الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: في تعيين ليلة القَدْر
(1).
اختيار الشيخ: اختار أن ليلة القدر تكون في أوتار العشر الأخير من رمضان، وأنها تنتقل، فقال:"إنها في أوتار العشر الأخير وإنها تنتقل، وعليه يدل حديث عائشة الآتي وغيرها، وهو أرجح الأقوال"(2).
وقال أيضا: "وقد تقرر أنها تنتقل وتتقدم، وتتأخر في أوتار ليالي العشر في السنين المختلفة"(3).
تحرير محل الخلاف: جاء في التنزيل أن القرآن الكريم أُزل في ليلة القدر، قال الله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (4). وأجمع أهل العلم أن ليلة القدر باقية إلى يوم القيامة (5).
واختلفوا في تعيينها اختلافا كثيرا فقد ذكر الحافظ ابن حجر في ذلك أكثر من أربعين قولا (6). وقد حاولت أن أجمع شتات شملها، وأذكر ما اشتهر من الأقوال في تعيينها، فكانت ستة أقوال على النحو التالي:
القول الأول: أن ليلة القدر مختصة برمضان ممكنة في جميع لياليه.
وهو قول: أبي حنيفة (7) ، ورواية عند المالكية (8). وحُكِي عن ابن عمر (9) رضي الله عنه، والحسن البصري (10).
(1) القَدْر: يقال: قَدَر الرزق يَقدُره ويقدِره: أي: قسمه، وبه سميت ليلة القدر. ينظر: تاج العروس 13/ 372، القاموس المحيط ص 460.
(2)
مرعاة المفاتيح 7/ 121. حديث عائشة سيأتي صفحة (608).
(3)
المصدر السابق 7/ 129.
(4)
سورة القدر: آية: 1.
(5)
ينظر إجماعهم في: الاستذكار 2/ 200، التوضيح لابن الملقن 13/ 590، شرح المشكاة للطيبي 5/ 1620، فتح الباري 4/ 263.
(6)
ينظر: فتح الباري 4/ 260.
(7)
فتح القدير 2/ 389، الدر المختار ص 154، النهر الفائق 2/ 50، رد المحتار 2/ 452، عمدة القاري 11/ 131. وهذا القول: عليه فتوى الحنفية. ينظر: الفتاوى الهندية 1/ 216.
(8)
الاستذكار 3/ 414، المقدمات 1/ 267، التوضيح لخليل 2/ 481، مواهب الجليل 2/ 464. وهذا القول: ضعفه ابن الحاجب، جامع الأمهات ص 182.
(9)
مصنف ابن أبي شيبة 2/ 325 رقم 9528، ما قالوا في ليلة القدر واختلافهم فيها.
(10)
مصنف ابن أبي شيبة 2/ 251 رقم 8681، في ليلة القدر وأي ليلة هي.
القول الثاني: أنها ليلة الحادي والعشرين من رمضان.
وهو: قول للشافعي مال إليه (1). جاء عن: علي بن أبي طالب (2) رضي الله عنه.
القول الثالث: أنها ليلة الثالث والعشرين من رمضان.
وهو قول آخر: للشافعي (3). وقال به جمع من الصحابة: كعائشة، وابن عباس، وعبد الله بن أُنَيس (4)، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم (5).
القول الرابع: أنها ليلة أربع وعشرين من رمضان.
وهو مَحكيّ عن: ابن عباس (6) رضي الله عنه، والحسن البصري (7).
القول الخامس: أنها ليلة سبع وعشرين من رمضان.
وهي رواية عند: الحنفية عليها قول العامة (8).
وقال به من الصحابة: عمر بن الخطاب، وحذيفة (9) ، وأُبَيّ بن كَعْب (10) رضي الله عنهم (11).
(1) نهاية المطلب 4/ 77، العزيز 3/ 250، روضة الطالبين 2/ 389، الغرر البهية 2/ 224.
(2)
مصنف عبد الرزاق 4/ 251، برقم 7696، باب ليلة القدر.
(3)
العزيز 3/ 250، روضة الطالبين 2/ 389، الغرر البهية 2/ 224.
