الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السابع: حكم صيام الست من شوال
.
اختيار الشيخ: اختار استحباب صيام الست من شوال، فقال "وفي الحديث دليل بَيِّن على استحباب صوم ستة أيام من شوال"(1).
اختلف الفقهاء في حكم صيام الست من شوال على قولين:
القول الأول: يستحب صيام الست من شوال.
وهو قول: المتأخرين من الحنفية (2) ، وقول الشافعية (3) ، والحنابلة (4) ، وهو اختيار الشيخ.
القول الثاني: يكره صيام الست من شوال.
وهو قول: الإمام أبي حنيفة (5) ، والإمام مالك (6)? .
سبب الخلاف: قد يرجع الخلاف -والله أعلم- إلى سببين:
الأول: معارضة (عمل أهل المدينة)(7) لحديث صيام الست من شوال.
الثاني: ترك العمل بحديث صيام الست من شوال سدا للذريعة؛ حتى لا يعتقد الجُهّال فرضيتها.
(1) مرعاة المفاتيح 7/ 64. أي في حديث أبي أيوب الأنصاري صفحة (453).
(2)
فتح القدير 2/ 349، مراقي الفلاح ص 236، تبيين الحقائق 1/ 332، رد المحتار 2/ 435.
(3)
المهذب 1/ 344، البيان 3/ 548، المجموع 6/ 379، النجم الوهاج 3/ 358.
(4)
مسائل أحمد رواية عبد الله ص 193، المغني 3/ 176، المحرر 1/ 231، الإنصاف 3/ 343.
(5)
فتح القدير 2/ 349، تبيين الحقائق 1/ 332، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 639. ذكر بعض الحنفية: أن ما روي عن أبي حنيفة من كراهة صوم ستة من شوال هو غير رواية الأصول، أو إن مراده بذلك أن يصوم يوم الفطر وخمسة أيام بعده، فأما إذا أفطر يوم العيد ثم صام بعده ستة أيام فليس بمكروه، بل هو مستحب. ينظر: بدائع الصنائع 2/ 78، ورد المحتار 2/ 435.
(6)
المقدمات 1/ 243، الشامل 1/ 203، مختصر خليل ص 61، مواهب الجليل 2/ 414. واشترط أصحاب مالك لكراهتها: أربعة شروط: -أن يكون فاعلها مقتدى به، -مُظهِرا لها، -متصلة برمضان متتابعة، -معتقدًا سنة اتصالها. فإن انتفى قيد من هذه الأربع لم تكره. ينظر: شرح الزرقاني على خليل 2/ 353.
(7)
عمل أهل المدينة: المقصود عملهم في عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين فحسب. وهو على ضربين: نقلي واستدلالي: النقلي كنقلهم الصاع والمُدّ وغير ذلك، وهذا حجة عند جمهور العلماء، وأما الاستدلالي فهو ما ذهبوا إليه بطريق الاجتهاد، وهذا هو محل الخلاف بين المالكية وغيرهم. ينظر: أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله ص 137.
أدلة القول الأول: القائلين بأنه يستحب صيام الست من شوال.
الدليل الأول: عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال، كان كصيام الدهر» (1).
وجه الاستدلال: أن الحديث صريح في استحباب صيام الست من شوال؛ لأن النبي إنما شبَّه صيامها بصيام الدهر، للمبالغة، وللحث على صيامها (2).
الدليل الثاني: عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «صيام شهر رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام من شوال بشهرين، فذلك صيام سنة» (3).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر صيام الست من شوال بعد صيام رمضان، وأن الحسنة بعشر أمثالها إلا ترغيبا منه صلى الله عليه وسلم في صيامها؛ لتحصيل أجر صيام السنة كاملة.
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه يكره صيام الست من شوال.
الدليل الأول: أن حديث صيام الست من شوال غير معمول به عند أهل العلم من أهل المدينة.
قال الإمام مالك -في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان-: "إنه لم ير أحدا من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم يكرهون ذلك، ويخافون بدعته، وأن يُلحِقَ برمضان ما ليس منه أهلُ الجهالة والجفاء (4)؛ لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم، ورأوهم يعملون ذلك"(5).
