الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السادس: هل يكفي الإخبار ممن رأى الهلال أو تشترط الشهادة
؟ .
اختيار الشيخ: اختار أن رؤية هلال رمضان بابها باب الإخبار فيكفي فيها الإخبار ولا تشترط الشهادة، فقال:"وفيه (1) دليل على أن الإخبار كاف ولا يحتاج إلى لفظ الشهادة"(2).
تحرير محل الخلاف: قَسَّم العلماء الخبر إلى ثلاثة أقسام: رواية محضة؛ كالأحاديث النبوية، وشهادة محضة؛ كإخبار الشهود عن الحقوق على المعينين عند الحاكم، ومركب من الشهادة والرواية، وله صور منها: الإخبار عن رؤية هلال رمضان (3)، وهي مسألتنا هذه.
فاختلف أهل العلم في رؤية هلال رمضان، هل بابها باب الإخبار أو بابها باب الشهادات؟ ، على قولين:
القول الأول: رؤية هلال رمضان بابها باب الإخبار، فيكفي فيها الإخبار من واحد، ولا تشترط فيها الشهادة.
وبه قال: الحنفية (4)، والشافعية في وجه (5)؛ وقال به: أبو إسحاق المروزي (6) ، والحنابلة (7)، والظاهرية (8)، وهو اختيار الشيخ عبيد الله.
القول الثاني: رؤية هلال رمضان بابها باب الشهادات، فتشترط الشهادة بلفظها.
وهو قول: المالكية (9)، والأصح عند الشافعية (10).
(1) يعني: حديث ابن عباس رضي الله عنه الذي سيأتي في أدلة القول الأول.
(2)
مرعاة المفاتيح 6/ 448.
(3)
ينظر: الفروق للقرافي 1/ 8.
(4)
الأصل 2/ 309، بدائع الصنائع 2/ 81، تحفة الفقهاء 1/ 346، الهداية 1/ 119.
(5)
المجموع 6/ 277، العزيز شرح الوجيز 3/ 174، كفاية النبيه 6/ 253، النجم الوهاج 3/ 276.
(6)
هو: إبراهيم بن أحمد بن إسحاق المروزي، أبو إسحاق، فقيه انتهت إليه رياسة الشافعية بالعراق بعد ابن سريج، أقام ببغداد أكثر أيامه، وتوفي بمصر سنة 340 هـ. له تصانيف منها: شرح مختصر المزني. ينظر: تاريخ بغداد 6/ 498، طبقات الشافعيين ص 240، طبقات الشافعية الكبرى 7/ 31.
(7)
الكافي 1/ 436، الفروع 4/ 417، دقائق أولي النهى 1/ 471، كشاف القناع 2/ 304.
(8)
المحلى 4/ 373.
(9)
المدونة 1/ 267، المنتقى 2/ 36، المعونة 1/ 454، مواهب الجليل 2/ 386.
(10)
المجموع 6/ 277، فتح العزيز 6/ 253، روضة الطالبين 2/ 345، مغني المحتاج 2/ 143.
سبب الخلاف: قال ابن رشد: "وسبب اختلافهم: اختلاف الآثار في هذا الباب، وتردد الخبر في ذلك بين أن يكون من باب الشهادة أو من باب العمل بالأحاديث التي لا يشترط فيها العدد"(1).
أدلة القول الأول: القائلين بأن رؤية هلال رمضان بابها باب الإخبار، فيكفي فيها الإخبار من واحد، ولا تشترط فيها الشهادة.
الدليل الأول: عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم إني رأيت الهلال، «فأمر الناس بالصيام» (2).
وجه الاستدلال: أن ابن عمر رضي الله عنه ذكر أنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فاكتفى بالإخبار ولم يلزمه بالشهادة، فكان فيه حجة لمن أجرى الأمر في رؤية هلال شهر رمضان مجرى الإخبار ولم يحملها على أحكام الشهادات (3).
الدليل الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال؛ يعني رمضان، فقال:«أتشهد أن لا إله إلا الله؟ » قال: نعم. قال: «أتشهد أن محمدا رسول الله؟ » قال: نعم. قال: «يا بلال، أذن في الناس فليصوموا غدا» (4).
وجه الاستدلال: أن الأعرابي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رأى الهلال فقبل منه صلى الله عليه وسلم، فدل على أن الإخبار كاف ولا يحتاج إلى لفظ الشهادة ولا إلى الدعوى (5).
الدليل الثالث: ولأن الواحد العدل فيه كاف عند جماعة من العلماء، فلو كان شهادة لما اكتُفيَ بالواحد، ولكان العدد الواجب في ثبوت الشهادة شرطا (6).
الدليل الرابع: ولأنه خبر ديني، فأشبه الرواية، والخبر عن القبلة، ودخول وقت الصلاة (7).
(1) بداية المجتهد 2/ 48.
(2)
سبق تخريجه صفحة (88).
(3)
ينظر معالم السنن 2/ 103، وسبل السلام 1/ 561.
(4)
سبق تخريجه صفحة (88).
(5)
ينظر: معالم السنن 2/ 103، وعون المعبود 6/ 334، وتحفة الأحوذي 3/ 303.
(6)
ينظر بدائع الصنائع 2/ 81، ومعالم السنن 2/ 101.
(7)
ينظر: المغني 3/ 165، شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 146.