(4)
هو: عبد الله بن أُنَيس الجهني، أبو يحيى المدني حليف الأنصار، صحابي من القادة الشجعان، روى عنه: ابناه، وجابر بن عبد الله وغيرهم. شهد العقبة وأحداً وما بعدها، توفي: 54 هـ في خلافة معاوية بالشام. ينظر: الاستيعاب 3/ 869، الإصابة 4/ 13، معرفة الصحابة 3/ 1585.
(5)
تنظر آثارهم في: مصنف عبد الرزاق أرقام: 7689، 7686، 7695، ومصنف ابن أبي شيبة أرقام: 8683، 8687، 8688، 9537.
(6)
صحيح البخاري 3/ 47 رقم 2022، فضل ليلة القدر باب تحري ليلة القدر في العشر الأواخر
(7)
مصنف عبد الرزاق 4/ 252، رقم 7698، في الصيام باب ليلة القدر.
(8)
الدر المختار ص 154، النهر الفائق 2/ 50، رد المحتار 2/ 453.
(9)
مصنف ابن أبي شيبة 2/ 250، برقم 8667، في ليلة القدر، وأي ليلة هي.
(10)
هو: أُبَي بن كَعْب بن قيس بن عبيد، أبو المنذر الأنصاري الخزرجي، صحابي من كتاب الوحي وقرائهم، شهد بدرًا وأحدًا والخندق والمشاهد كلها، كان ممن جمع القرآن، توفي سنة: 21 هـ. ينظر: الاستيعاب 1/ 65، والإصابة 1/ 180، معرفة الصحابة 1/ 214.
(11)
مصنف عبد الرزاق 4/ 252 رقم 7700، في الصيام، باب ليلة القدر، ومصنف ابن أبي شيبة 2/ 326 رقم 9533، باب: ما قالوا في ليلة القدر واختلافهم فيها.
القول السادس: أنها في أوتار العشر الأخير من رمضان تنتقل.
وبه قال: المالكية في المشهور (1) ، والشافعية في وجه (2) ، والحنابلة (3)، والظاهرية (4)، وهو اختيار الشيخ.
سبب الخلاف: والسبب في اختلافهم في هذه المسألة -والله أعلم-: اختلاف الأحاديث والآثار الواردة فيها، واختلافهم في المراد منها.
أدلة القول الأول: القائلين بأن ليلة القدر مختصة برمضان ممكنة في جميع لياليه.
الدليل الأول: قوله سبحانه وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (5)، وقوله سبحانه وتعالى في الآية الأخرى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (6).
وجه الاستدلال من الآيتين: أن الله سبحانه وتعالى جعل أيام وليالي شهر رمضان محلا عاما لنزول القرآن، ثم ذكر سبحانه وتعالى أن وقت إنزاله كان في ليلة القدر منه، فعلمنا أنها ليلة من شهر رمضان غير معينة (7).
الدليل الثاني: عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أسمع عن ليلة القدر، فقال:«هي في كل رمضان» (8).
(1) المدونة 1/ 301، الاستذكار 3/ 414، التوضيح لخليل 2/ 481، مواهب الجليل 2/ 464.
(2)
العزيز 3/ 250، المجموع 6/ 450، الغرر البهية 2/ 223، واختاره: ابن خزيمة، والمزني، وقواه النووي.
(3)
المغني 3/ 182، المبدع 3/ 57، الإنصاف 3/ 354. وأرجاها عندهم: ليلة سبع وعشرين ذكر في الإنصاف أنه المذهب، وحكى الموفق أنها تنتقل ونصره شيخ الإسلام. ينظر: الكافي 1/ 453، وشرح العمدة كتاب الصيام 2/ 697.
(4)
المحلى 4/ 457. إلا أنهم يرون أنها لا تنتقل.
(5)
سورة البقرة: آية: 185.
(6)
سورة القدر: آية: 1.
(7)
ينظر: المسالك 4/ 265، وينظر: التمهيد 2/ 214.
