المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الرابع: هل الأكل والشرب في رمضان عمدا يوجبان الكفارة كالجماع - الاختيارات الفقهية للشيخ عبيد الله المباركفوري كتاب الصيام والاعتكاف

[موافقي الأمين]

فهرس الكتاب

- ‌ الافتتاحية

- ‌أهمية الموضوع وأسباب اختياره

- ‌الدراسات السابقة:

- ‌خطة البحث

- ‌المنهج المتبع في البحث:

- ‌الشكر وتقدير:

- ‌التمهيددراسة حياة الشيخ عبيد الله المباركفوري واختياراته

- ‌المبحث الأول: دراسة حياة الشيخ عبيد الله المباركفوري رحمه الله تعالى

- ‌المطلب الأول:‌‌ اسمه، ونسبه، و‌‌كنيته، و‌‌لقبه

- ‌ اسمه، ونسبه

- ‌كنيته

- ‌لقبه

- ‌المطلب الثاني:‌‌ مولده، و‌‌أسرته، ووفاته

- ‌ مولده

- ‌أسرته

- ‌وفاته:

- ‌المطلب الثالث: نشأته، وطلبه للعلم

- ‌المطلب الرابع:‌‌ شيوخه، وتلاميذه

- ‌ شيوخه

- ‌أولا: الشيخ أبو الهدى عبد السلام بن الشيخ خان محمد بن أمان الله المباركفوري

- ‌ثانيا: الشيخ العلامة أبو طاهر البهاري

- ‌ثالثا: الشيخ أبو العلى محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم بن الشيخ بهادر المباركفوري

- ‌رابعا: الشيخ العلامة أحمد الله بن أمير الله بن فقير الله فرتاب كرهي

- ‌خامسا: الشيخ عبد الغفور جيراجفوري

- ‌سادسا: الشيخ العلامة محمد أعظم بن فضل الدين أبو عبد الله الجوندلوي الباكستاني

- ‌تلامذته:

- ‌أولا: الشيخ عبد الجليل بن تعلقدار الرحماني البستوي

- ‌ثانيا: الشيخ محمد إدريس آزاد الرحماني الأملوي

- ‌ثالثا: الشيخ عبد المعيد بن عبد المجيد بن عبد القادر أبو عبيدة البنارسي

- ‌رابعا: الشيخ آفتاب آحمد الرحماني البنغلاديشي

- ‌خامسا: الشيخ عبد الغفار حسن بن العلامة عبد الستار بن عبد الجبار العمر فوري الرحماني

- ‌سادسا: الشيخ أحمد الله بن عبد الكريم الرحماني البنغلاديش

- ‌المطلب الخامس:‌‌ عقيدته، ومذهبه الفقهي

- ‌ عقيدته

- ‌عقيدة الشيخ في الإيمان:

- ‌عقيدة الشيخ في الأسماء والصفات:

- ‌عقيدته في التوسل ودعاء الأموات والغائبين:

- ‌مذهبه الفقهي:

- ‌المطلب السادس: ثناء العلماء عليه

- ‌المطلب السابع: آثاره العلمية

- ‌المبحث الثاني: اختيارات الشيخ عبيد الله المباركفوري رحمه الله تعالى

- ‌المطلب الأول: تعريف الاختيار

- ‌في اللغة:

- ‌وفي الاصطلاح:

- ‌التعريف الأول:

- ‌التعريف الثاني:

- ‌وقد عرفه بعض الباحثين باعتبار أقسامه الثلاثة:

- ‌القسم الأول:

- ‌القسم الثاني:

- ‌القسم الثالث:

- ‌الفرق بين الإختيار والرأي والإنفراد:

- ‌تعريف الرأي:

- ‌وأما في الاصطلاح فقد عرف بعدة تعاريف منها:

- ‌تعريف الإنفراد:

- ‌وفي الاصطلاح:

- ‌الفرق بين الإختيار والرأي:

- ‌وجه التشابه بينهما:

- ‌وجه الاختلاف بينهما:

- ‌الفرق بين الإختيار والإنفراد:

- ‌الفرق بين الإنفراد والرأي:

- ‌المطلب الثاني: منهج المباركفوري في اختياراته، وموقف العلماء منها

- ‌المطلب الثالث: دراسة الصيغ المعتبرة (في الاختيار) عند الشيخ المباركفوري

- ‌الباب الأول: اختيارات الشيخ عبيد الله المباركفوري رحمه الله تعالى في الصيام

- ‌الفصل الأول: في تسمية الشهر، وفي رؤية الهلال، وفي يوم الشك

- ‌المبحث الأول: حكم قول رمضان، وفي رؤية الهلال

- ‌المطلب الثاني: اعتبار اختلاف المطالع

- ‌المطلب الثالث: هل يثبت دخول الشهر بالحساب الفلكي

- ‌المطلب الرابع: عدد الشهود في هلال شهر رمضان

- ‌المطلب الخامس: عدد الشهود لثبوت هلال شوال

- ‌المطلب السادس: هل يكفي الإخبار ممن رأى الهلال أو تشترط الشهادة

- ‌المطلب السابع: حكم صيام من رأى هلال شوال وحده فردت شهادته

- ‌المطلب الثامن: حكم من أفطر ثم تبين أن اليوم من رمضان

- ‌المبحث الثاني: في يوم الشك، والصوم بعد انتصاف شعبان

- ‌المطلب الأول: في تعيين يوم الشك

- ‌المطلب الثاني: حكم صيام الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر

- ‌المطلب الثالث: من صام يوم الشك فتبين أنه من رمضان

- ‌المطلب الرابع: حكم الصيام بعد انتصاف شعبان

- ‌الفصل الثاني: في النية وصيام المسافر

- ‌المبحث الأول: في النية

- ‌المطلب الأول: في النية للفرض

- ‌المسألة الثانية: حكم النية لكل يوم من رمضان

- ‌المسألة الثالثة: حكم تعيين النية

- ‌المسألة الرابعة: حكم التَلَفُّظ بالنية

- ‌المسألة الخامسة: هل يُشترَط أن تُعقَد النية في جزء معين من الليل

- ‌المسألة السادسة: حكم ما إذا فعل بعد النية قبل الفجر ما ينافي الصوم

- ‌المطلب الثاني: في النية النفل

- ‌المسألة الأولى: حكم صيام يوم الشك بنية التطوع

- ‌المسألة الثانية: حكم نية صوم النفل من النهار

- ‌المسألة الثالثة: حكم عقد نية النفل بعد الزوال

- ‌المبحث الثاني: صوم السفر

- ‌المطلب الأول: حكم الصيام في السفر

- ‌المطلب الثاني: ما الأفضل للمسافر الصيام أو الفطر

- ‌المطلب الثالث: حد السفر المبيح للفطر

- ‌المطلب الرابع: حكم إفطار المسافر الذي استهل عليه رمضان وهو مقيم

- ‌المطلب الخامس: حكم إفطار المسافر بعد أن كان قد شرع في الصيام

- ‌المطلب السادس: حكم إفطار من سافر بعد طلوع الفجر

- ‌الفصل الثالث: في المفطرات وما يجتنبه الصائم، وفي الكفارة وخصالها

- ‌المبحث الأول: في المفطرات وما يجتنبه الصائم

- ‌المطلب الثاني: حكم الفصد للصائم

- ‌المطلب الرابع: حكم التقبيل للصائم

- ‌المطلب الخامس: حكم الاستياك للصائم

- ‌المسألة الثانية: الاستياك بالعود الرطب

- ‌المسألة الثالثة: الاستياك في صوم الفريضة

- ‌المطلب السابع: حكم الوصال في الصيام

- ‌المسألة الأولى: الوصال أكثر من يوم

- ‌المسألة الثانية: الوصال إلى السَحَر

- ‌المطلب الثامن: حكم من أكل أو شرب ناسيا وهو صائم

- ‌المطلب العاشر: حكم انغماس الصائم في الماء

- ‌المطلب الحادي عشر: في الأكل والشرب للمتسحر

- ‌المسألة الأولى: حكم من أكل أو شرب وهو شاك في الفجر

- ‌المسألة الثانية: هل المعتبر في تحريم الأكل والشرب تَبَيُّن الفجر أو طلوع الفجر

- ‌المطلب الثالث عشر: حكم صيام الحائض والنُفَساء إذا طهرت قبل الفجر، ولم تغتسل إلا بعد الفجر

- ‌المبحث الثاني: في الكفارة، وخصالها

- ‌المطلب الثاني: هل على المرأة المجامعة في رمضان كفارة

- ‌المطلب الثالث: هل على من جامع ناسيا في رمضان كفارة

- ‌المطلب الرابع: هل الأكل والشرب في رمضان عمدا يوجبان الكفارة كالجماع

- ‌المطلب السادس: هل الخصال الثلاثة في كفارة الجماع في رمضان على الترتيب أو على التخيير

- ‌المطلب السابع: حكم اشتراط التتابع في صيام كفارة الجماع في رمضان

- ‌المطلب الثامن: ما هو الحد الواجب في الإطعام في كفارة الجماع في رمضان

- ‌المطلب التاسع: هل يشترط في الرقبة المعتقة في كفارة الجماع في رمضان أن تكون مؤمنة

- ‌الفصل الرابع: في صوم التطوع، والأيام التي نهي عن الصوم فيها، وفي النذر، وصوم عاشوراء

