرِّم الطعام، ولا يُحِلّ الصلاة، وأما الثاني، فإنه يُحرِّم الطعام، ويُحِلّ الصلاة» (2).
الدليل الخامس: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: «إذا شك الرجلان في الفجر فليأكلا حتى يستيقنا» (3).
الدليل السادس: أن رجلا قال لابن عباس رضي الله عنه: متى أدع السحور؟ فقال رجل: إذا شككت، فقال ابن عباس:«كل ما شككت حتى يتبين لك» (4).
الدليل السابع: عن ابن عباس رضي الله عنه أنه أرسل رجُلين ينظران إلى الفجر فقال أحدهما: أصبحت، وقال الآخر: لا، قال:«اختَلَفتُما، أرني شرابي» (5).
وجه الاستدلال: أن قول ابن عباس أرني شرابي جار على الأصل أنه يحل الشرب والأكل حتى يتبين الفجر، ولو كان قد تبين لما اختلف الرجلان فيه؛ لأن خبريهما تعارضا فتساقطا؛ والأصل بقاء الليل (6).
الدليل الثامن: ولأن الليل متيقن منه، والنهار مشكوك فيه، فلا يترك هذا اليقين إلا بيقين مثله (7).
(1) ينظر: مرعاة المفاتيح 6/ 469، وينظر: معالم السنن 2/ 106.
(2)
رواه ابن خزيمة في صحيحه 2/ 928 رقم 1927، باب الدليل على أن الفجر هما فجران
…
، والحاكم في المستدرك 1/ 587 رقم 1549، وقال:"حديث صحيح الإسناد"، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 364 رقم 8003، كتاب الصيام، باب الوقت الذي يحرم فيه الطعام على الصائم، وصححه الألباني في الصحيحة 2/ 307 رقم 693.
(3)
رواه ابن أبي شيبة 2/ 288 رقم 9066، كتاب الصيام، في الرجل يشك في الفجر طلع أم لا.
(4)
رواه البيهقي في الكبرى 4/ 374 رقم 8038، كتاب الصيام، باب من أكل وهو شاك في طلوع الفجر.
(5)
رواه البيهقي في الكبرى 4/ 374 رقم 8039، كتاب الصيام، باب من أكل وهو شاك في طلوع الفجر.
(6)
ينظر المجموع 6/ 306، كشاف القناع 2/ 331.
(7)
ينظر: بدائع الصنائع 2/ 105، والمحيط البرهاني 2/ 373، درر الحكام 1/ 204، والبيان 3/ 500، الحاوي الكبير 3/ 416، المغني 3/ 148، شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 496.
أدلة القول الثاني: القائلين بأن من شك في طلوع الفجر لزمه الإمساك عن الأكل والشرب وجميع المفطرات، فإن لم يمسك وجب عليه القضاء.
الدليل الأول: قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (1).
وجه الاستدلال: أن الآية مخصصة بالعادة التي ركب الله تعالى عليها بني آدم؛ وذلك أن أكثرهم لا يقدرون على إدراك أوائل الفجر؛ لأن ذلك مما يدِقّ ويَرِقّ، ولا يكاد يدركه إلا آحادٌ من الناس، وفي ذلك تَغرير بالصوم. والعبادات تتنزه عن الإغرار والأخطار؛ لأنها في الذِمَّة بتَيَقّن، فلا تبرأ إلا بيقين. ومقارنةُ النية بالفجر محل الخطر، فيُحمَل قوله تعالى:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ} ، على القرب (2).
الدليل الثاني: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» ، وكان رجل أعمى لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت (3).
وجه الاستدلال: أن الحديث مؤول، ومعناه: قاربتَ الصباح (4).
وتأويل مقاربة الصباح موجودة في الأصول، بدليل قوله تعالى:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (5) ، وهذا معناه قارَبن بلوغ أجلهن؛ ولو بلغن أجلهن لم يكن لأزواجهن إمساكهن بالمراجعة لهن وقد انقضت عدتهن (6).
الدليل الثالث: أنهم متفقون على أن الصائم إذا أكل أو شرب شاكا في غروب الشمس أن عليه القضاء، فوجب أن يتفقوا على أن من أكل أو شرب شاكا في طلوع الفجر أن يجب عليه القضاء؛ بعِلَّة: حصول الأكل والشرب في وقت شك، هو ليل أو نهار (7).