(8)
رواه أبو داود 2/ 53 رقم 1387، في تفريع أبواب شهر رمضان، باب من قال: هي في كل رمضان، وقال:"رواه سفيان، وشعبة، عن أبي إسحاق موقوفا على ابن عمر"، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 506 رقم 8526، في الصيام، باب الدليل على أنها في كل رمضان، وقال الألباني في ضعيف أبي داود 2/ 67:"ضعيف والصحيح موقوف".
وجه الاستدلال: جاء في هذا الحديث أن ليلة القدر في كل رمضان، وهو دليل على أنها قد تكون في أوله، وفي وسطه، كما قد تكون في آخره (1).
أدلة القول الثاني: القائلين بأنها ليلة الحادي والعشرين من رمضان.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط، في قُبَّة تُرْكِيَّةٍ (2) على سُدَّتِهَا حَصِيرٌ (3)، قال: فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة، ثم أطلع رأسه فكلم الناس، فدنوا منه، فقال:«إني اعتكفت العشر الأول، ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أتيت، فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف» فاعتكف الناس معه، قال:«وإني أريتها ليلة وتر، وإني أسجد صبيحتها في طين وماء» فأصبح من ليلة إحدى وعشرين، وقد قام إلى الصبح، فمطرت السماء، فَوَكَفَ المسجد (4)، فأبصرتُ الطين والماء، فخرج حين فرغ من صلاة الصبح، وجبينه ورَوْثَةُ أَنْفِهِ (5) فيهما الطين والماء، وإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر (6).
وجه الاستدلال: هذا الحديث صريح في أن ليلة القدر كانت ليلة الحادي والعشرين من رمضان.
أدلة القول الثالث: القائلين بأنها ليلة الثالث والعشرين من رمضان.
الدليل الأول: عن عبد الله بن أُنَيْس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«أُريتُ ليلة القدر، ثم أُنْسيتُها، وأراني صبحها أسجد في ماء وطين» ، قال: فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين، فصلى بنا
(1) ينظر: شرح معاني الآثار 3/ 84.
(2)
قُبَّة تُرْكِيَّة: أي منسوبة إلى الترك وهم الجيل المعروف، وهي قبة صغيرة من لُبُود. واللبود: شعر أَو صوف متلبِّد. ينظر: شرح مسلم للنووي 8/ 62، وفتح الباري 1/ 92، ومجمع بحار الأنوار 1/ 261.
(3)
على سُدَّتِهَا حَصِيرٌ: أي على بابها حَصِير: وهو البِساط المنسوج من أوراق البردي أو البارئ أو نحوهما. ينظر: مشارق الأنوار 2/ 211، والمعجم الوسيط 1/ 179، وتاج العروس 11/ 31.
(4)
وَكَفَ المسجد: أي: سال ووقع منه ماء المطر. ينظر: كتاب الأفعال 3/ 289، والنهاية 5/ 221، وإكمال المعلم 4/ 148.
(5)
روثة الأنف: طرفه، ومقدمه، وأرنبته. ينظر الصحاح 1/ 284، ومجمل اللغة لابن فارس 1/ 404، ولسان العرب 2/ 157.
(6)
رواه مسلم 2/ 825 رقم 1167، في الصيام، باب فضل ليلة القدر، والحث على طلبها
…
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه، قال: وكان عبد الله بن أُنَيس يقول: ثلاث وعشرين (1).
الدليل الثاني: عن عبد الله بن أُنَيس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم، وسألوه عن ليلة يتراءونها في رمضان؟ قال:«ليلة ثلاث وعشرين» (2).
وجه الاستدلال: أن هذه الأحاديث صريحة في كون ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين.
الدليل الثالث: قال ابن عباس رضي الله عنهما: «أتيت، وأنا نائم في رمضان، فقيل لي: إن الليلة ليلة القدر، قال: فقمت، وأنا ناعس، فتعلقت ببعض أَطْنَابَ (3) فُسْطَاط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يصلي، قال: فنظرت في تلك الليلة، فإذا هي ليلة ثلاث وعشرين» (4).
أدلة القول الرابع: القائلين بأنها ليلة أربع وعشرين من رمضان.