- ‌المبحث الأول: في صوم التطوع والأيام التي نهي عن الصوم فيها

- ‌المطلب الأول: حكم إفراد يوم الجمعة بصيام

- ‌المطلب الثاني: حكم صيام يوم السبت

- ‌المطلب الثالث: حكم صيام يوم عرفة للحاج

- ‌المطلب الخامس: حكم صيام عشر ذي الحِجَّة

- ‌المطلب السادس: حكم صيام الدهر

- ‌المطلب السابع: حكم صيام الست من شوال

- ‌المطلب الثامن: ما هو أفضل الصيام بعد رمضان صيام شعبان أو المحرم

- ‌المطلب التاسع: حكم الإفطار في صوم النافلة

- ‌المطلب العاشر: تعيين الأفضل في صيام ثلاثة أيام من كل شهر

- ‌المطلب الحادي عشر: ما هي أيام البيض

- ‌المطلب الثاني عشر: معنى صيام يوم في سبيل الله

- ‌المبحث الثاني: في النذر، وفي أعذار الفطر

- ‌المطلب الأول: حكم من نذر صوم العيدين متعمدا لعينيهما

- ‌المطلب الثاني: حكم من نذر صوم يوم قدوم فلان مثلا فوافق يوم عيد

- ‌المطلب الثالث: هل الضيافة عذر للإفطار من صوم النفل

- ‌المطلب الرابع: هل يستحب لمن كان صائما صيام نفل أن يفطر إذا دُعي

- ‌المبحث الثالث: في صوم عاشوراء

- ‌المطلب الأول: نسخ وجوب صيام يوم عاشوراء

- ‌المطلب الثاني: هل عاشوراء هو اليوم التاسع أو اليوم العاشر

- ‌المطلب الثالث: ما الأفضل في صيام عاشوراء

- ‌المطلب الرابع: هل صيام يوم مع عاشوراء لاحتمال الشك أو لمخالفة أهل الكتاب

- ‌المطلب الخامس: هل الأفضل صيام يوم عاشوراء أو يوم عرفة

- ‌الباب الثاني: اختيارات الشيخ عبيد الله المباركفوري رحمه الله تعالى في قضاء الصوم، وفي ليلة القدر، وفي الاعتكاف

- ‌الفصل الأول: في قضاء الصوم، وفي ليلة القدر

- ‌المبحث الأول: في قضاء الصوم

- ‌المطلب الأول: هل يجب قضاء رمضان على الفور؟ ، وهل يجب التتابع

- ‌المطلب الثاني: هل يجوز التطوع قبل القضاء

- ‌المطلب الثالث: هل يقضي من أفطر في صيام النفل

- ‌المطلب الرابع: حكم صيام المرأة النفل وقضاء الواجب بغير إذن زوجها

- ‌المطلب الخامس: هل يقضي المجامع في رمضان اليوم الذي جامع فيه

- ‌المطلب السادس: حكم القضاء على من ذرعه القيء

- ‌المطلب السابع: هل يقضي من أفطر متعمدا في رمضان

- ‌المطلب الثامن: هل يقضي الصوم من تمضمض أو استنشق فغلبه الماء

- ‌المطلب التاسع: حكم من أخر قضاء رمضان حتى دخل رمضان آخر

- ‌المطلب العاشر: ما الواجب على المُرضع والحامل إذا خافتا على ولدهما فقط

- ‌المبحث الثاني: في القضاء عن الميت

- ‌المطلب الأول: حكم قضاء الصوم عن الميت الذي أمكنه التدارك

- ‌المطلب الثاني: ما الصوم الذي يصام عن الميت

- ‌المطلب الثالث: حكم قضاء الصوم عن الميت الذي لم يمكنه التدارك

- ‌المبحث الثالث: في ليلة القدر

- ‌المطلب الأول: في تعيين ليلة القَدْر

- ‌المطلب الثاني: هل ليلة القدر خاصة بهذه الأمة

- ‌الفصل الثاني: في الاعتكاف

- ‌المبحث الأول: في حكمه، واشتراط الصوم له، وغير ذلك

- ‌المطلب الأول: حكم (الاعتكاف)

- ‌المطلب الثاني: هل يشترط الصوم لصحة الاعتكاف

- ‌المطلب الثالث: هل لأقل الاعتكاف حدّ

- ‌المطلب الرابع: هل ينقطع اعتكاف من عاد مريضا أو صلى على جنازة

- ‌المطلب الخامس: هل يجوز (الاشتراط في الاعتكاف)

- ‌المطلب السادس: حكم من نذر الاعتكاف قبل إسلامه

- ‌المطلب السابع: متى يدخل المعتكِف معتكَفه

- ‌المطلب الثامن: حكم قضاء الاعتكاف

- ‌المبحث الثاني: في مكان الاعتكاف

- ‌المطلب الأول: أين تعتكف المرأة

- ‌المطلب الثاني: هل يجوز الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة

- ‌المطلب الثالث: هل يجوز الاعتكاف في غير (المسجد الجامع)

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌المطلب الرابع: هل الأكل والشرب في رمضان عمدا يوجبان الكفارة كالجماع

‌المطلب الرابع: هل الأكل والشرب في رمضان عمدا يوجبان الكفارة كالجماع

؟ .

اختيار الشيخ: اختار أن الإفطار بالجماع هو الذي تجب فيه الكفارة فقط فقال رادّا على من سَوّى بين الجماع والأكل والشرب في لزوم الكفارة: "فمعظم الروايات فيها وطئت امرأتي ونحو ذلك" ثم قال بعد أن ذكر روايات الحديث: "فيحمل على أنه أراد أفطرت في رمضان بجماع"(1).

تحرير محل الخلاف: أجمع أهل العلم أن من أكل أو شرب متعمدا أنه يفطر (2)؛ لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (3).

واختلفوا في من أكل أو شرب متعمدا هل تلزمه الكفارة كالجماع أو لا؟ على قولين:

القول الأول: أن الأكل والشرب عمدا في رمضان يوجبان الكفارة كالجماع.

وبه قال: الحنفية (4) ، والمالكية (5)، والحنابلة في رواية (6).

القول الثاني: أن الأكل والشرب عمدا في رمضان لا يوجبان الكفارة.

وبه قال: الشافعية (7) ، والحنابلة في المذهب (8)، والظاهرية (9)، وهو اختيار الشيخ.

سبب الخلاف: قال ابن رشد: "والسبب في اختلافهم: اختلافهم في جواز قياس المفطر بالأكل والشرب على المفطر بالجماع"(10).

أدلة القول الأول: القائلين بأن الأكل والشرب عمدا في رمضان يوجبان الكفارة كالجماع.

(1) مرعاة المفاتيح 6/ 498 ينظر تخريج حديث الأعرابي المجامع ص 363 - 364.