الدليل الخامس: ولأن حكمه يلزم الشاهد، وهو الصوم، وحكم الشهادة لا يلزم الشاهد، والإنسان لا يُتَّهم في إيجاب شيء على نفسه، فدل على أنه ليس بشهادة، بل هو إخبار (1).
أدلة القول الثاني: القائلين بأن رؤية هلال رمضان من باب الشهادات، فتشترط الشهادة بلفظها.
الدليل الأول: عن أمير مكة الحارث بن حاطب رضي الله عنه قال: «عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرؤية فإن لم نره، وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما» (2).
الدليل الثاني: عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال: إنا صحبنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتعلمنا منهم، وإنهم حدثونا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن أغمي عليكم فعدوا ثلاثين، فإن شهد ذوا عدل فصوموا وأفطروا وانسكوا» (3).
وجه الاستدلال: أن الحديثين نصا على قبول شهادة الشاهدين إذا شهدا بالرؤية (4)، فمفهومه عدم قبول إخبار من رأى الهلال إن لم يشهد.
الدليل الثالث: ولأنه حكم شرعي متعلق برؤية الهلال، فوجب أن يكون حكم الإخبار به حكم الشهادات؛ أصله هلال شوال (5).
الدليل الرابع: ولأنه لا يُقبَل فيه شاهد الفرع مع وجود شاهد الأصل، وهذا خاص بالشهادة لا بالإخبار (6).
الراجح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الأول: أن رؤية هلال رمضان بابها باب الإخبار، فيكفي فيها الإخبار من واحد، ولا تشترط فيها الشهادة؛ وحديث ابن عمر والأعرابي يدلان على ذلك.
وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني، فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما استدلالهم بحديث أمير مكة، وحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، والذي فيهما:«وشهد شاهدا» و «شهد ذوا عدل» على اشتراط الشهادة فيجاب عنه:
(1) ينظر: بدائع الصنائع 2/ 81، وفتح العزيز في شرح الوجيز 6/ 254.
(2)
سبق تخريجه صفحة (90).
(3)
سبق تخريجه صفحة (90).
(4)
ينظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 427.
(5)
ينظر المصدر السابق.
(6)
ينظر: المجموع 6/ 278، معالم السنن 2/ 101.
أن التصريح بالشهادة غاية ما فيه المنع من قبول الإخبار بالمفهوم، وحديثا ابن عمر والأعرابي يدلان على قبوله بالمنطوق؛ ودلالة المنطوق أرجح من دلالة المفهوم.
ثانيا: ولأن قياس رؤية الهلال على الشهادة على سائر الحقوق بعيد؛ لأن الشهادة على الحقوق إنما اشترط لها لفظ الشهادة والعدد لاعتبارات أخرى ليست موجودة في من يخبر بأنه رأى هلال رمضان؛ كالتهمة وغير ذلك (1).
قال القَرافِي (2): "ووجه المناسبة بين الشهادة واشتراط العدد حينئذ وبقية الشروط: أن إلزام المعين تتوقع فيه عداوة باطنية لم يطلع عليها الحاكم، فتبعث العدو على إلزام عدوه ما لم يكن لازما له، فاحتاط الشارع لذلك واشترط معه آخر إبعادا لهذا الاحتمال، فإذا اتفقا في المقال قَرُب الصدق جدا بخلاف الواحد"(3).
فيكون تشبيه الرائي بالراوي هو أمثل من تشبيهه بالشاهد؛ لأنه ليس في رؤية القمر شبهة من مخالف (4).
ثالثا: ولأن الخبر إما أن يُقصَد به أن يترتب عليه (فَصْل قضاء)(5)(وإِبْرام حكم)(6) أو لا، فإن قصد به ذلك فهو الشهادة، وإن لم يقصد به ذلك: فإما أن يقصد به ترتب دليل حكم شرعي أو لا، فإن قصد به ذلك فهو الرواية، وإلا فهو سائر أنواع الخبر (7). والله أعلم.
(1) ينظر: شرح عمدة الفقه كتاب الصيام 1/ 138.
(2)
هو: شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن، أبو العباس القرافي، أصله من صنهاجة قبيلة من بربر المغرب، ونسبته إلى القرافة وهي المحلة المجاورة لقبر الإمام الشافعي بالقاهرة، انتهت إليه رياسة الفقه على مذهب مالك، توفي بمصر سنة 684 هـ، من تصانيفه: الفروق في القواعد الفقهية؛ والذخيرة في الفقه؛ وشرح تنقيح الفصول في الأصول. ينظر: شجرة النور 1/ 270؛ الديباج ص 62، الأعلام 1/ 94.
(3)
الفروق 1/ 6.
(4)
ينظر: بداية المجتهد 2/ 49.
(5)
الفصل هو: القضاء بين الحق والباطل. والمقصود بفصل القضاء: هو الحكم الذي يقطع به القاضي عند التخاصم. ينظر: لسان العرب 11/ 521، طلبة الطلبة 2144.
(6)
إبرام الحكم: الإبرام في اللغة هو: عقد الشي. والحكم فِي اللُّغَة: الْمَنْع، ويطلق الحكم بمعنى القضاء، وفيه معنى المنع، وهو المقصود هنا. والحكم عند أَصْحَاب الْأصول: خطاب الله الْمُتَعَلّق بِأَفْعَال الْمُكَلّفين بالاقتضاء أَو التَّخْيِير. ينظر: لسان العرب 3/ 298، الكليات ص 380، أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله ص 24.
(7)
ينظر: حاشية ابن الشاط على الفروق 1/ 6.