الدليل الأول: عن بلال رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليلة القدر ليلة أربع وعشرين» (5).
وجه الاستدلال: أن هذا الحديث صريح في كون ليلة القد هي لية أربع وعشرين.
الدليل الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما: «"التمسوا في أربع وعشرين» (6).
وجه الاستدلال: أن كلام ابن عباس رضي الله عنه هذا أتى بعد أن ذكر قوله صلى الله عليه وسلم: «هي في العشر الأواخر، هي في تسع يمضين، أو في سبع يبقين» يعني ليلة القدر (7).
فيكون كلامه هذا تفسيرا لقوله صلى الله عليه وسلم: «في سبع يبقين» . أي: التمسوها ليلة أربع وعشرين (8).
(1) رواه مسلم 2/ 827 رقم 1168، في الصيام باب فضل ليلة القدر، والحث على طلبها
…
(2)
رواه أحمد 25/ 437 رقم 16044، وقال شعيب الأرنؤوط:"حديث حسن"، وقال الألباني في صحيح أبي داود 5/ 125:"إسناده صحيح على شرط مسلم".
(3)
أَطْناب: جمع طنب وهو حبل الخِباء وطرفه. ينظر: الصحاح 1/ 172، النهاية 3/ 140.
(4)
رواه أحمد 4/ 150 رقم 2302، ورقم 2547، وقال شعيب الأرنؤوط:"حسن لغيره".
(5)
رواه أحمد 39/ 323 رقم 23890، وقال شعيب الأرناؤوط:"إسناده ضعيف"، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير رقم 4957.
(6)
رواه البخاري معلقا 3/ 47 إثر حديث رقم 2022، في فضل ليلة القدر، باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، ووصله محمد بن نصر في الصلاة ص 256، باب طلبها في ليلة أربع وعشرين، وقال الألباني في صحيح أبي داود 5/ 127:"هذا شاذ".
(7)
رواه البخاري 3/ 47 رقم 2022، في فضل ليلة القدر، باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر.
(8)
ينظر: طرح التثريب 4/ 155.
أدلة القول الخامس: القائلين بأنها ليلة سبع وعشرين من رمضان.
الدليل الأول: عن زِرّ بن حُبَيْش، قال: سألت أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه، فقلت: إن أخاك ابن مسعود رضي الله عنه يقول: «من يقم الحول يُصِبْ ليلة القدر» ؟ . فقال: أراد أن لا يتكل الناس، أَمَا إنه قد علم أنها في رمضان، وأنها في العشر الأواخر، وأنها ليلة سبع وعشرين، ثم حَلَف لا يستثني، أنها ليلة سبع وعشرين، فقلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ ، قال: بالعلامة، أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أنها تطلع يومئذ، لا شعاع لها» (1).
الدليل الثاني: عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان متحريها فليتحرها ليلة سبع وعشرين» ، وقال:«تحروها ليلة سبع وعشرين» يعني ليلة القدر (2).
الدليل الثالث: عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر، قال:«ليلة القدر ليلة سبع وعشرين» (3).
الدليل الرابع: عن جابر بن سَمُرة (4) رضي الله عنه مرفوعا: «التمسوا ليلة القدر ليلة سبع وعشرين» (5).
أدلة القول السادس: القائلين بأنها في أوتار العشر الأخير من رمضان تنتقل.
(1) رواه مسلم 2/ 828 رقم 762، في الصيام باب فضل ليلة القدر، والحث على طلبها
…
(2)
رواه أحمد 8/ 426 رقم 4808، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 91 رقم 4639، كتاب الطلاق، باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر متى يقع الطلاق؟ ، وقال شعيب الأرنؤوط:"إسناده صحيح على شرط الشيخين".
(3)
رواه أبو داود 2/ 53 رقم 1386، تفريع أبواب شهر رمضان باب من قال: سبع وعشرون، وابن حبان في صحيحه 8/ 437، ذكر استحباب إحياء المرء ليلة سبع وعشرين من شهر رمضان رجاء مصادفة ليلة القدر فيها، وقال الألباني في صحيح أبي داود رقم 1254:"صحيح".