(2)

ينظر الإقناع لابن المنذر 1/ 193، مراتب الإجماع ص 39، المغني 3/ 119.

(3)

سورة البقرة: آية: 187.

(4)

المبسوط 3/ 73، بدائع الصنائع 2/ 97، تحفة الفقهاء 1/ 361، تبيين الحقائق 1/ 328.

(5)

الرسالة ص 61، الكافي 1/ 341، المعونة 1/ 476، مختصر خليل ص 62.

(6)

الفروع 5/ 14، شرح الزركشي 2/ 587، المبدع 3/ 35، الإنصاف 3/ 306.

(7)

مختصر المزني 8/ 153، الحاوي 3/ 434، المهذب 1/ 336، منهاج الطالبين ص 78.

(8)

الهداية ص 158، المغني 3/ 130، منتهى الإرادات 2/ 21، الإنصاف 3/ 306.

(9)

المحلى 4/ 313.

(10)

بداية المجتهد 2/ 65، وينظر: مناهج التحصيل 2/ 145، والمعلم 2/ 53.

ص: 380

الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «أمر رجلا أفطر في رمضان، أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين، أو يطعم ستين مسكينا» (1).

وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّق الكفارة بالإفطار (2)؛ ولو كان الحكم يختلف لاستفصل وسأل عما أفطر به (3)؛ فيكون عاما في كل فطر (4).

الدليل الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر» (5).

وجه الاستدلال: أن على المظاهر الكفارة بنص القرآن (6)، فكذا على المفطر متعمدا (7).

الدليل الثالث: ولأن هذا قَصَد إلى الفطر وهتك حرمة الصوم بما يقع به الفطر، فوجبت عليه الكفارة كالمجامع (8).

الدليل الرابع: ولأن دُعاء الطبع في وقت الصوم إلى الأكل أكثر منه إلى الجماع، والصبر عن الأكل أشد، فإيجاب الكفارة فيه أولى؛ كما أن حرمة التأفيف يقتضي حرمة الشتم بطريق الأولى (9).

الدليل الخامس: ولأن الكفارة إنما وجبت لكونها زاجرة عن المعاودة، وماحية للسيئة، وجابرة لما دخل من النقص على العبادة، وهذا يستوي فيه الأكل والوطء (10).

(1) رواه مسلم 2/ 782 رقم 1111، في الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم، ووجوب الكفارة الكبرى فيه وبيانها.

(2)

ينظر: مرقاة المفاتيح 4/ 1391.

(3)

ينظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 434.

(4)

ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 276، والمبسوط للسرخسي 3/ 74.

(5)

سبق تخريجه صفحة (368).

(6)

سورة المجادلة: آية: 3.

(7)

ينظر: بدائع الصنائع 2/ 98.

(8)

ينظر: المنتقى للباجي 2/ 52، والإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 434، والحاوي الكبير 3/ 434، والمعونة 1/ 477.

(9)

ينظر: المبسوط للسرخسي 3/ 73، وشرح العمدة كتاب الصيام 1/ 276.

(10)

ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 276.

ص: 381

الدليل السادس: ولأن الأكل مما تدعو إليه الطباع، وتشتهيه النفوس كالجماع، وما كان من المحرمات تشتهيه الطباع كالزنا وشرب الخمر، فلا بد من زاجر شرعي. والزواجر إما حدود وإما كفارات، فلما لم يكن في الأكل حد؛ فلا بد فيه من كَفّارة (1).

الدليل السابع: ولأنه إفطار بأعلى ما يقع به هتك حرمة الصوم من جنسه؛ فوجب أن تتعلق به الكفارة كالجماع (2).

الدليل الثامن: ولأن الصوم هو الإمساك عن الأكل والجماع، فكان الإفساد بأحدهما نظير الإفساد بالآخر، وإذا استويا في الإفساد واستويا في الإثم، فيجب أن يستويا في وجوب الرافع للإثم (3).

أدلة القول الثاني: القائلين بأن الأكل والشرب عمدا في رمضان لا يوجبان الكفارة.

الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدا فليقض» (4).

وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر المستقيء عامدا بالكفارة، ومن أكل أو شرب متعمدا كان كالمستقيء عامدا (5)؛ لأن فطرهم كلهم من حُلوقهم لا من فروجهم، بخلاف الواطئ (6).

الدليل الثاني: وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «أنه أُتِيَ برجل شَرِب الخمر في رمضان، فلما دنا منه جعل يقول: للمِنْخَرَيْن للمِنْخَرَيْن (7)، وإن صبياننا صيام؟ ، ثم أمر به فضربه ثمانين سوطا، ثم سَيَّره إلى الشام» (8).

(1) ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 276. وينظر: تحفة الفقهاء 1/ 361.

(2)

ينظر: المغني 3/ 130.

(3)

ينظر: تحفة الفقهاء 1/ 361.

(4)

سبق تخريجه صفحة (325).

(5)

ينظر: الحاوي الكبير 3/ 434، ومعالم السنن 2/ 112.

(6)

ينظر: المحلى 4/ 317.

(7)

معناه الدعاء عليه، أي: كَبَّه الله للمنخرين. ينظر: النهاية 5/ 72، غريب الحديث 3/ 395.

(8)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7/ 382 رقم 13557، في الطلاق، باب من شرب الخمر في رمضان، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 556 رقم 17545، في الأشربة والحد فيها، باب ما جاء في عدد حد الخمر.