الدليل الرابع: ولأن الصائم يلزمه اعتراف طرفي النهار، وذلك لا يكون إلا بتقدم شيء وإن قَلَّ من السحر وآخر شيء من الليل (8).
(1) سورة البقرة: آية: 187.
(2)
ينظر: مناهج التحصيل 2/ 106.
(3)
سبق تخريجه صفحة (335).
(4)
ينظر: الاستذكار 1/ 405، ومناهج التحصيل 2/ 106، وإكمال المعلم 4/ 28.
(5)
سورة البقرة: آية: 231.
(6)
ينظر: الاستذكار 1/ 406، التمهيد 10/ 63.
(7)
ينظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 441، والمغني 3/ 148.
(8)
ينظر: الاستذكار 3/ 345، وشرح العمدة كتاب الصيام 1/ 533، والإقناع للماوردي ص 74.
الدليل الخامس: ولأن الأصل بقاء الصوم في ذمته، فلا يسقط بالشك، فيلزمه القضاء (1).
الترجيح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الأول أنه يجوز للصائم الأكل والشرب وإن شك في طلوع الفجر؛ لقوة أدلتهم، ولصحة دلالتها على المطلوب؛ ولأن الآية واضحة في جواز الأكل والشرب حتى طلوع الفجر، لأن الغاية في قوله:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} داخلة في المغيَّا؛ لأنها محدودة بحرف (حتى). فيكون المعنى جواز اتصال الأكل والشرب بطلوع الفجر (2).
وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما استدلالهم بالآية: فقد مضى وجه الاستدلال الصحيح منها في أدلة القول الأول، فلا حاجة لإعادته هنا.
ثانيا: وأما قولهم: في حديث ابن أم مكتوم أن الحديث مؤول ومعناه قاربت الصباح، فيجاب عنه:
أنه قد جاء ما يقطع العذر، ويرفع الاحتمال، ويسد باب التأويل؛ وهو ما أخرجه البخاري في هذا الحديث من الزيادة:«فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر» (3) ، وهذا نص في الباب (4).
ثالثا: وأما قياسهم من أكل شاكا في طلوع الفجر على من أكل شاكا في غروب الشمس، فيجاب عنه: أنه قياس غير صحيح؛ لأن الأصل بقاء النهار، فإذا أكل قبل أن يعلم الغروب، فقد أكل في الوقت الذي يُحكَم بأنه نهار، وإذا أكل قبل أن يتبين الفجر، فقد أكل في الوقت الذي يُحكَم بأنه ليل. ولأن الله سبحانه قال:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ، فمن أكل وهو شاك، فقد أكل قبل أن يتبين له الخيط الأبيض. ولأن الأكل مع الشك في طلوع الفجر جائز، والأكل مع الشك في الغروب غير جائز. وإذا فعل الجائز، لم يفطر (5).
(1) ينظر: شرح الرسالة للقاضي عبد الوهاب 1/ 173، عيون المسائل له ص 215.
(2)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 532.
(3)
رواه البخاري 3/ 29 رقم 1918، كتاب الصوم، باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:«لا يمنعنّكم من سحوركم أذان بلال» .
(4)
ينظر: مناهج التحصيل 2/ 106، وشرح الموطأ للزرقاني 1/ 291.
(5)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 496، والمغني 3/ 148، وبدائع الصنائع 2/ 106.
رابعا: وأما قولهم: إن الصائم يلزمه اعتراف طرفي النهار، وذلك لا يكون إلا بتقدم شيء وإن قَلَّ من السحر وآخر شيء من الليل، فيجاب عنه:
أن هذا التزام لصوم ما لم يأمر الله بصيامه، مع مخالفة الآثار في تعجيل الفطر وتأخير السحور وهي متواترة صحاح (1).
خامسا: وأما قولهم: بإيجاب القضاء على من أكل شاكا، فيجاب عنه:
أن إيجاب القضاء إيجاب فرض فلا ينبغي أن يكون إلا بيقين، ومن أكل شاكا لم يتبين له أنه قد أكل بعد طلوع الفجر (2). والله أعلم.
(1) ينظر: الاستذكار 3/ 345.
(2)
ينظر: الاستذكار 3/ 345، وتبيين الحقائق 1/ 342، وبدائع الصنائع 2/ 105.