(4)
هو: جابر بن سمرة ابن جنادة بن جندب، أبو عبد الله السُّوَائِيُّ، له ولأبيه صحبة، خاله سعد بْن أَبي وقاص رضي الله عنهم، شهد خطبة عمر بالجابية، روى عنه: سماك بن حرب، والشعبي، وأبو عون الثقفي، وغيرهم، روى له: البخاري ومسلم 146 حديثًا. توفي سنة 74 هـ. ينظر: الاستيعاب 1/ 224، الإصابة 1/ 542، معرفة الصحابة 2/ 544.
(5)
رواه الطبراني في المعجم الأوسط 1/ 180 رقم 285، وصححه الألباني في صحيح الجامع 1/ 268 رقم 1240.
الدليل الأول: عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان» (1).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل التماس ليلة القدر في الأوتار من العشر الأواخر؛ ولم يُعَيِّن ليلة بعينها؛ فدل على أنها متنقلة بينها (2).
الدليل الثاني: عن عُبادة بن الصَّامِت (3) رضي الله عنه أنه: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«في رمضان فالتمسوها في العشر الأواخر، فإنها في وتر: في إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، أو سبع وعشرين، أو تسع وعشرين، أو في آخر ليلة. فمن قامها ابتغاءها إيمانا واحتسابا، ثم وُفِّقت له غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» (4).
وجه الاستدلال: دل هذا الحديث على أن ليلة القدر تكون في الأوتار من ليالي العشر، وأن عد ليالي الأوتار يكون من أول العشر لا من آخرها.
الدليل الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر، في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى» (5).
الدليل الرابع: عن أبي بَكْرَة (6) رضي الله عنه، وذُكِرت ليلة القدر عنده، فقال: ما أنا بطالبها إلا في العشر الأواخر بعد شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول: «التمسوها في العشر
(1) رواه البخاري 3/ 46 رقم 2017، في فضل ليلة القدر، باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، ومسلم 2/ 828 رقم 1169، في الصيام، باب فضل ليلة القدر
…
(2)
ينظر: الاستذكار 3/ 406.
(3)
هو: عُبادة بن الصَّامت بن قَيْس، أبو الوليد الأنصاري الخزرجي، صحابي شهد بدرا، وأحد النقباء بالعقبة، وشهد المشاهد كلها، وهو أول من ولي القضاء بفلسطين، وكان من سادات الصحابة، توفي بالرملة سنة 34 هـ. ينظر: الطبقات 3/ 546، 621، الإصابة 3/ 505، السير 2/ 5.
(4)
رواه أحمد 37/ 386 رقم 22713، وقال شعيب الأرنؤوط:"حديث حسن دون قوله: «أو في آخر ليلة» ودون قوله: «ومما تأخر» وهذا إسناد ضعيف".
(5)
رواه البخاري 3/ 47 رقم 2021، في فضل ليلة القدر، باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر.
(6)
هو: نُفَيْع بن الحارث، أبو بَكْرَة الثَّقَفِيُّ، صحابي من أهل الطائف، وإنما قيل له أبو بكرة؛ لأنه تدلى ببكرة من حصن الطائف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ممن اعتزل الفتنة يوم الجمل، وأيام صفين. روى عنه عنه أولاده، له 132 حديثا، توفي بالبصرة سنة 52 هـ. ينظر: معرفة الصحابة 5/ 2680، الإصابة 6/ 369، سير أعلام النبلاء 3/ 5.
الأواخر من تسع يبقين، أو سبع يبقين، أو خمس يبقين، أو ثلاث يبقين، أو آخر ليلة» (1).
وجه الاستدلال: في هذا الحديث رد على من قال إن ليلة القدر كانت في العشر الأواخر في عهده صلى الله عليه وسلم فقط، أما بعد موته فتُلتمس في جميع الشهر؛ لأن أبا بَكْرَة رضي الله عنه فهم أنها لا تُلتَمَس إلا في العشر الأواخر في حياته وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
الدليل الخامس: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أرى رؤياكم قد تَوَاطَأَتْ (2) في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر» (3).