ص: 382

الدليل الثالث: وعن علي رضي الله عنه أنه أُتِي بالنجاشي (1) سكران من الخمر في رمضان، فتركه حتى صحا، ثم ضربه ثمانين، ثم أمر به إلى السجن، ثم أخرجه من الغد فضربه عشرين، فقال:«ثمانين للخمر، وعشرين لجُرأتك على الله في رمضان» (2).

وجه الاستدلال: أن عمر رضي الله عنه قد جلده، ولم يخبره أن عليه كفارة، وكذلك علي رضي الله عنه جلده عشرين لأجل الفطر، ولم يخبره أن عليه كفارة، ولو كان ذلك عليه؛ لبيناه له؛ كما قد أقاما عليه الحد (3).

الدليل الرابع: ولأن وجوب الكفارة ثبت في المُجامِع معدولا به عن القياس؛ لأن وجوبها على المجامع لرفع الذنب عنه، والتوبة كافية لرفع الذنب في غير الجماع؛ بقاءً على الأصل (4).

الدليل الخامس: ولأن الكفارة من باب المقادير، والقياس لا يهتدي إلى تعيين المقادير، وإنما عُرف وجوبُها بالنص، والنص ورد في الجماع، والأكل والشرب ليسا في معناه؛ لأن الجماع أشد حرمة منهما، حتى يتعلق به وجوب الحد دونهما. فالنص الوارد في الجماع لا يكون واردا في الأكل والشرب، فيُقتصر على مَوْرِد النص (5).

الدليل السادس: ولأن كل عبادة مَنعت من الجِماع وغيره، كان حكم الجِماع فيها أعلى، كالحج: لَمّا استوى فيه حكم الجِماع وغيره في إيجاب الكفارة، اختص الجِماع بإفساد الحج دون غيره؛ تغليظا. فكذلك في الصوم: لَمّا ساوى الجِماعُ الأكلَ والشربَ في إفساد الصوم، اقتضى أن يختص الجِماع بالكفارة دون الأكل والشرب؛ تغليظا (6).

(1) هو: الحارثي الشاعر، قيل اسمه: قيس بن عمرو بن مالك بن حزن بن الحارث. ينظر: تاريخ دمشق 49/ 473، الأعلام 5/ 207.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 5/ 524 رقم 28624، كتاب الحدود، ما جاء في السكران متى يضرب، وعبد الرزاق في المصنف 7/ 382 رقم 13556، في الطلاق، باب من شرب الخمر في رمضان، وحسنه الألباني في إرواء الغليل 8/ 57 رقم 2399.

(3)

ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام 1/ 279.

(4)

ينظر: المهذب للشيرازي 1/ 336 - 337، المجموع 6/ 328.

(5)

ينظر: العزيز 3/ 229، والمجموع 6/ 341، ومغني المحتاج 2/ 178.

(6)

ينظر: الحاوي الكبير 3/ 434 - 435.

ص: 383

الدليل السابع: ولأن الجِماع في الغالب يفسد صوم اثنين، بخلاف غيره (1).

الترجيح: الذي يترجح والله أعلم هو القول الثاني: أن الأكل والشرب عمدا في رمضان لا يوجبان الكفارة؛ لقوة أدلتهم، ولأن الأصل براءة الذمة من هذه الكفارة، وحديث الأعرابي إنما يوجبها في الجماع، فإلحاق الأكل والشرب به يحتاج إلى دليل، والقياس على الجماع غير واضح؛ لجواز أن يكون الجماع قد تضمن وصفا فارق به الأكل والشرب، فما لم يقم دليل على أن المُوجِب للكفارة هو مجرد الفطر، لم يجز إيجابها بمجرد الظن (2).

وأما ما استدل به أصحاب القول الأول فيجاب عنه بما يلي:

أولا: أما استدلالهم بحديث الأعرابي فيجاب عنه من وجهين:

الوجه الأول: إن استدلالهم بالإجمال الذي في قول الراوي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا أفطر في رمضان» بالكفارة المذكورة، ليس بحجة; لأن قول الراوي:«فأَفطر» هو (مجمل)(3)، والمجمل ليس له عموم فيؤخذ به، فيجب كون ذلك الفطر قد وقع بأمر خاص، وقد قام الدليل على أن المقصود فِطرُه بالجِماع؛ لمجيئه مبيّنا كذلك برواية من نحو عشرين رجلا عن أبي هريرة رضي الله عنه (4).

الوجه الثاني: أنه يلزمهم القول بأن الكفارة تلزم من استقاء عمدا؛ لأنه متعمد للفطر، ولا يقولون به (5).

ثانيا: وأما استدلالهم بحديث: «من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر» فيجاب عنه من ثلاثة أوجه:

الأول: أن الحديث ضعيف لا تقوم به الحجة (6).

(1) ينظر: المغني 3/ 130.

(2)

ينظر: شرح عمدة الفقه كتاب الصيام 1/ 280.

(3)

المُجْمَل: لغة: ما جُعل جملة واحدة لا ينفرد بعض آحادها عن بعض. وشرعا: اللفظ المتردد بين محتملين فصاعدا على السواء. ينظر: لسان العرب 11/ 128، غاية السول ص 114، شرح مختصر الروضة 2/ 647.

(4)

ينظر: بداية المجتهد 2/ 65، المعلم 2/ 53، مرقاة المفاتيح 4/ 1391.

(5)

ينظر: الحاوي الكبير 3/ 435.