وجه الاستدلال من كلام الإمام مالك من وجهين:
الأول: أن أهل العلم من أهل المدينة لم ينقل عنهم صيام الأيام الست من شوال، فيكون صيامها ليس مما يستحب فعله.
(1) سبق تخريجه صفحة (444).
(2)
ينظر: شرح مسلم للنووي 8/ 56، شرح المشكاة 5/ 1609، سبل السلام 1/ 582.
(3)
رواه النسائي في السنن الكبرى 3/ 239 رقم 2873، في الصيام، باب صيام ستة أيام من شوال، واللفظ له، وابن ماجه 1/ 547 رقم 1715، في الصيام، باب صيام ستة أيام من شوال، وأحمد 37/ 94 رقم 22412، وصححه الألباني في الإرواء رقم 950.
(4)
أي: أهل الغلظة والفظاظة، ينظر: شرح الزرقاني على الموطأ 2/ 301.
(5)
الموطأ: ص 310، كتاب الصيام، باب جامع الصيام.
قال الباجي: "وهذا كما قال: إن صوم هذه الستة الأيام بعد الفطر لم تكن من الأيام التي كان السلف يتعمدون صومها"(1).
الثاني: أنه قد يفضي إلى اعتقاد لزومها من العوام لكثرة المداومة، ولذا سُمِع من يقول يوم الفطر: نحن إلى الآن لم يأت عيدنا أو نحوه (2).
قال ابن القيم: "قال الحافظ أبو محمد المُنْذِري (3): والذي خشي منه مالك قد وقع بالعجم، فصاروا يتركون المُسَحّرين على عادتهم، والنواقيس، وشعائر رمضان إلى آخر الستة الأيام. فحينئذ يُظهِرون شعائر العيد"(4).
الدليل الثاني: أن حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه في صيام الست من شوال- لا يَثبُت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لعلتين:
الأولى: ضعف أحد الرواة.
الثانية: الاختلاف في رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو وقفه على أبي أيوب الأنصاري ¢ (5).
الترجيح: الذي يترجح والله أعلم هو القول الأول: أنه يستحب صيام الست من شوال مطلقا.؛ وحديث أبي أيوب وثوبان رضي الله عنهما واضحا الدلالة على استحباب صيامها.
والظاهر -والله أعلم- أن الإمام مالكا والإمام أبا حنيفة رضي الله عنهما لم يتركا صيام الست من شوال، وإنما خشيا من أن يعتقد الجهال وعوام الناس فرضيتها.
(1) المنتقى 2/ 76.
(2)
ينظر: تبيين الحقائق 1/ 332، المنتقى للباجي 2/ 76، مواهب الجليل 2/ 414.
(3)
هو: عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله، أبو محمد زكي الدين المنذري، محدث حافظ فقيه، له القدم الراسخ في معرفة صحيح الحديث من سقيمه، من تصانيفه: شرح التنبيه للشيرازي في فروع الفقه الشافعي، والترغيب والترهيب، ومختصر صحيح مسلم، توفي سنة 656 هـ، ينظر: طبقات الشافعية 8/ 259، السير 23/ 218، والأعلام 4/ 30.
(4)
تهذيب السنن 7/ 67.
(5)
قال الزرقاني: "ووجه كونه لم يثبت عنده وإن كان في مسلم أن فيه سعد بن سعيد ضعفه أحمد بن حنبل، وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن سعد: ثقة قليل الحديث، وقال ابن عيينة وغيره: إنه موقوف على أبي أيوب أي وهو مما يمكن قوله رأيا إذ الحسنة بعشرة فله علتان: الاختلاف في راويه، والوقف".شرح الموطأ 2/ 301. وينظر: المنتقى 2/ 76.
والدليل على ذلك: ما رواه مُطَرِّف (1) عن الإمام مالك أنه كان يصومها في خاصة نفسه (2).