وجه الاستدلال: في هذا الحديث رَدّ على من قيَّدها بليلة الحادي والعشرين دون غيرها من ليالي العشر الأخيرة؛ لأن ليلة الحادي والعشرين ليست من السبع الأواخر يقينا.
وتَقييدُه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث- بالسبع الأواخر مع أنه قد جاء الحَثّ على تحريها في العشر الأواخر، وفي الأوتار منها، المقصود منه: تَحرّيها في ذلك العام بخصوصه، والدليل قوله:«أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر» ، فعَيَّن لهم تَحرّيها في السبع الأواخر؛ لمّا اجتمعت رؤاهم تلك السَنة عليها.
قال ابن عبد البر: "والأغلب من قوله: «في السبع الأواخر» أنه في ذلك العام والله أعلم؛ لئلا يتضاد مع قوله: «في العشر الأواخر» ويكون قَوْلُه (4)، وقد مضى مِن الشهر ما يوجِب قَولَ ذلك"(5).
(1) رواه أحمد 34/ 44 رقم 20404، واللفظ له، والنسائي في الكبرى 3/ 400 رقم 3389، في الاعتكاف، التماس ليلة القدر لثلاث يبقين من الشهر، وابن حبان في صحيحه 8/ 442 رقم 3686، وقال شعيب الأرنؤوط:"إسناده صحيح"، ووافقه الألباني في صحيح الجامع 1/ 268 رقم 1243.
(2)
تواطأت، أي: توافقت، كأنَّ كلّا منهم وطئ ما وطئه الآخر. ينظر: مشارق الأنوار 2/ 285، النهاية 5/ 202.
(3)
رواه البخاري 3/ 46 رقم 2015، في فضل ليلة القدر باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر، ومسلم 2/ 822 رقم 1165، في الصيام باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها.
(4)
أي: قَوْلُه الذي ذُكِر، قد قاله وقد مضى مِن الشهر
…
(5)
الاستذكار 3/ 409، وينظر: التوضيح لابن الملقن 13/ 595.
الدليل السابع: وجمعا بين الأحاديث الواردة في الباب.
قال ابن العربي: "وفي الحديث دليل على أنها متنقلة غير مخصوصة بليلة؛ لأن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم خرجت في صبيحة ليلة إحدى وعشرين من رمضان، وعلى جسمه وأنفه أثر الماء والطين. واستفتاه رجل ليختار له عند عجزه عن عموم الجميع، فاختار له ليلة ثلاث وعشرين. فدل ذلك أنها تنتقل؛ وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبخس السائل حظَّه منها"(1).
وقال النووي: "ولا طريق إلى الجمع بين الأحاديث إلا بانتقالها"(2).
الراجح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول السادس: أن ليلة القدر منحصرة في رمضان، ثم في العشر الأخير منه، ثم في أوتاره تنتقل، لا في ليلة منه بعينها.
وهذا هو الذي يدل عليه مجموع الأخبار الواردة فيها (3).
وأما ما استدل به أصحاب الأقوال الأخرى فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما استدلال أصحاب القول الأول بالآيتين على أن ليلة القدر تكون في جميع شهر رمضان غير مُسَلَّم؛ خاصة مع وجود هذا الكم الكبير من الأحاديث التي نصت على تعيين ليلة القدر، وأنها منحصرة في العشر الأواخر، فالآيات جاءت عامة، والأحاديث جاءت خاصة، والخاص مقدم على العام.
ثانيا: وأما استدلالهم بحديث ابن عمر ¢، فيجاب عنه من وجهين:
الأول: أن هذا الحديث ضعيف لا يقاوم الأحاديث الكثيرة الصحيحة التي نصت على أن ليلة القدر تُلتمس في العشر الأواخر.
الثاني: وعلى فرض صحته: فليس المعنى فيه التماس ليلة القدر في جميع رمضان، بل المعنى والله أعلم أن ليلة القدر تكون في كل رمضان إلى يوم القيامة، وأنها باقية لم تُرفَع (4).