(6)

ينظر: المجموع 6/ 330، وشرح العمدة كتاب الصيام 1/ 278.

ص: 384

والثاني: وعلى فرض صحته، فإن هذا الحديث هو نفسه حديث المجامع في رمضان، وإنما هذا اختصار من بعض الروات (1).

الوجه الثالث: أن هذا الحديث أصلا لا دليل فيه على وجوب الكفارة؛ لأن على المظاهر الاستغفار فقط، وإنما تلزمه الكفارة إذا أراد العَود لا بالظهار. فكان دليل هذا الخبر يوجب على من أكل أو شرب متعمدا الاستغفار وسقوط الكفارة (2).

ثالثا: وأما قياس الأكل والشرب على الجماع فيجاب عنه من وجهين:

الأول: أن الأصل براءة الذمة من هذه الكفارة، والحديث إنما يوجبها في الجِماع فإلحاق غيره به يحتاج إلى دليل، والقياس فيها ليس بالبين؛ لجواز أن يكون الجماع قد تضمن وصفا فارق به غيره، فما لم يقم دليل على أن المُوجِب للكفارة مجرد الفطر؛ لم يجز الإيجاب بمجرد الظن (3).

الثاني: أنه لو وَجَبت الكفارة لأجل الإفطار؛ لاستوى فيه جميع المفطرات، وأما تخصيص بعضها دون بعض فهو نوع تشريع يحتاج إلى دلالة الشرع (4). والله أعلم.

(1) ينظر: المجموع 6/ 330، السنن الكبرى للبيهقي 4/ 386.

(2)

ينظر: الحاوي الكبير 3/ 435.

(3)

ينظر: شرح عمدة الفقه كتاب الصيام 1/ 280.

(4)

ينظر: المصدر السابق 1/ 280. وينظر: الحاوي الكبير 3/ 435.

ص: 385

المطلب الخامس: هل تجري الخِصال (1) الثلاثة في كفارة الجماع في رمضان أو هو الإطعام فقط؟ .

اختيار الشيخ: اختار جريان الخصال الثلاثة في كفارة الجِماع في رمضان، فقال:"وفي الحديث دليل على جريان الخصال الثلاث المذكورة في الكفارة"(2).

تحرير محل الخلاف: مرّ معنا (3) في المسائل السابقة حديث الأعرابي الذي جامع في يوم رمضان، وأن النبي أمره بالكفارة، وهي خصال ثلاث: عتق، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكينا.

وقد ظنَّ بعض أهل العلم أن الإمام مالك لا يرى جريان الخصال الثلاثة في كفارة الجماع، ولا يرى إلا الإطعام فقط، وذلك لما ذكره ابن القاسم عن مالك في المدونة.

حيث قال -جوابا عن سؤال سحنون (4) -: "قلت: وكيف الكفارة في قول مالك؟ فقال: الطعام، لا يعرف غير الطعام، ولا يأخذ مالك بالعتق ولا بالصيام"(5).

والحق أن الإمام مالك يرى جواز الخصال الثلاثة، كغيره من العلماء.

قال أبو الحسن الرَّجْراجي (6): "فتغالى بعض المتأخرين في تأويل هذه المسألة على ظاهر لفظه (7) حتى قال: إن مالكا لا يرى غير الطعام. وهذا لا يحل تأويله عليه؛ لأنه خرق الإجماع؛ إذ لم يقل بذلك أحد"(8).

(1) الخِصال جَمْع خَصْلَة: وهي حالات الأُمور. ينظر: تاج العروس 28/ 410.

(2)

مرعاة المفاتيح 6/ 500. أي في حديث أبي هريرة الآتي صفحة (388).

(3)

صفحة (363).

(4)

هو: عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي الحمصي، أبو سعيد القيرواني الفقيه، وسحنون لقبه، انتهت إليه رياسة المالكية في المغرب، ولم يلاق مالكًا وإنما أخذ عن أئمة أصحابه: كابن القاسم، وأشهب، روى عنه خلق منهم: ابنه محمَّد، ومحمد بن عبدوس، توفي سنة 240 هـ، من مصنفاته: المدونة جمع فيها فقه مالك. ينظر: شجرة النور الزكية 1/ 103؛ والديباج 2/ 30؛ وفيات الأعيان 3/ 180.

(5)

المدونة 1/ 284.

(6)

هو: أبو الحسن علي بن سعيد الرجراجي، الشيخ الإِمام الفقيه الحافظ، لقي بالمشرق جماعة من أهل العلم منهم: الفرموسِ الجزولي، وأخذ عنه كثير من أهل المشرق، صاحب مناهج التحصيل في شرح المدونة، توفي بعد 633 هـ. ينظر: نيل الابتهاج ص 316.

(7)

أي: قول ابن القاسم عن مالك: "لا يعرف غير الطعام".

(8)

مناهج التحصيل 2/ 147.

ص: 386

وقال القاضي عياض: "وذهب مالك وأصحابه إلى التخيير في ذلك، إلا أنه استحب الإطعام، وعلى هذا نتأول قوله في المدونة، خلاف من ذهب إلى غير هذا في تأويله، وهو المنصوص له في غيرها"(1).

ولكن مبنى هذه المسألة على مسألة جواز التخيير أو وجوب الترتيب في الخصال الثلاثة، التي ستأتي معنا (2) بعد هذه المسألة إن شاء الله. فلما كان الإمام مالك رحمه الله يقول بجواز التخيير في الخصال الثلاثة، وترجح عنده الإطعام لاعتبارات رآها، قَدَّمه على غيره.