قال ابن عبد البر: "والذي كرهه له مالك أمر قد بَيَّنه وأوضحه؛ وذلك: خشية أن يضاف إلى فرض رمضان، وأن يَسْتَبين ذلك إلى العامة. وكان مُتَحَفّظا كثير الاحتياط للدين. وأما صيام الستة الأيام من شوال -على طلب الفضل، وعلى التأويل الذي جاء به ثوبان رضي الله عنه ، فإن مالكا لا يكره ذلك إن شاء الله"(3).
وقال الكمال ابن الهُمام (4): "وجه الكراهة: أنه قد يفضي إلى اعتقاد لزومها من العوام؛ لكثرة المداومة،
…
فأما عند الأمن من ذلك فلا بأس؛ لورود الحديث به" (5).
ولكن هذا القول قد يفضي إلى ترك سنن كثيرة، بحجة أن العوام قد يعتقدون فرضيتها؛ كصيام عاشورا، وعرفاة، وغيرها.
قال النووي: "وأما قول مالك: "لم أر أحدا يصومها" فليس بحجة في الكراهة؛ لأن السُنَّة ثبتت في ذلك بلا معارض، فكونه لم ير لا يضر، وقولهم: "لأنه قد يخفى ذلك فيُعتقَد وجوبه"، ضعيف؛ لأنه لا يخفى ذلك على أحد، ويلزم على قوله إنه يكره صوم عرفة وعاشوراء وسائر الصوم المندوب إليه، وهذا لا يقوله أحد"(6).
(1) هو: مُطَرِّف بن عبد الله بن مطرف الهلالي، أبو مصعب المدني، ابن أخت مالك بن أنس الإمام، كان أصم، روى عن: مالك، وصحبه سبع عشرة سنة، وروى عنه: أبو زرعة، وأبو حاتم، توفي سنة 220 هـ. ينظر: الديباج المذهب ص 340، والتاريخ الكبير 7/ 397، جمهرة تراجم المالكية 3/ 1254.
(2)
ينظر: تفسير القرطبي 2/ 332.
(3)
الاستذكار 3/ 380، وينظر: إكمال المعلم 4/ 139 - 140.
(4)
هو: محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد السيواسي ثم الإسكندري، كمال الدين، الشهير بابن الهُمَام، إمام من فقهاء الحنفية، مفسر حافظ متكلم، أقام بالقاهرة، وكان معظمًا عند أرباب الدولة. اشتهر بكتابه القيم: فتح القدير، وهو حاشية على الهداية، وكتاب التحرير في أصول الفقه، توفي سنة 861 هـ،. ينظر: البدر الطالع 2/ 201، الأعلام 6/ 255، الضوء اللامع 8/ 127.
(5)
فتح القدير 2/ 349.
(6)
المجموع 6/ 379، وينظر: شرح مسلم 8/ 56، ونيل الأوطار 4/ 282.
والواجب على أهل العلم تفقيه العوام وتعليمهم أمور دينهم، وتبيين ما يشكل عليهم من الأحكام كلما سنحت الفرصة، حتى تُحفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُعمل بها.
وأما من قال: إن ترك العمل بهذا الحديث بسبب ضعف أحد رواته، واختلاف الرواة في رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووقفه على أبي أيوب الأنصاري ¢، فيجاب عنه:
أن الحديث قد صححه الإمام مُسْلم (1) وغيره، وقد رواه الثقات مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد تكلم ابن القيم عن هذا الحديث في حاشيته على سنن أبي داوود في أكثر من ثمان صفحات (2)، ورد كل ما أثير حول هذا الحديث من كلام، فليراجعه من شاء، فإن فيه الكفاية إن شاء الله. والله أعلم.
(1) هو: مُسلم بن الحجاج بن مسلم القُشَيْري، أبو الحسين النيسابورى الحافظ، رحل في طلب الحديث، وأخذ عن الإمام أحمد بن حنبل وطبقته، ولازم البخاري وحذا خذوه، من مصنفاته: الصحيح، وكتاب العلل؛ وسؤالات أحمد. توفي سنة 261 هـ. ينظر: السير 12/ 557، تهذيب التهذيب 10/ 127، الأعلام 7/ 221.
(2)
تهذيب السنن 7/ 61، وما بعدها.