قال العراقي: "قلت: والحديث محتمل للتأويل بأن يكون معناه أنها تتكرر وتوجد في كل سنة في رمضان، لا أنها وجدت مرة في الدهر، فلا يكون فيه دليل لهذا القول"(5).
(1) المسالك 4/ 267، وينظر: فتح الباري 4/ 260.
(2)
المجموع 6/ 450.
(3)
ينظر: فتح الباري 4/ 260.
(4)
ينظر: شرح معاني الآثار 3/ 84.
(5)
طرح التثريب 4/ 152، وينظر: شرح العمدة كتاب الصيام لابن تيمية 2/ 681.
ثالثا: وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني من أن ليلة القدر لا تكون إلا في ليلة الحادي والعشرين من رمضان، فيجاب عنه:
أن ليلة القدر كانت في تلك السنة ليلة الحادي والعشرين، لكن لا يعني أنها لا تنتقل، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم:«فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر» ، وليلة الحادي والعشرين ليست من السبع الأواخر يقينا.
وأيضا: الأحاديث التي سيقت في بيان كونها ليلة الثالث والعشرين، والسابع والعشرين، كلها تدل على عدم لزوم كونها في ليلة الحادي والعشرين دون غيرها (1).
وبهذا الجواب الأخير نفسه يجاب عن أصحاب القول الثالث القائلين بأنها ليلة الثالث والعشرين دون غيرها، وأصحاب القول الخامس القائلين بأنها ليلة السابع والعشرين دون غيرها.
قال ابن عبد البر: "في ليلة إحدى وعشرين حديث أبي سعيد الخدري من رواية مالك وغيره، وفي ليلة ثلاث وعشرين حديث عبد الله بن أنيس الجهني وقد تقدم ذكره، وفي ليلة سبع وعشرين حديث أبي بن كعب وحديث معاوية، وهي كلها صحاح تدل على انتقال ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر"(2).
رابعا: وأما ما استدل به أصحاب القول الثالث بأنها ليلة الرابع والعشرين، فيجاب عنه:
أما حديث بلال رضي الله عنه فهو ضعيف ولا يصح الاستدلال به. وقد جاء ما يخالفه وهو ما صح عن بلال رضي الله عنه أنه سئل عن ليلة القدر فقال: «أنها في السبع، في العشر الأواخر» (3).
كما أنه قد جاء عنه أيضا: «أنها ليلة ثلاث وعشرين» (4).
وأما قول ابن عباس: «التمسوا في أربع وعشرين» ، فيجاب عنه من ثلاثة أوجه:
الأول: لا يُسَلَّم أن كلام ابن عباس ¢ هذا تفسير منه للحديث، بل هو أثر مستقل أتى به البخاري (معلَقا)(5)، وليس هو من الأحاديث المُسنَدة في صحيحه (6).
(1) ينظر: إحكام الأحكام 2/ 40.
(2)
الاستذكار 3/ 412.
(3)
رواه البخاري 6/ 16 رقم 4470، كتاب المغازي، بابٌ.
(4)
مصنف ابن أبي شيبة 2/ 325 رقم 9526، كتاب الصيام، ما قالوا في ليلة القدر واختلافهم فيها.
(5)
المُعَلّق: هو أن يُسقط مؤلف الكتاب راويا أو أكثر من مبادئ السند. ينظر: نزهة النظر: ص 98.
(6)
ينظر: تحفة الأشراف 5/ 112 رقم 5994.
الثاني: أن يكون تقدير كلامه ¢: التمسوها في تمام أربعة وعشرين يوما، وهي ليلة الخامس والعشرين (1).
وبهذا يتوافق مع القول بأنها تكون في أوتار العشر الأواخر.
الثالث: قد جاءت الروايات الصحيحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها ليلة الثالث والعشرين والسابع والعشرين، وإعمال ما جاء عنه من روايات كلها أولى من إعمال إحداها وإهمال الباقي، خاصة وأن مجموع ما جاء عنه يتوافق مع ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله:«تحروا ليلة القدر في الوتر، من العشر الأواخر من رمضان» .
والله تعالى أعلم.
(1) ينظر: الكواكب الدراري 9/ 161.