وقد جاء ذلك صريحا عنه؛ فقد قال في المدونة: "قلت (أي سحنون): أرأيتَ ما كان من كفّارة في الإفطار في رمضان، لِم لا يحمله مالك مَحمَل كفارة الظهار، وإنما هو مثله عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا؟ . قال (أي ابن القاسم): وقال مالك: إنما مَحْمَل ذلك مَحْمَل كفّارة الأَيْمان، ولا يُحمَل مَحْمَل كفارة الظهار، ولم يكن يرى مالك أن يُكَفِّر من أَكَل في رمضان إلا بإطعامٍ، ويقول هو أَحَبُّ إلي من العتق والصيام"(3).

فهذا النص صريح في أن الإمام مالك رحمه الله كان يرى جواز التخيير في الخصال الثلاثة، وأنه كان يحملها محمل كفارة الأيمان التي هي على التخيير، لا محمل كفارة الظهار التي هي على الترتيب، وأن الإطعام هو الأحب إليه، مع جواز العتق والصيام عنده (4).

وبهذا تتحرر المسألة فيكون الخلاف فيها: هل يقدم الإطعام على غيره في كفارة الجماع في شهر رمضان؟ ، والخلاف فيها على قولين:

القول الأول: يقدم الإطعام على غيره في كفارة الجماع في شهر رمضان.

وهو قول: الإمام مالك (5).

(1) إكمال المعلم 4/ 57.

(2)

صفحة (390).

(3)

المدونة 2/ 323 - 324.

(4)

وقد وضح ذلك غير واحد من أئمة المالكية. ينظر: المعونة ص 478، وإكمال المعلم 4/ 57، ومناهج التحصيل 2/ 147.

(5)

المدونة 2/ 323 - 324، الرسالة ص 61، الكافي 1/ 342، المعونة ص 478. واستحباب: تقديم الإطعام مطلقا على غيره هو المشهور من المذهب نص عليه غير واحد، وذُكر في المذهب أقوال أخرى. ينظر: التوضيح لخليل 2/ 440، شرح ابن ناجي التنوخي على الرسالة 1/ 288.

ص: 387

القول الثاني: لا يقدم الإطعام على غيره من الخصال في كفارة الجماع في شهر رمضان (1).

وبه قال: الحنفية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4)، والظاهرية (5)، وهو اختيار الشيخ.

سبب الخلاف: والسبب في اختلافهم -والله أعلم-: هو معارضة القياس للأثر؛ وذلك أن الأثر ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقديم العتق وتأخير الإطعام، والمقصود بالقياس الذي خالف الأثر؛ هو أن الإطعام قد وقع بدلا من الصيام في مواضع شتى من الشرع، وأنه مناسب له أكثر من غيره (6).

أدلة القول الأول: القائلين بتقديم الإطعام على غيره في كفارة الجماع في شهر رمضان.

الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا أفطر في رمضان، أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين، أو يطعم ستين مسكينا» (7).

وجه الاستدلال: أن الحديث جاء على التخيير؛ إذ موضوعية (أو) في كلام العرب للتخيير في غالب الاستعمال (8).

وإذا جاز تقديم الإطعام على غيره بهذا الحديث، فإن الدليل الثاني يبين أفضلية الإطعام على غيره.

الدليل الثاني: عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت:«جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: احترقت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم» قال: وطئت امرأتي في رمضان نهارا، قال:«تصدق، تصدق» قال:

(1) وهذا القول له اتجاهين: الأول: من رأى وجوب الترتيب، فيكون تأخير الإطعام عنده واجبا. والثاني: من رأى جواز التخيير، ولكن قدم العتق استحبابا متابعة لما جاء في الحديث. وستأتي معنا هذه المسألة إن شاء الله صفحة (390).

(2)

المبسوط 3/ 71، بدائع الصنائع 5/ 96، البناية 4/ 62، تبيين الحقائق 1/ 328.

(3)

مختصر المزني 8/ 153، الحاوي الكبير 3/ 432، المجموع 6/ 345، العزيز 3/ 234.

(4)

الهداية ص 160، الكافي 1/ 447، المغني 3/ 140، الإنصاف 3/ 322.

(5)

المحلى 4/ 328.

(6)

ينظر: مناهج التحصيل 2/ 147 - 148.

(7)

سبق تخريجه صفحة (379).

(8)

ينظر: مناهج التحصيل 2/ 146، وينظر: المعونة ص 478، والمغني 3/ 140.

ص: 388

ما عندي شيء، فأمره أن يجلس، فجاءه عَرَقان فيهما طعام، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتصدق به» (1).

وجه الاستدلال: أن في هذا الحديث بيان اختيار الإطعام وتقديمه على غيره (2).

الدليل الثالث: ولأن الإطعام أعم نفعا من العتق والصيام: لأن العتق يَخُصُّ المُعَيَّن، والصيام لا منفعة فيه لغير الصائم، أما الإطعام فإنه يُسقِط الفرض، ويَعُمّ نفعه جماعة المساكين (3).

الدليل الرابع: تقديم القياس الذي تشهد له الأصول على الأثر الذي لم تشهد له الأصول؛ وذلك أن الإطعام قد وقع بدلا من الصيام في مواضع شتى من الشرع، وأنه مناسب له أكثر من غيره (4). وبيان ذلك في ما يلي:

أولا: أن الله تعالى قد ذكر الإطعام في القرآن رخصة للقادر في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (5)، ونَسخُ هذا الحكم لا يلزم منه نسخ الفضيلة بالذِكْر والتَعيين للإطعام؛ وذلك لاختيار الله تعالى له في حق المُفطر (6).

ثانيا: بقاء حكمه في حق المفطر للعذر: كالكِبَر والحمل والإرضاع (7).

ثالثا: جريان حكمه في حق من أَخَّر قضاء رمضان حتى دخل رمضان ثان (8).

رابعا: مناسبة إيجاب الإطعام لجبر فوات الصوم الذي هو: إمساك عن الطعام والشراب (9).

أدلة القول الثاني: القائلين بأنه لا يقدم الإطعام على غيره من الخصال في كفارة الجماع في شهر رمضان.

(1) رواه بهذا اللفظ مسلم 2/ 783، برقم 1112، في الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم، ووجوب الكفارة الكبرى فيه وبيانها، وأنها تجب على الموسر والمعسر.

(2)

ينظر: التمهيد 7/ 164.

(3)

ينظر: المعونة ص 478، وإكمال المعلم 4/ 58، والتاج والإكليل 3/ 363.

(4)

ينظر: مناهج التحصيل 2/ 148.

(5)

سورة البقرة: آية: 184.

(6)

ينظر: إكمال المعلم 4/ 57، ومناهج التحصيل 2/ 148، إحكام الأحكام 2/ 14.

(7)

ينظر: المصادر السابقة.

(8)

ينظر: المصادر السابقة.

(9)

ينظر: المصادر السابقة.

ص: 389

الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، هلكت! قال:«ما لك؟ » . قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تجد رقبة تعتقها؟ » . قال: لا. قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ » . قال: لا. قال: «فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ » . قال: لا. قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك أُتِي النبي صلى الله عليه وسلم بعَرَق فيها تمر، قال:«أين السائل؟ » . فقال: أنا. قال: «خذ هذا فتصدق به» . فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال:«أطعمه أهلك» (1).

وجه الاستدلال: أن نص الحديث ظاهر في وجوب الكفارة مرتبة (2)؛ لأن النبي أمر الأعرابي بالعتق، ثم رتب الصيام بالفاء على فقد العتق، ثم رتب الإطعام على العجز عن الصيام (3). وعليه فلا وجه لتقديم الطعام على العتق.

الدليل الثاني: وعلى رواية التخيير التي اعتمدها المالكية، فإن الأصل يقتضي متابعة ما تابعه النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان ذلك تخييرا، ولكن تبدئة النبي صلى الله عليه وسلم بالعتق وختمه بالطعام لا يخلو من فائدة (4).

الراجح: الذي يترجح والله أعلم هو القول الثاني: أنه لا يقدم الإطعام على غيره من الخصال في كفارة الجماع في شهر رمضان؛ على ما سيتبين -إن شاء الله- من ترجيح في المسألة التالية: من وجوب ترتيب خصال الكفارة فلا وجه لتقديم الإطعام على العتق والصيام.

وأما استدلال أصحاب القول الأول بحديث عائشة رضي الله عنها فيجاب عنه من وجهين:

الوجه الأول: أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي مر معنى في أدلة القول الثاني زاد فيه: «العتق والصيام» ، والأخذ به أولى؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه حَفِظَ ذلك ولم تَحفظْه عائشة رضي الله عنها (5).

الوجه الثاني: أن عائشة رضي الله عنها حكت ما استقر عليه الحال، وهو أمره بالصدقة؛ فإنه كان عند العجز عن العتق والصيام (6).

(1) سبق تخريجه صفحة (363).

(2)

ينظر: تبيين الحقائق 1/ 328.

(3)

ينظر: تحفة الأبرار للبيضاوي 1/ 498، شرح المشكاه للطيبي 5/ 1592، وفتح الباري 4/ 167.

(4)

ينظر: مناهج التحصيل 2/ 148.

(5)

ينظر: عمدة القاري 11/ 26، ونخب الأفكار 8/ 313، والتوضيح لابن الملقن 13/ 257.

(6)

ينظر: شرح عمدة الفقه كتاب الصيام 1/ 295، عمدة القاري 11/ 26.

ص: 390

وعلى القول بجواز التخيير بين الخصال الثلاثة فلا وجه أيضا لتقديم الإطعام.

قال ابن دقيق العيد (1) -بعد أن ذكر وجوه تقديم المالكية الإطعام على غيره من خصال الكفارة-: "وهذه الوجوه لا تقاوم ما دل عليه الحديث من البداءة بالعتق، ثم بالصوم، ثم بالإطعام. فإن هذه البداءة إن لم تقتض وجوب الترتيب فلا أقل من أن تقتضي استحبابه"(2). والله أعلم.

(1) هو: تقي الدين محمد بن علي بن وهب بن مطيع، أبو الفتح القشيري القوصي، المعروف كأبيه وجده بابن دقيق العيد، من أكابر العلماء بالأصول، ولي قضاء الديار المصرية فاستمر إلى أن توفي سنة 702 هـ، من تصانيفه: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، الإلمام بأحاديث الأحكام، الاقتراح في بيان الاصطلاح. ينظر: طبقات الشافعية 6/ 2، البدر الطالع ص 782، الأعلام 6/ 283.

(2)

إحكام الأحكام 2/ 15.

ص: 391